ما هو واقع الأحزاب والحركات الإسلامية في الجزائر؟

تم النشر: 2023/02/06 الساعة 14:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/02/06 الساعة 14:17 بتوقيت غرينتش
Protestors hold Algerian flags as they attend a demonstration against President Abdelaziz Bouteflika on the Place de la Republique, in Paris, France, March 10, 2019. REUTERS/Philippe Wojazer

بعد الاستقلال الوطني كانت الحركة الإسلامية في طور التشكيل والتجهيز، وقتها خرجت الجزائر من عهد الاستعمار، وباشرت  استقلالها واسترجعت سيادتها بتضحيات جسام مخضبة بدماء شهداء تجاوز عددهم خمسة ملايين شهيد من بداية احتلال المستعمر الفرنسي من عام ١٨٣،

لملمت الجزائر نفسها مع ما فيها من جراح ومآسٍ وخراب، وخرجت فرنسا الصليبية الاستعمارية، وأحدثت أضراراً عديدة في كل المستويات، ومن أكبر الأضرار كانت أضراراً على  مستوى هوية المجتمع.

إن نضالات الحركة الوطنية الإصلاحية والاستقلالية عملت طيلة فترة الاستعمار على تثبيت الثوابت الوطنية ليبقى المجتمع الجزائري يتحصن في ثوابته الوطنية من الإسلام والعروبة، وهذا الذي جعله يحرر وطنه  ويجاهد المستعمر.   

مع اندلاع الثورة التحريرية والجهاد عام ١٩٥٤ أصدرت الثورة وثيقتها التاريخية وعبرت عن هوية الثورة في بيانها الخالد المعروف بـ"بيان نوفمبر ١٩٥٤"، لكن هذا البيان في حقيقته لا يفي بغرض تحديد مشروع الدولة الجزائرية وفق رؤية سياسية ومجتمعية محددة، ماعدا أنه بيان هوية وخطوط كبرى لها أو "بيان إطاري".

نعلم أن قوام مشروع أي مجتمع هو الهوية الوطنية والشخصية المجتمعية الجامعة في شكلها الاجتماعي والعقدي والسياسي والتربوي الفلسفي.

عند الاستقلال كانت هناك تيارات أيديولوجية وسياسية بعضها وافد علينا من دول صديقة ساندت الثورة الجزائرية، ومنها دول من المعسكر الشرقي الاشتراكي ولها علاقة قوية باستقلال الجزائر، وحدث وقتها انجذاب سياسي وثوري لها في قضايا ونهج مشروع المجتمع، وصيغة وشكل الدولة والطبيعة السياسية للنظام السياسي للدولة، وتحقق  لها ذلك بالاستحواذ على مقاليد الحكم والسلطة ومفاصلها.

إن الجزائر دولة مستقلة وثورية وقادت أكبر ثورة في القرن العشرين نحو الاستقلال، لكن بعد الاستقلال ورحيل المستعمر الفرنسي بدأ الصراع على السلطة في ساحة الثوار والمجاهدين ومؤسستهم العسكرية، حيث تغلبت الأخيرة على المؤسسة السياسية.

إنه صراع قديم من أيام الثورة التحريرية انطلق مع مؤتمر الصومام  عام ١٩٥٦، حيث كان الاختلاف والتباين في الأولويات بين السياسي والعسكري والخارج والداخل والمفاوضات مع المستعمر في أواخر الثورة والبناء السياسي للدولة الناشئة.

انتهى الصراع إلى فرض الأحادية كمنهجية في تسيير الدولة، واعتماد المنهجية السياسية الاشتراكية، حيث يتم في إطارها تشكيل مشروع هوية المجتمع، رغم استمرار الخلاف والتباين بأشكال مختلفة داخل مؤسسات الدولة والمجتمع.

هذه المرحلة الحاسمة من الاستقلال بدأت تتشكل الحركة الإسلامية في إطارها "الإصلاحي" كامتداد طبيعي، النضال الإصلاحي الذي كانت تقوده "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" رائدة فيه، إلا أنها تعثرت جهودها بوجود الحظر والمنع وحركية إدماج مناضليها في الأطر الرسمية للدولة، وتفتيت تنظيمها من جهة أخرى.

لم يكن لهذه الحركة الإصلاحية رؤية كاملة وواضحة لمشروع مجتمع تقارع به ما تم تحضيره للجزائر من مشاريع أخرى، فظلت تعارض المشاريع الأخرى وتتحفظ عليها دون وجود بديل جاهز تقوم بدمجه بمنهجية سياسية في ملامح وأسس وقواعد جزائر الاستقلال.

لقد فرضت الأحادية في مرحلة الاستقلال ومنعت التعددية السياسية، واعتمد النموذج اليساري الاشتراكي في إدارة الدولة، وبناء مؤسساتها السياسية والثقافية والاجتماعية والتربوية، وفي هذا التوقيت اتضحت المعالم الأولى للحركة الإسلامية الجزائرية من خلال الموروث الإصلاحي والمنتج الفكري والسياسي للحركة الإسلامية في العالم خاصة المشرق العربي، وما كان موجوداً في الفضاء العربي من تجارب الحركة الإسلامية.

اعتمدت الحركة الإسلامية بالجزائر في نضالها البعد العقدي الدعوي، والبعد الأيديولوجي في مواجهة الأيديولوجية اليسارية، وتبنت منطق الفكر الإسلامي في إثبات ضرورة إدماج العنصر الديني في منظومة المجتمع، حيث نشبت معارك ذات أبعاد أيديولوجية وسياسية ودينية واجتماعية وثقافية في ساحات الجامعات والمجتمع وداخل المنظمات المجتمعية.

فكان هناك تيار إسلامي غير منتظم، أو له تنظيم لا يرتقي إلى مستوى التنظيم السياسي لا يستوعب التيار الإسلامي، وفي هذه الوضعية شكّل تهديداً للسلطة والتيار اليساري الذي احتضن الدولة دون غيره، وفي مفاصلها وأركانها وتحالف النظام معه.

مرحلة الصدام مع التيار الإسلامي

لقد حدث صدام بين النظام وملحقاته مع التيار الإسلامي الناشئ كما كان متوقعاً، إلا أن التيار الإسلامي لم تكن له رؤية متكاملة يجسد بها مشروعاً مجتمعياً يُحدث به تدافعاً مع التيار اليساري الذي كان مدعوماً وتساعده الظروف الدولية آنذاك.

بعد مرحلة الصدام وجد التيار الإسلامي نفسه متشكلاً ومؤسساً في  تنظيمات أيديولوجية وفكرية متنوعة وغير حزبية، وتطورت الأوضاع  وجاءت فترة مراجعة الخيارات السياسية مع انتفاضة الشعب فيما يعرف بأحداث أكتوبر سنة 88، ودخلت منظومة الحكم مرحلة لي الأذرع والصدام بين أجنحتها المختلفة.

من هذه المراجعات في ظل تدافع الأجنحة التي تديره الدولة: قضية الانفتاح السياسي بتعديل الدستور عام 1989، وإخراج كل القوى السياسية من السرية إلى العلنية، وجعل كل الأفكار السياسية والتنظيمات الأيديولوجية تتحرك تحت الشمس، ومنها التنظيمات الشيوعية المتطرفة.

من السرية إلى العلنية

تشكلت الحركة الإسلامية في إطار حزبي مع صعوبة الانعتاق من المرحلة السرية وتفكير الجماعة، وما حدث فيها من محاولات تغيير النظام بالحركة المسلحة الجهادية فترة حكم "بويعلي" رحمه الله تعالى عام ١٩٨٢، ومرحلة التدافع الأيديولوجي، وتوزعت الجهود تلقائياً وخرجت الجهود من إطار التيار الإسلامي إلى التعددية الحزبية في التيار نفسه، فلم توجد هناك وحدة سياسية وفكرية بين أطراف التيار الإسلامي.   

يلاحظ على هذا الانتقال السياسي الإسلامي أنه لم يكن مصحوباً بثقافة حزبية، وتكوين حزبي يحمل رؤية سياسية وبرنامجاً سياسياً يعالج مختلف المشكلات التي منها السياسية والاقتصادية والقضايا المجتمعية التي تساهم في إعادة بناء دولة، بل اتجه كل الجهد نحو معارضة النظام إلى درجة المغالبة، وحشد الناس وتجميعهم ضد النظام، مع وجود استياء شعبي عام.

تلقفت الجماهير هذه الأحزاب الإسلامية على أنها  بديل، لأنها الأشد خصومة للنظام، إلا أنها تفتقد إلى الخبرة والتجربة السياسية والقدرة على استيعاب التوازنات الاجتماعية والسياسية الداخلية والقدرة على تأطير الجماهير، فضلاً عن تأطير الغضب واستيعابه من خلال رؤية ومقترحات وحلول.

بالإضافة إلى الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية والمالية شديدة الإلحاح في المجتمع، فظهرت هذه الأحزاب الإسلامية وغيرها في شكل المتسرع المفتوح والشعبوي، وانساق الناس إليها لأنها غير تقليدية وجديدة، ودخلت وقتها ساحة الانتخابات، والحملات الانتخابية بسقف عالٍ، وتصدرت المشهد الانتخابي كقوة غالبة، وحينها بدأت الصعوبات والغياب عن الشمس. 

أسباب غياب الشمس عن الحركة الإسلامية

أولاً: الإسلاميون ما كانوا يملكون مشروعاً مؤسساً للنظام والدولة، كل ما كان لديهم هو قوة الاعتراض على النظام القائم واحتساب أخطائه، فافتقدوا لذلك بحكم أنهم عاشوا سنوات عديدة على هامش السلطة وأطرافها.

ثانياً: دخل الإسلاميون في مشكلات الخيارات ولم يتوحدوا في الخيارات السياسية وأساليب مواجهة النظام القائم، وذلك بسبب التشخيص غير الموضوعي لحالة السلطة والشعب.

ظلوا يترنحون بين المغالبة السياسية بحكم إقبال الجماهير عليهم وارتفاع سقف مطالبهم، وبين خيار المشاركة السياسية بحكم قلة قدراتهم وخبرتهم وانعدام تجربتهم في المجال السياسي والصعوبات الاقتصادية والإدارة والمشاركة، ما يمثل  خياراً يطمئن ولا يستعدي الآخر، بل يشارك النظام القائم ولا يصادمه ولا يعمل على الإلغاء. 

وهناك خيار التأهيل والانعزال عن السياسة والساحة الحزبية والاستعداد بالبعد التكويني والتربوي، وهو خيار لم يكن لديه القدرة والاقتدار على مواجهة الساحة، وحجمه ضئيل.

ثالثاً: هذا التنوع في خيارات السياسية شكل أرضية للتسابق والتنافس والخلاف والصدام، ولم يعرف طريقه للحسم، وظل الاختلاف والتباين مفتوحاً إلى اليوم، فاستنزفت الخلافات السياسية ومشكلات الخيارات جهود الحركة الإسلامية.

ما جعلها في تجاذب دائم ومستمر تحت عناوين متنوعة مع السلطة، وأدخلتهم السلطة في مدار التقطير والتحوير، وشكلت فيهم محاور سياسية، وتحولت خلافاتهم البينية في مسار النفور الجماهيري والتباعد الشعبي من خلال عمليات الاستقطاب السيئة عن الحركة الإسلامية. 

رابعاً: دخول الإسلاميين معترك التعددية الحزبية، ما جعلهم يفتقدون الانسجام بين طرحهم الفكري الدعوي السابق ومتطلبات الساحة السياسية والجماهير في شكله الحزبي، فكان سيرهم مختلاً، وأفرزت الساحة السياسية الشعبية لهم جملة من الإشكالات.

ظلت هذه الإشكالات نقاط إحراج وخلل لم تستوعب مع الوقت، ومنها السياسي والحزبي والسري والعلني والدعوي والسياسي والتربوي، والحزب والتنظيم ومفهوم الجماعة والدولة والدعوة وقضية الشمولية الدعوية والفكرية والنظرية والوظيفة السياسية في الحزب. 

بين النضال السياسي المفتوح والانتظام الأيديولوجي 

الانتخابات المتكررة مع مرور السنوات رفعت الحركة الإسلامية إلى موضع المسؤولية في إدارة الشأن العام من المؤسسات الدستورية المختلفة، حتى الحكومة، فكانت المعاينة والمتابعة والحكم على قدرات الإسلاميين وكفاءتهم في مواجهة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والتنموية وإدارة الشأن العام.

فأدركت الجماهير أنها أمام جهد بشري واقعي قابل للقياس والتقييم، فضلاً عن المعوقات ومدارات المقاومة داخل مفاصل الدولة لهم، وحركية التزوير التي انتقلت من المفضوح إلى التزوير الذكي، كل ذلك أرهق جهودهم ومصداقيتهم، وترك الإسلاميين مع أحكام قاسية وتراجعات مع الجماهير العريضة.

فأحدث ذلك عزوفاً انتخابياً تضرر الإسلاميون منه، حتى وصل هذا العزوف إلى العزوف عن الترشح في قوائمهم في الانتخابات الأخيرة، فكانت تغطية القطر الجزائري متدنية. 

العشرية السوداء

لقد ظهرت انكسارات في مسيرة الإسلاميين أدت إلى انزلاقات مسلحة، ودخلت الجزائر في عشرية دموية أثرت على تماسك المجتمع وموقف الرافض للعنف كممارسة سياسية وفكرية، جعلت فريقاً عريضاً من المجتمع يتحفظ على الإسلاميين بحكم الإرهاب الذي ارتبط ببعض الإسلاميين، ويحملهم مسؤولية الأحداث.

ولقد تشكلت لديهم حساسية سياسية وفكرية ونفسية من تولي الإسلاميين المسؤولية، وتراجع حضورهم في المؤسسات المنتخبة، ومنهم من لم يبق له وجود فيها رغم أن هناك فصائل حزبية من الإسلاميين رفضت الإرهاب واتخذت مواقف صريحة منه، وابتعدت عنه، ونالها منه الأذى، ولها ضحايا في هذه الفترة. 

عملية الانشقاق والانقسام والسقوط في المحظور من خلال حرب المواقع داخل الحزب الواحد عند الإسلاميين، والاتهامات المتبادلة بينهم في الحزب الواحد ومدى تأثير ذلك في الجماهير، واختلت الثقة في الأحزاب الإسلامية، وتسربت منهم المصداقية.

الإسلاميون والاقتراب من السلطة

إن مشاركة الإسلاميين مع السلطة في أجزاء من عملها ومسؤولياتها، كالمشاركة في تحالفات معها، وممارسة بعض المهام في الحكومة، وما تحقق لها من مكاسب وإنجازات، وكذلك من خسائر وأضرار، كما تحقق لها بتلك المشاركة المسؤولية عن الأخطاء، وتغير موقف الجماهير لهم بحكم المشاركة.

إن المشاركة والوجود في السلطة، وعدم قدرتها على استيعاب الاعتراض المتنامي من الناس، خاصة مرحلة الحراك الشعبي ٢٠١٩، كل ذلك تركها على هامش صناعة الرأي العام والتأثير فيه، وسقوطها في الممنوع لما فكرت أن تمد يدها للنظام السابق الرئيس "عبد العزيز بوتفليقة" المرفوض شعبياً في سنواته الأخيرة مع مرضه وعجزه وإصراره على الاستمرارية.

حاولت الحركة الإسلامية إخراجه من صعوبته بتمديد الفترة الدستورية  لكي تكون انتقالية في عهدته الرابعة التي انتهت دستورياً، والجماهير كانت تريد التغيير وترفض التمديد في هذه العهدة. 

كل هذا الذي ذكرناه يضع الحركة الإسلامية في شكلها الحزبي في موقع تغيب عنه الشمس. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سعيدي عبدالرحمن
كاتب وسياسي جزائري
سياسي وبرلماني جزائري سابق
تحميل المزيد