سنن التاريخ لا تبالي.. لماذا لا تنتهي كوارث حضارة البشر؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/05/05 الساعة 14:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/05 الساعة 14:47 بتوقيت غرينتش

بغض النظر عن الطبقة أو العرق أو العمر أو الثقافة، يتعامل الناس مع الأزمات بشكل حدسي كل يوم، يملك الجميع الأدوات لحل مشكلاته باختلاف حجمها ومظاهرها وأثرها إلا أن هناك مشكلة واحدة تؤثر على الكل، يمكن تسمية المشكلة بـ"الرأسمالية أو الدولة السلطوية أو أضرار الوباء العالمي أو الضرر الناتج عن الحرب الروسية الأوكرانية أو ثورة يناير أو استدعاء لحظة 30 يونيو وتأكيد إحيائها وعدم اختفائها". 

التغيرات الكبيرة والأزمات المتتالية تجعلنا مضطرين إلى إعادة طرح قضايانا وفهمها والبحث عن وسيلة للخروج من حالة الاكتئاب وعدم القدرة على الفعل. المُربك عند حدوث التحولات التاريخية الكبرى أنها تأتي فجأة، حينها تنهار المفاهيم والمقولات الكبرى التي تتحكم وتُشعر الإنسان بأنه في عالم متَّزن ومنسجم؛ حيث يجد الإنسان نفسه في فراغ وحيرة وعدم قدرة على تحليل وفهم كيف وصلنا إلى هنا، الكارثة.

يأتي السؤال القديم: كيف يمكن أن نحيا كردِّ فعل على الصدمة؟ ولأنه سؤال لم ينقطع في التاريخ الإنساني، حاول العديد من الفلاسفة الكشف عن البنيات والقوى التي تتحكم وتتشابك معاً لتشكل حياة الإنسان وتعيد إنتاج الامتثال. يقدم الفيلسوف والناقد الأدبي الألماني فالتر بنيامين تفسيرات لكلٍّ من مرونة الرأسمالية على الرغم من الأزمات وعدم الاستقرار الملازمَين لها والعلاقة بين الفاشية والليبرالية، كما يمنحنا طريقة لفهم كيفية التعامل مع لحظتنا المعاصرة وكيفية المقاومة.

في مقالته الأخيرة "عن مفهوم التاريخ" التي عُرفت بعنوان "طروحات حول فلسفة التاريخ"، يماهي فالتر بنيامين بين التقدم وجهنم، ويجعل من الكارثة "مُتَّصل التاريخ". فالكارثة ليست عرضاً أو حدثاً مؤجلاً ينتظر العالم؛ بل صيرورة مستمرة. ولا ينبغي إحالة الكارثة إلى تخيُّل فناء البشرية وانهيار العالم بعد حالة من الفوضى والجنون وإنما يكفي أن نعيش في أوضاع لا تُحتمل، محكومين بذاكرة تستعصي على النسيان.، يكفي أن "تواصل وتيرة الأشياء مجرياتها على هذا النحو، تلك هي الكارثة"، فالتر بنيامين.

نجد في الشذرة الخامسة من المقال إشارة إلى قصور المعرفة التاريخية إذا فشل المؤرخ في القبض على الماضي "باعتباره صورة قابلة للاختفاء سريعاً". هذا يتطلب إعادة بناء التاريخ، لأن الحقيقة التاريخية ليست ثابتة وإنما تتهاوى أمام انهمام الحاضر، والأسئلة التي يطرحها الراهن. الحاضر هو ما يحمل الماضي بالمعنى ويعطيه الكثافة والحيوية ليشارك ويؤسس اللحظة الحالية. ويضيف في الشذرة السادسة للمعرفة التاريخية صورة الذكرى التي تستدعيها البشرية لحظة الخطر. الذاكرة حارسة الموتى، لأن المنتصر لا ينفك عن فتح قبورهم. فالمعرفة التاريخية عنصر مُنتِج للحقيقة ومؤسِّس لشرعية الأنظمة والأفكار باعتبارها سلطة على الحاضر. سلطة ممتدة في التاريخ، وتأتي المعرفة التاريخية كسلاح مضاد، يحرر مقهوري التاريخ ويفكك زهو وفرحة المنتصر بأمجاد أسلافه. 

الزمن الذي عاصره فالتر بنيامين زمن مأزوم، فوضى وحرب، عالم هالك، لكنه حاول الكتابة لمن حُرم من الأمل، لذلك آمن بأن "المجاز الضيق منفتح في كل آن من الزمن ليمر المسيح". أي إن الخلاص ممكن عندما تعتبر البشرية كل لحظة من تاريخها مُعبِّرة عنها وجزء من نضالها، وتشترك جميع الأجيال في وجود إمكانية الخلاص؛ نظراً إلى استمرار الكارثة كوضع دائم وليس استثناء في لحظات تاريخية معينة. عبر مفهوم الحضور والفاعلية يذيب فالتر بنيامين الفوارق التاريخية. هذا الحضور هو ما يجمع فعالية الماضي مع الحاضر، ويجعل من الجيل الحالي وريث هزائم الأجيال السابقة والموكل بالدفاع عن حقها وصوتها. 

إن مفهوم العنف الأسطوري الذي نحته بنيامين مُهم حين نطرح السؤال التالي: كيف تفرض قوة اقتصادية أو سياسية نفسها على الحياة، مما جعل شكلاً اقتصادياً معيناً أو وضعاً سياسياً يصبح مقبولاً باعتباره الواقع وقد عبَّر عن نفسه في اكتماله؟ الأسطورة تنفي عن قوة السلطة ماديتها وتُجردها من الأساس الوجودي الذي تبرر نفسها من خلاله. لذلك كان مهماً أن يهاجم بنيامين التقدم ويؤكد أنه لا توجد نهاية للتاريخ، توجد إمكانية دائمة للتغير، لأن العنف الأسطوري لا يمكن أن يدوم إلى ما لا نهاية. على الرغم من المظهر المرعب للأنظمة القمعية وقدرتها على الظهور بوجه وحش وجسد عملاق يحكم جميع الخيوط، فإنها محاصرة، بسبب العنف الذي تمارسه، واضطرارها إلى ترسيخ سلطتها في ظل الفوضى والمخاطر العالمية يعني أنها ستلجأ أكثر إلى العنف لإعادة ترسيخ وجودها. إن العنف المباشر دليل على عدم القدرة على الوصول إلى حالة من الاستقرار الاقتصادي والسياسي. لا تسقط الأنظمة القمعية بسبب عوامل خارجية تتشارك معاً في هزيمتها، لأنها تحمل ضعفها بداخلها، كل لحظة يمكن أن تكون النهاية، لأن قوتها وهمية ويمكن في أي لحظة أن تخسرها، لأنها ليست قائمة على مسؤولية جماعية مشتركة. 

لم يكن فالتر بنيامين أول من تساءل عن سبب عنف البشر تجاه بعضهم البعض، لكنه طرح سؤالين يتجاوز صداهما اللحظة التاريخية والسياسية التي عاش خلالها: "في أي زمن نعيش؟ وكيف يمكننا تطوير نقد للعنف يتناسب مع حاضرنا؟". 

إن العالم الحالي على حد تعبير أولغا توكارتشوك، "كائن يتمّ تقطيعه وتدميره". وتبدو الأحداث التي تشكل التاريخ بلا معنى ووجهة. وإلى هنا يمكن إضافة سؤال جديد: هل التفكير في عالم مختلف درب من العبث؟ إن إجابة بنيامين تنفي ذلك، وتؤمن بإمكانية الخلاص الموجودة في كل جيل، واعتبار الثورة والتغيير عملية تنظيم مختلف للزمن، بصيغة أخرى: محاولة لتملُّك التاريخ. 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد أشرف
كاتب وقاص مصري
كاتب وقاص مصري مهتم بالثقافة العربية وعلم الاجتماع وتقاطعاتهما مع عالم الرياضة
تحميل المزيد