فرصة النهضة الأخيرة.. هل آن أوان رحيل الغنوشي؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/08/25 الساعة 12:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/08/25 الساعة 13:24 بتوقيت غرينتش
رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي - الأناضول

عندما قام الرئيس التونسي قيس سعيد بانقلابه الدستوري في 25 يوليو/تموز الماضي، تشكّل لديّ تحليل على مدى الأيام التالية، مفاده أن الرئيس التونسي قد خطط جيداً لخطوته تلك بالتنسيق مع المؤسستين العسكرية والأمنية اللتين سارعتا لتنفيذ أوامره بمنع البرلمان – تحوز حركة النهضة فيه أغلبية نسبية – من الانعقاد في مقره الرسمي. لا يفترض غالباً في أحداث خطيرة من هذا النوع أن يكون مدى الخطة المعدة سلفاً هو عدة أيام صبيحة الضربة السياسية، بل يفترض أنها تتضمن بالضرورة، وإن كان بشكل ضمني، ملامح عامة على أقل تقدير للخطوات التالية. وبهذا الخصوص كانت لديّ تصورات محددة بسيطة عما يمكن أن يفعله سعيد.

افترضت أن سعيد سيسارع بتوجيه ضربات قوية لخصمه الأساسي متمثلاً في حركة النهضة وحلفائها الإسلاميين عبر فتح ملفات قديمة تتعلق بالفساد أو تورط الحركة في أعمال عنف، أو عبر دفع الحركة للتورط في احتجاجات عنيفة، لتبرير حركة اعتقالات واسعة تقوّض بنية التنظيم، حتى وإن كانت تلك القضايا فقاعية ولا تنتهي إلى أحكام، فتغييب الحركة في السجون المدة كافية سيسمح بتشكيل نظام لا تسبب الحركة إزعاجاً بالنسبة إليه.

افترضت كذلك أنه سينهي المعضلة الدستورية التي خلفتها عيوب الدستور التونسي الحالي من جهة، وتلاعب سعيد به من جهة أخرى، عبر تعيين لجنة دستورية على هوى الرئيس لتفصيل دستور يعطي سعيد صلاحيات واسعة. وفي إطار تلك المرحلة الانتقالية، يستهلك سعيد الوقت بما يسمح له بهندسة المشهد السياسي والبرلماني بما ينهي إزعاجه في رحلة بناء سلطوية تونسية جديدة بطلها سعيد.

أطاح سعيد بكل تلك التكهنات، عندما أعلن الرجل في مناسبات متتالية أنه "لا يملك أي خطة" نحو ما كان يردد الجوكر في فيلم باتمان الشهير "فارس الظلام"، دون أن يكون حتى لدى سعيد الحس الساخر أو العبقرية السيكوباتية اللذان تمتع بهما الجوكر. عدمية سعيد نقلت الأزمة من حركة النهضة إلى ساحته، فالرجل أصبح هو المسؤول الوحيد عن ضبابية المشهد السياسي التونسي وهو المطالب بتقديم الحلول لا حركة النهضة. بارانويا سعيد تهدد تحالفه مع المؤسسة العسكرية التونسية التي تميل غالباً على طريقة المؤسسات العسكرية حديثاً إلى خلق مناخ سياسي مستقر استقراراً أقرب إلى الجمود، مع تسويات واضحة تضمن للمؤسسة العسكرية مصالحها واستقلالها (انتهت حقبة التحرر الوطني والتنمية التي كانت تجعل النخب العسكرية مهووسة بالاستيلاء المباشر على السلطة وخوض مغامراتها).

ربما يستفيد سعيد من تحالفه مع المؤسسة الأمنية التي سترى في تلك الضبابية فرصة للاستثمار في سياسات بوليسية ترفع أسهم المؤسسة الأمنية في سوق الدولة، ويرى كثيرون أن المؤسسة الأمنية في تونس ما زالت تتمتع بالأولوية على نظيرتها العسكرية من ناحية الهيمنة السياسية، غير أن تقارير أخرى تقول إن الجيش التونسي استفاد من الثورة في تعظيم إمكاناته المالية والتسليحية وعلاقاته الدولية، بينما تراجعت وتفككت هيمنة المؤسسة البوليسية.

النهضة منتهية الصلاحية

تقدم بارانويا سعيد فرصة جديدة لحركة النهضة لالتقاط الأنفاس بعد ضربة قاسية، كادت تكون قاضية لولا وعي سعيد وإجادة النهضة للانسحاب التكتيكي أمام المواجهات الصفرية من هذا النوع، لكن ما نود قوله هنا هو أن تلك الفرصة مشروطة غالباً بإزاحة الطاقم القيادي الحالي للنهضة، وتحديداً الشيخ راشد الغنوشي.

على مدى السنوات السابقة، عانت حركة النهضة كثيراً جراء سياسات الغنوشي، سواء تلك المتعلقة بتنظيم البيت النهضاوي في الداخل، أو في إدارة سياسات الحركة في صراعها على السلطة في تونس. بدأ الأمر مع المؤتمر العاشر للحركة في 2016 الذي أعلنت فيه الحركة فصلها النهائي بين الدعوي والسياسي. على الرغم من الترحيب المبدئي بالفكرة بعد ما أفضت إليه الحالة الملتبسة للإخوان المسلمين في مصر من كارثة، سواء بالنسبة للحركة نفسها أو بالنسبة لمصر بأسرها، إلا أن إعلان الحركة قوبل بحيرة من قبل المؤيدين قبل الخصوم.

الحركة التي عرفت على مدى تاريخها بثقافة طاقمها القيادي وإنتاجهم النظري المتقدم نسبياً إذا ما قورن بالمنتج النظري الفقير مضموناً للحركات الإسلامية، لم تهتم بإصدار تنظير لتلك الخطوة، وإن كان في شكل مذكرة توضيحية للصف النهضاوي نفسه، تشرح معنى الخطوة ومبرراتها النظرية والسياسية. كانت تلك الخطوة ضرورية ليس لطمأنة منافسي النهضة – هذا المطلب المستحيل والمزعج الذي لا ينفك محللون سياسيون عن مطالبة الإسلاميين به – بل للحفاظ على لُحمة الصف النهضوي نفسه وتفعيل الخطوة والحفاظ على مصداقية الحركة لدى الجماهير التي ستحترم انفتاح النهضة على النقد الذاتي والتجديد الفكري، بينما ستنظر شزراً لها إذا رأت مواقفها مجرد مناورة انتهازية تمت تحت الضغط. لم تكتف الحركة بالصمت، بل اتخذت مسافة من مثقفين جمعتها بهم صلات – منير شفيق مثلاً الذي قدم نقداً للحركة في مناسبة هذا المؤتمر – كانت تسمح بأن يقوموا هم بهذا الدور نيابة عنها، لولا أنهم رأوا أن الحركة منغمسة في الركض وراء تكتيكات سياسية قصيرة النظر.

تفكك لحمة البيت النهضوي استمر مع إصرار راشد الغنوشي على التفرد بالقيادة وإقصاء كل من يتجرأ على رفض مواقف الشيخ المؤسس، لتتحول قيادة الحركة إلى One Man Show. أصبحت الخلافات داخل النهضة بين قيادات بثقل عبدالحميد الجلاصي، نائب رئيس الحركة، وعبداللطيف مكي ونور الدين عرباوي وسمير ديلو وفتحي العيادي مع الغنوشي، مذاعة على الهواء مباشرة، فضلاً عن استقالة لطفي زيتون. في المقابل، لم يكتف الغنوشي بعدم التحرك لرأب الصدع، بل اتجه إلى مزيد من الإقصاء والتفرد عبر السيطرة على قوائم المرشحين للبرلمان والدفع برفيقه عبدالفتاح مورو في انتخابات رئاسية يصعب فوزه بها، في خطوة ظاهرها التكريم وباطنها حرق البديل الذي يمكن أن يدفع به خصوم الغنوشي ليحل محله في قيادة الحركة، وهو ما تم للغنوشي بالفعل، فمن يعرف اليوم أين ذهب المؤسس الثاني مورو بعد هزيمته الانتخابية؟

على الصعيد السياسي، أقحم الغنوشي الحركة في سلسلة من التحالفات التكتيكية قصيرة النظر التي استنزفت شرعية الحركة في الشارع، ودفعت بتونس إلى حالة من الهشاشة الحكومية التي من الخطر أن تستمر في بلد يعاني اقتصادياً واجتماعياً. اختار الغنوشي التحالف مع حزب الباجي قايد السبسي، "نداء تونس"، في خطوة تقبلها كثيرون باعتبارها هروباً من صدام سياسي كان سيصبح خطيراً نظراً للهجمة الإقليمية بعد 2015 على الإسلام السياسي. لكن النهضة بعد ذلك، ورغم حيازتها الأغلبية البرلمانية بحكم انقسام كتلة نداء تونس بين مؤيدي الرئيس السبسي ورئيس الوزراء يوسف الشاهد، لم تكتف بترك الحكومة لنداء تونس، في خطوة كان يمكن فهمها باعتبارها تحفظاً من التورط في مسؤولية حرجة، بل اختار الغنوشي الاصطفاف مع حكومة الشاهد. أدى هذا الموقف إلى أن تتحمل النهضة وزر فشل حكومة الشاهد، دون أن تستفيد النهضة في المقابل جراء دعمها الشاهد نفوذاً داخل مؤسسات الدولة أو توجيهاً للسياسات العامة ناحية أهداف ما لدى الحركة.

رغم ذلك، لم تتعلم النهضة الدرس، واستمرت في ديدنها في استبقاء حكومات لا ناقة لها فيها ولا جمل ضد الرئيس، بما يقدم الرئيس بوصفه بطل الإصلاح الذي تعيقه النهضة بثقلها في البرلمان، فكررت الخطأ نفسه في تحالف تكتيكي قصير النظر من جديد مع هشام المشيشي من جهة ومع كتلة قلب تونس من جديد.

يسمح تغيير القيادة بإعادة تقديم الحركة جماهيرياً، وإعطاء مصداقية لادعاءاتها عن مراجعتها لأخطائها، وأن لديها جديداً يمكن أن تقدمه إذا ما أخذت فرصة جديدة.

النهضة الجديدة

في عام 2019، قامت المعارضة اليمينية في البرلمان البوليفي مدعومة من الجيش بالانقلاب على الرئيس البوليفي اليساري إيفو موراليس. موراليس كان هو نفسه السبب في ذلك الانقلاب عندما ترشح للرئاسة لفترة رابعة كانت لتُبقيه في السلطة 20 سنة حتى عام 2025. اضطر موراليس إلى الهرب رفقة نائبه المفكر اليساري ألفارو جارسيا لينيرا، بينما تولى الصف الثاني من حزب الحركة من أجل الاشتراكية قيادة الحركة في مواجهة الانقلابيين. عندما أعلن عن الانتخابات الرئاسية الجديدة، رشحت الحركة وزير المالية السابق لويس آرسي كرئيس ووزير الخارجية السابق ديفيد تشوكويهوانكا كنائب له ضد مرشح اليمين لويس فرناندو كاماشو ومرشح الوسط الرئيس السابق كارلوس ميسا.

يحظى آرسي باحترام واسع حتى بين خصوم الحركة بوصفه اقتصادياً ماهراً ومعتدلاً. الأمر نفسه يمكن وصف تشوكويهوانكا به. كانت إحدى النقاط الرئيسية خلال حملتهما تأكيد أن موراليس لن يلعب أي دور سياسي في إدارتهما، ولن يكون له أي دور في إدارة الحزب كذلك رغم بقائه رئيساً شرفياً له. وفق ذلك التعهّد بعدم تدخل موراليس، اكتسح آرسي خصميه من الجولة الأولى. اليوم، ترزح جيناين آنيز، الرئيسة الانتقالية وزعيمة الانقلاب في السجن، رفقة عدد من الوزراء والجنرالات، بتهم التآمر والإرهاب ضد المحتجين.

الرئيس البوليفي إيفو موراليس
إيفو موراليس/رويترز

لتغيير القيادة في الأزمات السياسية فوائد عديدة. أولاً وقبل كل شيء، تستبعد الحركة كافة المشكلات المرتبطة بشخصية القادة في حد ذاتهم، سواء داخل الحركة أو خارجها، بما يسمح بالتفاف أغلب الصف حول القيادة الجديدة، ويتيح كذلك التفاوض مع أطراف لديها حساسيات شخصية مع القيادة القديمة. ثانياً، يسمح تغيير القيادة بإعادة تقديم الحركة جماهيرياً، وإعطاء مصداقية لادعاءاتها عن مراجعتها لأخطائها، وأن لديها جديداً يمكن أن تقدمه إذا ما أخذت فرصة جديدة.

لذلك، وخلافاً لما يبدو للوهلة الأولى، فإن الحركات في مواجهة الأزمات قد تحتاج إلى تغيير قيادتها، لا إلى الإبقاء على القيادة القديمة بحجة الاستقرار أو أولوية المواجهة أو الاحتفاظ بالخبرة. بل إن القيادة القديمة قد تدفع الحركة إلى مواجهات غير مفيدة في محاولة لإصلاح أخطائها عبر أخطاء جديدة عوضاً عن الاعتراف بأخطائها السابقة وإعطاء الفرصة لتسويات تبدأ مرحلة جديدة.

بإيجاز، ها هو قيس سعيد يعطي بتصرفاته فرصة جديدة للنهضة لاستعادة قبولها في المشهد السياسي التونسي، وليس على النهضة بعدها إلا أن تلوم نفسها إذا ظلت متمسكة بمناورات انتهازية قصيرة النظر على طريقة الغنوشي في السنوات الأخيرة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمود هدهود
كاتب سياسي مصري
كاتب سياسي مصري
تحميل المزيد