رواية “الفقراء” لدوستوفيسكي.. كيف حكت عن معاناة الإنسان في غزة؟

تم النشر: 2024/05/04 الساعة 10:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/05/04 الساعة 10:02 بتوقيت غرينتش

نقل لنا فيودور دوستويفسكي عبر شخصياته الرئيسية في رواية الفقراء، مشاعر الحزن والقلق والألم والمعاناة في الرسائل المتبادلة بين أبطال الرواية. واتخذ من آلام شخصياته في هذا العمل الأدبي الفذ موضوعاً اجتماعياً نسج منه تراجيديا إنسانية. ومنذ اللحظة الأولى في الزمن الروائي ينسجم القارئ مع شخصية ماكار أليكسفيتش، ذلك المسن الذي علمته تجارب الحياة، حتى أصبح إنساناً ينبض قلبه بالإنسانية ويتأمل في العالم المحيط به ويتساءل بذكاء عن أسباب معاناة المجتمع الإنساني حوله.

المكان من وجهة نظر ماكار أليكسيفيتش موحش. والدافع الوحيد للبقاء فيه، هو قربه من فارينكا تلك الفتاة الشابة الجميلة والبائسة. ومن رسائل ماكار يتعرف القارئ على شخصية فارينكا لتبدأ معاناتها وقسوة الحياة معها وهنا تتحدث فارينكا عن ذاتها، فهي تعيش بقلب متدين وبعقيدة مسيحية أرثوذكسية تخبر بها القارئ في أول رسالة وأول هدية مقدمة إليها من ماكار. الهدية كانت باقة من الزهر الملون وضعتها بأصيصة بقرب نافذتها. ليشعر القارئ بأن كل أيام فارينكا قبل ماكار سوداوية.

شخصية ماكار تعاني من اضطرابات نفسية حادة وتلك الاضطرابات كانت كافية لعزلته الشديدة عن المجتمع. بالإضافة إلى أن الوسواس القهري الذي أصابه زاد من عزلته وابتعاده عن المجتمع. ويضاف إلى ذلك أن ماكار شخص غير متدين ولديه قيم أخلاقية ونزعة إنسانية يؤمن بها، ومن حيث فلسفته السياسية فهو ملتزم بالمبادئ الاشتراكية وعلى هذا المبدأ يتفاعل مع محيطه. ولديه موقف من النظام البرجوازي ومناضل لطبقة العمال وبشكل عام يتخذ موقفاً إنسانياً تجاه كل الطبقات المقموعة.

فارينكا شابة متدينة. توفي والدها وهي لم تتجاوز الرابعة من عمرها وانتقلت من قريتها إلى بطرسبرغ وهي في الثانية عشرة. عاشت طفولة قاسية وانتقالها من القرية إلى المدينة ولّد لديها مشاعر حزينة، وقد تعرفت في بيت آنّا على بروكفسكي الذي أثر فيها وجعلها فتاة متعلمة وتحب القراءة، ومن خلال كتابة رسائلها وتحليلاتها يفهم القارئ فلسفتها تجاه الوجود والإنسان. وتربطها بماكار علاقة روحية عميقة والشخص الوحيد الذي وقف إلى جانبها وساعدها عاطفياً ومادياً هو ماكار أليكسيفيتش.

هذه لمحة عامة عن شخصيات دوستوفيسكي الرئيسية في هذه الرواية. ولن أتوقف عند الشخصيات الثانوية التي أوجدها دوستوفيسكي لأغراض جمالية وفنية وأخرى رمزية كشخصية زاتارايف الأديب الذي يعكس شخصية المؤلف الحقيقية ومدى إعجابه بالشاعر بوشكين الذي تحدث عنه من خلال شخصية فارينكا طوال الرواية عندما قررت إهداء بروكفسكي الأعمال الكاملة لبوشكين في يوم ميلاده. حتى شخصية الفلاح مالدوني وتيريزا كانتا ترمزان إلى النظام الإقطاعي في روسيا وقتذاك.

في الدراسات النقدية الأدبية الحديثة يوجد خلاف حول تفسير النصوص الأدبية ومن ذلك الخلاف تعددت وجهات النظر وبرزت اتجاهات مختلفة وتيارات متعددة، فهناك نظرية الفن للفن التي تطالب بقراءة النصوص الأدبية من منظور ليبرالي، وبهذا يصبح المؤلف حراً في إنتاج نصوصه بالطريقة التي تناسبه، وتعود مهمة القارئ أو الناقد في فهم العمل الأدبي بسياق فني لا أكثر. وانطلاقاً من هذه الرؤية تؤكد البنيوية على موت المؤلف بلغة رولان بارت، وبهذا تنشأ سلطة القارئ على النص.

ويمكن قراءة الأعمال الأدبية بنظريات مختلفة، إذ يساعد ذلك على فتح آفاق متعددة أمام القارئ ليفهم النص بأدوات مختلفة، حتى النظرية النقدية الكلاسيكية في الأدب والتي بموجبها تتم دراسة حياة المؤلف والبيئة الجغرافية والحقبة التاريخية التي عاش فيها، معتبرة إلى حد ما حيث تعتبر هذه العناصر الخارجية بأنها عناصر تؤثر في نفسية الكاتب أثناء الكتابة وإنتاج النص، لذا يجب البحث حول شخصية المؤلف وهذا ما لا تقبله البنيوية وما بعد البنيوية عموماً؛ لأن النص مليء بالمجاز اللغوي والاستعارات والعلامات السيميائية، وهنا تنشأ إشكالية الدال كونها عنصراً مادياً مختلفاً عن الدلالة الرمزية في ذهن القارئ.

وبالجملة أثناء قراءتي لـ"الفقراء" لم أتقيد بنظرية واحدة بل حاولت قراءة النص بجميع وجهات النظر بهدف الوصول إلى قراءة شاملة تساعد على استنتاج رأي نقدي، لذا لم أتقيد بنظرية دون غيرها ولم أتبنَّ أطروحات البنيويين ومشاكلهم المثارة حول اللغة والكتابة والنصوص، حيث يرجع أسباب الخلاف إلى مفهوم الحداثة وتطورها التاريخي وبروز تيار ما بعد الحداثة كرد فعل تجاه مشروع التنوير الذي سبق الحداثة، وهذا موضوع آخر لسنا نناقشه في هذا المقال وبالتأكيد هناك اختلاف جوهري.

أبطال دوستوفيسكي في هذا العمل الأدبي لا يمكن اعتبارهم شخصيات وجودية بالمعنى الفلسفي للمصطلح. كما أن دوستوفيسكي لم يناقش في هذا العمل المفاهيم الوجودية الكحرية والمسؤولية والالتزام ولم يطرح القضايا الميتافيزيقية التي اهتم بها الفلاسفة الوجوديون كإشكالية الزمان والمكان لدى الفلاسفة الوجوديين حتى الموت لم يتعامل معه انطلاقاً من الفلسفة الوجودية، كما أن الإشكاليات المتعلقة بالأنطلوجيا لم يتم التطرق لها وهنا نؤكد أن ماكار وفارينكا لا يبحثان عن وجودهما.

هناك قلق يساور ماكار في رسائله وخلف ذلك القلق يوجد الكثير من التوتر النفسي وغياب الأسلوب العقلي الذي يبحث عن مشاكل الوجود والإنسان، وكأن ماكار في رسائله يخاطب ذاته ويركز على تفاصيل يومه ومع ذلك القلق تُشرق فلسفة كيركجارد وتجلياته حول الذات ومع تلك التجليات تحلق روح نيتشه بعدميتها على سلوك ماكار محاولاً إبعاد ذاته عن القطيع. وهنا نسمع صوت دوستوفيسكي وهو يخاطبنا بلسان فارينكا التي تؤكد على دفاعها عن حريتها وكأنها تتحدث باسم سارتر.

هذا أول عمل روائي لدوستويفيسكي ومنه بدأ مشروعه الفلسفي الأدبي الذي تطور إلى (مذلون مهانون) و(رسائل من تحت الأرض) لا يمكن اعتبار هذا العمل وجودياً بالكامل نظراً لغياب الكثير من المسائل التي ناقشها الفلاسفة الوجوديين قبله أو بعده، وبهذا يمكن القول إن العمل أدبي وفني لا وجودي ويضاف إلى ذلك المفهوم العام للإنسان لدى دوستوفيسكي دون مناقشة مصير الإنسان وإشكالية وجوده والعلاقة بينه وبين العالم المحيط به، لذا يمكن القول بأن فارفارا ليست وجودية أبداً.

وقبل أن ألقي القلم من يدي أود التأكيد على نقطة مفادها أن دوستويفسكي يعتبر أديب ذائع الصيت في الأدب العالمي وتحدث في أعماله عن الإنسان وناقش موضوع الفقر في روايته التي بين أيدينا وهو متأثر بنجوم الأدب في الغربي ومعجب بشكسبير وبلزاك وهوميروس والقائمة تطول وإن كان الغرب في زمن الحداثة قد ارتكز على الإنسان والعلم والتقدم فإننا في هذا القرن قد شاهدنا جرائم ضد الإنسانية ارتكبتها المنظومة الغربية وهنا نتعاطف مع غزة ومجازرها وتلك هي قيمة الأدب الحقيقية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

إدة جعفر مولاي الزين
كاتب وصحفي موريتاني
تحميل المزيد