هناك مفارقةٌ واضحة لا تكاد تغيب عن الأذهان بين تاريخ المغرب وحاضره، من حيث التوجه الفكري والسياسي، فيما يخص قضايا مناهضة الحركات الكولونيالية والإمبريالية. بعد سنوات مديدة من النضال المسلح الذي نظَّمه المغاربة الأحرار من أجل استعادة حقهم كشعب محتل في تقرير مصيره، وتحديد نوع الحكم الذي يريده، أصبحت المقاومة المسلحة فكرةً مجردةً من مشروعيتها في سياسة الحكومات العربية، وفي قرارات رجال الدولة حيالها. هذا التشكيك في مشروعية المقاومة فكرة مستجدة، حاول الاحتلال الإسرائيلي زرعَها في الوعي الجمعي للشعوب العربية بما فيها الشعب المغربي، دون أن يحصد النتيجة التي كان يتوقعها، فقد شهد العالم بأسره كيف دافع المغاربة على اختلاف انتماءاتهم السياسية والأيديولوجية عن المقاومة في غزة خلال المسيرات المليونية التي احتضنتها المدن الكبرى في المملكة.
يبدو لنا اليوم أن قرار التطبيع مع الاحتلال قد جاء إما نتيجة ضغوطات سياسية، أو أنه تمخض عن تغيّر جذري لتصور الدولة المغربية لمستقبل الشرق الأوسط، وهو تصور يتضمن سلماً لا مشروطاً مع محور الإمبريالية على حساب تاريخ الدولة المنحاز للمقاومة، ولكن ما هو صحيح ومؤكد هو أن التطبيع لم يكن يوماً نابعاً عن إرادة شعبية كما كان يتصور البعض. رغم كل المجهودات التي بذلتها منظمة الأيباك لتكريس الرواية الإسرائيلية في دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، عبر خلق علاقات وطيدة مع سياسييها ودبلوماسييها، فقد فشلت في مساعيها فشلاً ذريعاً رغم الأموال الطائلة التي خصصتها لذلك. بغض النظر عن الأسباب السياسية والدبلوماسية لهذا القرار فهو يظل خيانةً صريحةً لتاريخ المقاومة المغربية الحافل بانتصارات قد خطّتها دماء الشهداء وأحرار الوطن. ومن يزايدون علينا في الوطنية هم الذين يعرّضون تاريخنا للتسفيه، ويصرون في كل مناسبة على إهانة مَن ضحّوا بالغالي والنفيس من أجل وطن حر.
ما يحدث الآن يمكن أن أعتبره طمساً لدور المقاومة المسلحة في تحرير المغرب من الاحتلال الفرنسي، وهو مسّ مخلّ بتاريخ شعب بأسره، وبذاكرة وطن جريح لا يزال في طور التعافي من مخلفات الاستعمار وآثار نيوكولونيالية قائمة. يعول الاحتلال الإسرائيلي على وهم النسيان أو التناسي لتاريخ غير بعيد لمغربٍ مناهض للاحتلال. يخاف الإسرائيليون والمستوطنون اليهود ذوو الأصول المغربية من أن يستفيق الشعب من سباته على انتهاك إرثه الوطني المناهض للاستعمار، أو أن يتنامى شعور الوحدة والتآزر مع الشعب الفلسطيني وقضيته، بناءً على معرفة حقة وإلمام بتاريخ المقاومة المسلحة المغربية، التي صبّت غضبَها الثوري على كل عنصر مُمَكِّنٍ أو داعم للمشروع الكولونيالي الفرنسي، بما في ذلك المستوطن الذي لم يكن إلا امتداداً للمشروع الاستيطاني، الذي يحمل وجوده على أرض محتلة معاني سياسية يستحيل تجاوزها أو غض النظر عنها.
إن التخبط الذي تعيشه قلة قليلة من المتخاذلين الذين اختاروا صمتاً متحيزاً للاحتلال، وهم الذين لا علم لهم بتاريخ المقاومة المسلحة في المغرب، فهم يدّعون أن المصلحة الوطنية أهم من نصرة الشعب الفلسطيني في كفاحه ضد أيديولوجية توسعية وكيان محتل غاصب، ويكيلون بقولهم هذا إهانةً صريحةً لذاكرة المقاومة الوطنية، يدعونا لأن نذكَّر أنفسنا في كل حين بانتصارات المقاومة المسلحة في المغرب، والتي قامت بتنظيم آلاف من العمليات المسلحة، منذ نفي السلطان مولاي يوسف عن عرشه وشعبه، ومحاولة تنصيب ابن عرفة سلطاناً على المغرب. أدت الخسائر التي تكبدها المحتل الفرنسي إلى الإطاحة بفكرة استمرارية الاحتلال قبل أن تطيح بالاحتلال نفسه، وهو ما نراه اليوم يحدث على ساحة معركة طوفان الأقصى، فقد هوت فكرة "إسرائيل" إلى ما بعد اللاعودة.
أما دورنا كشعب بتاريخه وذاكرته المقاومة، فهو أن نسعى إلى إسقاط التطبيع بجميع أشكاله، وهو أضعف الإيمان مقارنةً بما قام به أسلافُنا؛ إذ حملوا السلاح وأحبطوا مشاريع استيطانية عديدة.
إن من ينتقد دعوة المقاومة لاستنهاض شعوبنا جاهل بتاريخنا، غارق في وهم أن المستعمر قد انسحب من أراضينا بكامل إرادته في حين أن استقلالنا نصر لا يحسب إلا لنار السلاح وعزيمة المقاومين.
لسنا بحاجة لأن نتخيل أو نتساءل عن موقف المقاومين المغاربة من القضية الفلسطينية، فهم قد أكدوا نصرتهم للشعب الفلسطيني في دفاعه المسلح عن أرضه، فلطالما كانت فلسطين جزءاً لا يتجزأ من وعي قادة المقاومة ومؤسسي الأحزاب المغربية التي رأت النور بعد الاستقلال.
كيف لنا إذن كمغاربة وطنيين أن نحيد عن القضية التي دفعت بنا دفعاً نحو المقاومة، أو أن ندير ظهرنا لتعاليم ثوار وطننا؟ كيف يمكننا أن ننسى قصائد علال الفاسي في حب القدس وفلسطين؟ وكيف لأي مغربي حر أن يتنكر لتاريخه وهويته مقابل كذبة السّلام مع الاحتلال الإسرائيلي؟ كما لم يرضَ أجدادنا بتقسيم الأرض أو حفظ مصالح المستعمر مقابل شيء من الحرية، فمن واجبنا أن نساند الشعب الفلسطيني لينتزع حقه ويحرر أرضه، لنكون بذلك أوفياء لوطنيتنا، فالوطنية بمعناها الخام هي قيمة موجبة للعدالة ومُحقّة للحق. يُخوّل لي واجبي الأخلاقي كوني حفيدة مقاوم من قدماء المحاربين الذين حملوا السلاح، وتحملوا تنكيل الاستعمار بهم، أن أكون من أنصار المقاومة في غزة والضفة وفي الداخل المحتل، وأن أحارب بكلمة الحق مساعي الاحتلال الإسرائيلي للتطبيع، وهو أقل ما يمكن للمرء بذله دفاعاً عن قضية الشرفاء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.