يحيى الرخاوي.. الطبيب النفسي الذي كره كلمة السعادة واعتبر الألم مهماً للإنسان

عربي بوست
تم النشر: 2022/12/20 الساعة 10:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/12/20 الساعة 10:09 بتوقيت غرينتش
الطبيب النفسي الراحل د. يحيى الرخاوي/ الشبكات الاجتماعية

"المريض‏ ‏ورّاني ‏نفسي.. المريض‏ ‏خلاّنى ‏أتـْلـَمـْلمْ‏ ‏وافَـكـَّـرْ‏.‏. المريض‏ ‏عـَدِّل لي ‏مـُخـِّي،‏ نضَّفُهْ‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏واغشْ‏، ‏كانوا‏ ‏فارضينُهْ‏ ‏عليه". 

طبيب نفسي بخبرة أكثر من 60 عاماً، شاعرٌ وروائي، ناقدٌ أدبي، وفيلسوف روحاني، صفاتٌ اجتمعت في شخصٍ واحدٍ، كان من الطبيعي أن يُصبح واحداً من أعمدة الطب النفسي في بلده، مصر. 

مزج بين الأدب وعلم النفس والدين في رؤيته لكل شيءٍ، فصنع توليفة ساحرة من الآراء والمعاني والأفكار، تجعلك تتأملها طويلاً ومن الصعب ألا تترك فيك أثراً ما.

طبيب يؤمن بأنّه والمريض سواسية، بل وبأنّ المريض، هو من يكشف له حقيقة نفسه، ويجعله يراها بكل وضوح، بعيداً عن أوهام العقل وضلالاته. 

د. يحيى الرخاوي الذي توفاه الله

طبيب اشتهرت له عبارة ذكية وطريفة، تقول: "أساتذتي هم تلاميذي ومرضاي". 

 طبيب يكره كلمة السعادة ويفضل عليها كلمتي الرضا والستر، ويرى أنّ التفاؤل ليس مُهماً بالقدر الذي نعتقده.

إنّه د. يحيى الرخاوي الذي توفاه الله، عن عمرٍ زاخرٍ بالعلم الطيب النافع، فهو الطبيب ذو الضمير الحي الذي احترم قدسية الطب النفسي، وهو الشاعر والأديب المُرهف المشاعر الذي يعرف معنى المعاناة، وهو الفيلسوف الروحاني الذي لا يُملّ من حديثه عن الله وعن الدين وعن طبيعة الإنسان ودوره في الحياة، وصراعه الحتمي مع الألم والمعاناة.

في هذا التوقيت الحزين، وبعد الدعاء للطبيب الطيب المحترم، لم أجد أفضل من أنتقي أبرز ما صرّح به د. يحيى الرخاوي في حياته، عن الطب النفسي، وعن مفاهيم السعادة والألم، وعما ينصح به في تعامل الأهل مع أبنائهم المرضى، وعن دور الطبيب النفسي تجاه مرضاه، وعن الأدوية النفسية وغيرها من الأمور، والتي أجدها من أهم تصريحات د. يحيى الرخاوي بشكلٍ عام.

عن السعادة والألم "ماحبش كلمة السعادة، ومن ضمن التفاؤل إنّ الواحد يتألم"

قال د. يحيى الرخاوي، رحمه الله، عن مسألة السعادة، إنّ لفظ "السعادة" لا يخص الشعوب العربية، بل هي كلمة مستوردة من الخارج،  وأشبه بالموضة التي لا تتناسب مع مجتمعاتنا، والتي تعني الرفاهية الكاملة.

أما نحن، فلدينا الستر والود، ولدينا الرضا، الذي هو امتلاء بالنعم، وحمدٌ لله على جزيل عطاياه. 

التفاؤل داءٌ مزمنٌ، وأنا أعتبر نفسي متفائلاً، ولكن لا يوجد أي تعارض بين التفاؤل والألم، وذلك لأنّ الألم ليس إلا دافعاً لمزيدٍ من النضج والتطور في الحياة.

التفاؤل ليس مُهماً بالشكل الذي نتصوره، فكثيراً ما ننسى أنّ الدنيا ما هي إلا صراع للبقاء، لذلك لن يفيدك التفاؤل في شيءٍ، بقدر ما سيُفيدك أن تواجه الحياة وأن تسمو فوق الألم. 

المريض النفسي هو من يعيش بالألم، حتى ينتهي بالإعاقة، أي يتوقف عن ممارسة الحياة، وأحياناً يحدث العكس، يرفض المريض ممارسة الحياة، فينتهي به الأمر للشعور بألمٍ مستمر.

فالمرض النفسي إما ألم أو إعاقة، ودور الطبيب النفسي أن يُخفف من الإعاقة، ويُهذب من الألم لا أن يلغيه؛ لأننا بدون إعاقة وبدون الشعور بالألم، يُصبح الإنسان كالجماد، بلا حياة.

عن التربية: أكتب للأهل في روشتة المريض "ممنوع النصح والإرشاد"

أُخبر الأهالي مراراً وتكراراً بألا يقوموا بنصح أو إرشاد أبنائهم المرضى، بما عليهم أن يفعلوه طوال الوقت، لأنّ أغلبها ما تكون نصائح سطحية، ولا تؤدي إلا إلى نتيجة عكسية.

والدليل أنّك حينما تنصح شخصاً ما قائلاً: "اتقّ الله" فماذا سيحدث؟ غالباً ما سينفعل الشخص عليك بشدة، وسيتجاهل نصيحتك حتى لو كنت مُحقاً.

كثيراً ما أرى أنّ عواطف الأهل يكون لها أثر سلبي على المرضى،  لذلك أخبرهم بأنّ عليهم أن يتركوا أبناءهم كي يقوموا بحلّ مشكلاتهم وحدهم، وأن يساعدوهم على إيجاد مفاتيح الحل فحسب، هذا إن احتاجوا للمساعدة.

نحن نفهم معنى احترام الصغير للكبير، لكن الشيء الأهم الذي نغفل عنه، هو احترام الكبير للصغير. علينا أن نحترم أطفالنا بحقٍ كما هو واجبٌ عليهم احترامنا. ذلك الاحترام يأتي من رؤيتنا لهم رؤية حقيقية، علينا أن نراهم روحاً وفكراً، ونُحسن الاستماع لهم، حينها سنحترم وجودهم بحق.

عن الطب النفسي: "الطب مداواة ومواساة"

بعدما تدخلّت شركات الأدوية في العلاقة بين الطبيب والمريض، أصبح الطب النفسي الآن "مُميكناً"، أي يقوم في الغالب على العلاج بالأدوية فحسب، وكأنّه طبٌ تسكيني، مهمته أن يُسكن الألم فقط، وذلك لن يكون صحيحاً مع طبيعة الحياة التي تستلزم الألم من أجل نمو الإنسان النفسي، فلا ينبغي أن نمنح مُسكناً للألم، كلما عانى الإنسان في حياته. 

لذلك أرى أنّ الطب النفسي هو مُداواة ومواساة، مُداواة أي بالتداوي عن طريق العلاج إذا لزم الأمر، ومواساة وهي العلاقة الخاصة التي ينبغي أن تنشأ بين الطبيب والمريض، والتي بدونها لن يكون الشفاء كاملاً أبداً.

فإذا اكتفى الطبيب بالأدوية، خسر جزءاً من الطب، في كل يومٍ يقوم فيه بذلك.

عن د. يحيى الرخاوي كطبيب نفسي: "أنا مش مريحاتي ومفيش عيان مغيرنيش"

في رأيي أنّ الطب النفسي هو أقرب إلى الفنّ وليس علماً بحتاً، لذلك أطلقت عليه تعبير "نقد النّص البشري"، فكأنّ الإنسان عبارة عن نصٍ خلقه الله في أحسن تقويم، ولكن حينما يُسيء الإنسان فهم ذلك النص، يشعر بالألم، وتتوقف به الحياة عند هذه النقطة.

يأتي هنا دوري كطبيب نفسي، أُساعد المريض على أن يتغير، كي يعود للصورة التي خلقه الله عليها من قبل، ذلك الفعل يُغيّرني أنا شخصياً، تُغيّرني مساعدة الشخص كي يعود إلى صورته الأصلية، فكأنّي أتغير لتغيّره، وإن فشلت في ذلك، فيُغيرني أيضاً عجزي عن مساعدته. لا يوجد مريض إلى الآن لم يُغيّر في شيئاً.

بعض النّاس يظنون أنّ الطب النفسي نوع من السحر، وأنّه بإمكاني أنا كطبيبٍ نفسي أن أحل جميع مشكلات المريض، بل أن أمنحه السعادة أيضاً، بدلاً من أن أُشفيه، فأقول لهؤلاء، أنا مش "مريّحاتي"، ولا أقوم بحل المشاكل، أنا طبيب أعالج المرضى، وأُعيد الشخص سليماً كما كان قبل أن يمرض.

أمّا المريض فعليه أن يتحمّل مسؤولية الحياة، بما فيها من معاناة، والتي هي رأس ماله الحقيقي في النمو والتقدم، وهي الشيء التي تُزوّد قدرته على تخطي الصعاب، ولكنه للأسف لا يُدرك ذلك.

عن الله: "ربنا موجود في الأوضة دي"

كنت حزيناً في أحد الأيام، وظلّ حفيدي يسألني هل أنت حزين جداً؟ أجبته بنعم، ثم بدأ يسأل، هل أنت حزين أكبر من الغرفة؟ أكبر من السماء؟ وكنت أجيبه بنعم في كل مرة، حتى سألني، أكبر من الله؟ حينها صدمني سؤاله، وأخبرته لا، لا يوجد شيء أكبر من الله.

الله عند بعض المشايخ بعيد، هناك في السماء، نقابله حينما نموت، والدين عندهم ترغيب وترهيب، حباً في الجنّة وخوفاً من النّار. ولكن الله بالنسبة لي قريب، قريب جداً، هو في السماء فعلاً وفي نفس اللحظة هو معي هنا. 

كنت أخبر مجموعة من المرضى أثناء جلسات الوعي الجمعي، بجملة يندهشون لها جميعاً: "ربنا موجود في الأوضة دي"، وذلك لأن الناس لا تستوعب دائماً هذه الحقيقة، فيبدو وكأنّهم في حالة من الصدمة والفرح معاً.

أرى أنّ الأمراض النفسية في عالمنا العربي، أقل منها في البلاد الغربية،  بسبب علاقتنا بالله وإيماننا به، فالإيمان عامل مهم في مقاومة الأمراض النفسية.

نصائح د. يحيى الرخاوي: "عش القلق، واحزن، واهتف: يسقط الثبات على المبدأ". 

لا أؤمن بالجملة الشهيرة "دع القلق وابدأ الحياة" بل الأصح منها في رأيي "عش القلق واقتحم الحياة"، فالمعاناة الشريفة هي طبيعة الحياة، كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة البلد: "لقد خلقنا الإنسان في كبد".

ولا أؤمن بالكلمة الشهيرة "لا تحزن"، فكيف ذلك والحياة كلها هموم؟ وكيف يكون الإنسان سعيداً في عالمٍ قاسٍ كعالمنا؟ وليس معنى ذلك بالطبع أن يُصاب الإنسان بالاكتئاب، أنا أرى أنّ الاكتئاب في الواقع كلمة عطّلتنا كثيراً،  لأنّ فيها استسلاماً وخنوعاً، في هذه الحالة أنا لا أسميه اكتئاباً، بل أُسميه معاناة.

ولم أعد أؤمن بعبارة "يحيا الثبات على المبدأ" بل العبارة الصحيحة هي "يسقط الثبات على المبدأ" فكل شيء قابل للتساؤل، وأنا راجعت وجود كل شيء في حياتي، حتى وجود الله، حتى آمنت عن حق وصدق.. وذلك هو المطلوب.

عسى أن نتذكر د. يحيى الرخاوي بكلماته الخالدة تلك، والتي تركت في نفسي أثراً عميقاً وطيباً، وصحّحت لي مفاهيم خاطئة عشت بها زمناً، والتي بعضها سيظل في رأسي طويلاً، أتأمله، وأفكر في قُرب الله الذي نغفل عنه، وماهية الحياة القاسية، وطبيعة البشر الرافضة للألم والباحثة عن السعادة.

رحمك الله يا د. يحيى، وأسكنك فسيح جناته.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سارة يوسف
دارسة للأدب الإنجليزي، ومهتمة بالفنون والسينما
أنا سارة يوسف، زوجة وأم، مُحبة للقراءة والسينما، درست الأدب الإنجليزي، وعملت في وظائف عدة، حتى توصّلت لشغفي الحقيقي وهو كتابة المقالات الفنّية والأدبية.
تحميل المزيد