فيلم أيام مثالية.. هل يمكن حقاً أن نعيش حياة بسيطة وسعيدة؟!

عربي بوست
تم النشر: 2024/04/23 الساعة 16:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/04/23 الساعة 16:36 بتوقيت غرينتش
طوكيو (صورة تعبيرية) - shutterstock

يعد فيلم "أيام مثالية" (Perfect Days)، الذي تم إصداره في عام 2023، قطعة سينمائية مؤثره تتعمق في جوهر الرضا البشري والبحث عن المعنى في عصر شديد الاستهلاك. يتنقل الفيلم عبر حياة بطله، ويقدم رواية هادئة وعميقة تشير إلى أن الرضا الحقيقي قد ينبع في الواقع من البساطة والسلام الداخلي، بدلاً من المطاردة الشاملة للعظمة والتراكم الرأسمالي.

فيلم "أيام مثالية" ينسج حكاية هادئة ومتأملة في قالب بديع، تتبع الحياة اليومية لـ"هيراياما"، الرجل الذي يختار العيش في عزلة، مكرساً وقته لتنظيف وصيانة الحمامات العامة في شيبويا. تقدم هذه الرؤية المتأنية للحياة دعوة ناعمة لاحتضان البساطة والسكينة، موقظةً في الجمهور الحنين إلى الأيام الأكثر هدوءاً وتفاعلاً مع الجوهر، بعيداً عن تعقيدات العصر.

يظهر الفيلم كرد فعل ضد جنون الحياة العصرية والسعي الدؤوب نحو كل جديد، حيث يغرق الكثيرون في مهاترات يومية لإشباع رغبات لا تنتهي، في حين يعيش "هيراياما" بطريقة تفاعلية وهادئة، يبدأ يومه بالاعتناء بنباتاته وينتهي بروتين يومي يتسم بالبساطة وعدم التكلفة.

الفيلم يسلط الضوء على كيفية أن الأنشطة الروتينية والبسيطة يمكن أن تكون مفعمة بالحياة والمعنى. يتكرر في حياة "هيراياما" الروتين اليومي، لكن كل يوم يحمل في طياته جمالاً لا يُستهان به. لا يعيش "هيراياما" ليستهلك أو يتبع الموضات الجديدة، بل يستمتع بكتب مستعملة وأشرطة كاسيت من أيام شبابه، ويواصل التقاط الصور بكاميرا تقليدية قديمة.

يتحدى فيلم "أيام مثالية"، بأسلوبه المتقن ورؤيته العميقة، المصطلحات والتعريفات السائدة عن الحياة والسعادة التي تزخر بها منصات التواصل الاجتماعي وميكروفونات البودكاست التي تعطي نصائح من الجميع للجميع عن سبل السعادة، إذ يقدم الفيلم بطريقة السهل الممتنع ملاذاً آمناً يعيد تعريف معنى العيش برضا واقعي ومتزن.

ففي عالمنا، بلغت النزعة الاستهلاكية أوجها، حيث يغلب على الاعتقاد أن الإنجازات الشخصية والممتلكات المادية هي المقاييس الرئيسية للنجاح. وقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز هذه الجوانب بشكل ملحوظ، ما أفرز بيئة رقمية يُشجَّع فيها الأفراد دوماً على إبراز اللمحات الأكثر إشراقاً في حيواتهم، ما يعزز بدوره ثقافة التنافسية الذاتية.

تاريخياً، كانت المجتمعات تُقدّر الانسجام الجماعي وتصبو إلى الصالح العام، لكن الانتقال المعاصر نحو تعظيم الذات وتراكم الممتلكات يشير إلى تحول جذري. يعكس هذا التغير أبعاداً اقتصادية وثقافية أكبر تُعزز الهويات التي يحركها السوق الاستهلاكية المفرطة.

فيلم أيام مثالية.. التأرجح بين الحزن والسعادة

يقدم الفيلسوف الألماني ذو الأصول الكورية بيونج شول هان نقداً عميقاً لمجتمعنا المعاصر في كتابه "السياسة النفسية.. النيو ليبرالية والتقنيات الجديدة للقوة". يصور هان مجتمعنا بأنه "مجتمع الإنجاز"، حيث تُمارس السيطرة والاستعباد ليس من الخارج، بل من الداخل. لم تعد الهياكل الانضباطية تحتاج إلى فرض السيطرة بالأوامر التقييدية مثل "لا تستطيع" أو "ممنوع"، بل أصبحت الذات نفسها تُفرض علينا بأوامر أكثر فاعلية مثل "تستطيع" و"لا يوجد مستحيل". وتحل المؤسسات الإرشادية مثل صالات الرياضة والمكاتب الأنيقة والمصارف والمطارات وعيادات الصحة النفسية محل السجون والمؤسسات القمعية.

وعلى الرغم من أن هذا المناخ يظهر وكأنه يحمل وعوداً بالتغيير والتحرر من القيود، فإنه في الحقيقة يُعد مجرد نقل لمركز التحكم والسيطرة من الخارج إلى الداخل، فحين يعجز الفرد عن الوفاء بواجب التطوير المستمر للذات والارتقاء بها، تخور قواه وتنطفئ شمعته. حينها يأتي الدمار من داخل الذات، وبذلك يصعد الاكتئاب ليكون سمةً أساسية في المجتمع رغم رفاهية عصرنا.

يقول الروائي الألماني إيرك ماريا ريمارك في روايته (وقت للحب ووقت للموت) على لسانه بطليه، إليزابيث وغريبر: "ماذا نحن حقاً، سعداء أم غير سعداء؟"، ردد غريبر: "الاثنان معاً. وربما هذا ما يجب أن يكون عليه الأمر اليوم. السعادة غير المختلطة في عصرنا تخص الأبقار فقط. ولا حتى الأبقار بعد الآن، ربما فقط الحجارة".

ولعل ريمارك كان يرسم هذا الحوار للقول بأن الحياة ليست مسألة سعادة مطلقة، بل هي عبارة عن تقبل للحياة بكل تناقضاتها وتأرجحها بين السعادة والحزن، كما يشهد عليه وجود "هيراياما" في فيلم "أيام مثالية". حيث تشير لنا حياته اليومية البسيطة والمتأنية بخفة إلى قيم الرواقية والروحانية التي تؤكد على الرضا من خلال القبول واليقظة بدلاً من السعي المحموم وراء تحقيق الذات الذي تروج له الحداثة.

تحدى الفيلم السرديات المعاصرة التي تمجد الإنسان الخارق، الذي تدفعنا الرأسمالية للتطلع إلى أن نكون عليه، مقدماً بديلاً يعتمد على البساطة والجمال الذي يجده "هيراياما" في كل بساطتنا اليومية كرعاية نباتاتنا، الموسيقى، الكتب، والصور الفوتوغرافية. هذه الأشياء لا تدفعه للهوس أو للإفراط في الاستهلاك، بل تحمل قيمة جوهرية تنعكس في كل تفصيلة من تفاصيل حياته.

الفيلم، من خلال تصويره الفلسفي والروحاني، يؤكد أن الحياة تتأرجح بين السعادة والحزن، وأن الأهم هو الشعور بالرضا والقبول الذي يجعلنا نقدر كل لحظة ونشكر على كل فجر جديد ينبثق. يعيد "أيام مثالية" تعريف تجربتنا الإنسانية، ويقول لنا ربما أن السلام الداخلي يأتي من الاعتراف بالجمال في العادي، والتأمل في الحقائق الصغيرة التي تغني حياتنا اليومية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مظفر حبيبوليف
كاتب وطالب دكتوراة في الأدب من أوزبكستان
تحميل المزيد