قسمت البشر إلى متقدمين ورجعيين.. كيف تتسبب المركزية الأوروبية في تشويه نظرتنا لأنفسنا؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/09/14 الساعة 09:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/09/14 الساعة 10:02 بتوقيت غرينتش

حين شعر مفكرو عصر الأنوار بأن عصرهم يبدو أفضل من العصور الماضية، خرجوا بنتيجة مفادها أن الفكرة الدينية، وكذلك الإغريقية التي تتحدث عن عصر ذهبي لحقه العصر الفضي ثم النحاسي -أي تدني العصور وتخلفها- هي فكرة خاطئة، وصرحوا بأن البشرية لا تتقهقر للوراء، وإنما تسير قدماً إلى الأمام، وليس لها دورة حياة تاريخية (فكرة الفيلسوف جيامباتيستا فيكو)، شبيهة بدورة الحيوان (طفولة، شباب، كهولة).

هذا الفهم الجديد هو الذي قاد إلى تأكيد فكرة "التقدم" في التاريخ، ويذهب هذا التوجه إلى خلاصة مهمة، مفادها أن الإنسانية ستصل مستقبلاً إلى "المدينة الفاضلة". وقد وضع فرانسيس بيكون كتاب "أطلانتس الجديدة" وتخيل فيه العالم وقد أخذ بالعلم لصنع مدينته المثالية.

وطبعاً، فهذه الفكرة سيتبناها المفكرون الغربيون فيما بعد، وخاصة، هيغل وماركس. ولكن، بعد الحرب العالمية الثانية "ستسقط هذه السرديات" وسيتجه الذهن الأوروبي نحو تبني فكرة "الحدث"، التي تضرب بمعتقد التقدم عرض الحائط. والفكرة هي أنه ليست هناك خطة في التاريخ تقود للأفضل، بل كل ما نصادفه هنا هو أحداث تنبجس فجأة.

هذه الرؤية، أخذها المفكرون من عند الفيلسوف الألماني نيتشه، الذي يخبرنا بأن التاريخ هو مكان للصدف، وليس ثمة خطة أو عقل في التاريخ، فأصحاب هذه الفكرة، فكرة التقدم في التاريخ، هم فقط مسيحيون بملابس علمانية، يحاولون الإتيان بالجنة من السماء ووضعها على الأرض. وبالتأكيد فنيتشه، لا يستسيغ هذه الفكرة، لأنها بالنسبة له ارتكاسية، أي رجعية، تقتل في الإنسان حب الآن والأرض، لصالح شيء ميتافيزيقي، سواء في السماء أو في المستقبل.. ولا تترك للإنسان فرصاً لتطوير ذاته، فضائله الخاصة نحو الأفضل. 

ففكرة التقدمية كانت دائماً بحسب فهم الإنسان الأوروبي للواقع والتاريخ، فإن كان مفكرو الأنوار وأصلابهم (هيغل وماركس) يحاولون إعلامنا بوجود خطة في التاريخ نحو ما هو أفضل للبشرية، فإن نيتشه يصرح، بأنها خرافة الأنوار أُسست على أخلاق العبيد التي تضحي بـ "فضائل الأقوياء" للوصول لشيء غير موجود.

فالتقدم، كمفهوم ما زال غير واضح، لكنه يشير بحسب المرجعيات الغربية إلى شقين مهمين: شق إنساني وشق تقني. فالتقدم في الشق الأخير يعني التمكن من صناعة الوسائل لتسهيل حياة الإنسان، وتمكينه من السيطرة على الطبيعة، وكذا خلق منهجية لتنظيم عمله (الترشيد لدى ماكس فيبر – علم اجتماع التنظيمات). بينما الأخرى ترى أن التقدم يتمحور حول الإنسان، يعني شحذ مواهبه وتوفير جو آمن يساعده على تطوير ذاته وفهمها، والشعور بالقيمة الجوانية فيها.

وقد يرى البعض أن الشقين متداخلان، لكن هذا خطأ، فالتطور التقني كما لاحظ الكثيرون، أدى إلى اغتراب الإنسان (فقدان المرء لذاته). فأما الرومانسيون الجدد فيحمِّلون المسؤولية للصناعة، ويطالبون بالقضاء على التكنولوجيا (قد نشعر بأن الإيكولوجيون ينتمون لهؤلاء). أما ماركس فيحمل المسؤولية للرأسمالية، ويرى أن التكنولوجيا صُنعت من أجل الإنسان، لكن التناقض الرأسمالي جعلها تتناقض مع ما صُنعت لأجله، لهذا يرى ضرورة الثورة العنيفة على هذا المجتمع الرأسمالي وإعادة التكنولوجيا لطبيعتها. أما مارتن هيدغر فينظر إلى التقنية بأنها التجسيد الأخير للميتافيزيقا، والتي أكدت موت الإنسان، ولا يمكن تفاديها سوى بالعودة إلى الشعر الوجودي (هولدرين كنموذج له – قد نتحدث عن هذا في موضوع آخر).

ولكن هناك توجه آخر، يسير في اتجاه مختلف تماماً، حيث يتبنى فكرة أنثروبولوجية ثورية (ضد التاريخية) مفادها أن نظرية التقدم هي نظرية أوروبية عنصرية استفاد منها الاستعمار، فهي نظرية تحاول إسقاط مسار التاريخ الأوروبي (عصر قديم، عصر وسيط، عصر حديث) على كل العالم، مع أن لكل مجتمع طريقته في التقدم، فإن كان الأوروبيون ينظرون إلى التقدم بأنه التطور التكنولوجي ورفاهية الإنسان، فالقبائل الإفريقية تعيش حياة بسيطة تشعر فيها بالأمان، وتعُدّها أفضل حياة للعيش، فالوسائل التي تتوفر عليها تُقنعها بجذل في علاقتها مع الطبيعة. 

إذن، ما المعيار الذي يمكننا من النظر إلى الحياة الأوروبية على أنها أفضل من حياة هذه القبائل؟ أليس الاختلاف في طريقة الحياة فقط وليس في قيمتها؟ فإن كان الأوروبي يرى طريقة العيش الغربية هي الأفضل فهذا الشخص في هذه القبائل يرى بأن طريقته هي الأفضل، فهو لا يعرف المواد المسرطنة ولا القنابل الذرية ولا الغازات الملوثة للبيئة ولا الاصطياد الجائر من أجل زيادة الأرباح. فما الذي يجعل الغربي متأكداً أنه المتحضر وهؤلاء هم البدائيون؟ 

هذه النسبية قادت البعض لتجاوز ثنائية البدائية/التحضر إلى ثنائية البساطة/التعقيد.

ويأتي الأنثروبولوجي، ليفي ستراوس، في قائمة هؤلاء الرافضين لفكرة المركزية حول التقدم الأوروبي. وكتابه العرق والتاريخ يتضمن هذا الأمر.

وبالتالي، فالتقدم كفكرة لها حمولة إيديولوجية، ولا يمكن أن تستقيل عن الخطاب الذي يتداولها، وسيظل بذلك مفهوم "التقدمية" مفهوماً سياسياً وإيديولوجياً، وقد يتمادى ليتحول لأساس عنصري وعرقي، يدافع عن طريقة معينة في السلوك والحكم والتسيير الاقتصادي، وكذلك البنية البيولوجية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد أمزيل
باحث وكاتب مستقل
تحميل المزيد