آلاء الصديق: الرحيل الكاشف!

تم النشر: 2021/07/02 الساعة 11:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/07/02 الساعة 11:42 بتوقيت غرينتش
مواقع التواصل الاجتماعي

ليس شرطاً أن تعرف الشعوب أبطالها معرفة شخصية لِتَحزن على رحيلهم وتأسى على فراقهم، فللشعوب شرط واحد لبكاء الراحلين جماعياً، وهو أن يكونوا على قدر الحسرة عليهم بتضحيات قدموها وبذل أسلفوه، وشجاعة قارعوا بها الظلم والطغيان، وسعي حثيث لإقامة العدل وفعل ما ينفع الناس ويمكث في الأرض بإخلاص ونبل، وهذا شرط تحقق في الراحلة العظيمة آلاء محمد عبدالرزاق الصديق  (ت 1988-2021م) تلك الفتاة التي ترك رحيلها المفاجئ حزناً مدوياً في الخافقين عم  النساء والرجال.

كانت الدموع وملامح الحزن على وجوه مشيعي آلاء الصديق أشد وأطغى من أن يحجبها قول البحتري:

وَلَعَمري ما العَجزُ عِندِيَ إِلّا… أَن تَبيتَ الرِجالُ تَبكي النِساءَ

كان البحتري في هذه القصيدة جاهلياً في موقفه من المرأة غير موفق في تعزية بني حميد في فراق كريمتهم ينطلق في ذلك من أن "من لا ينازل بالسيف مشيحاَ ولا يهز اللواء" لا يستحق أن يبكى عليه، سبق البحتري إلى ذلك الفرزدق في رثائه زوجته حدراء بنت زيد بن سلام الشيبانية التي اعتبرها أهون مفقود لانتمائها  للفئات التي "تُهَزُّ المشرفيات دونها حذاراَ عليها أن تذل وتفزعا" وهي  "لا تشهد الهيجاء ولا تحضر الندى".

كان المجاهد عمر بن أبي ربيعة أنبل من الفرزدق والبحتري فحكم أن "القتل والقتال" كتبا على الرجال، وأن الغانيات "خلقن لجر الذيول"، لكن ماذا إذا عكست الآية وامتشقت الأنثى سيفها وهزت اللواء وتقدمت الصفوف وكانت حرة في زمن العبيد، هنا يستعيد البحتري عافيته الحقوقية والنضالية فيفتي أن:

الأسى واجِبٌ عَلى الحُرِّ إِمّا… نِيَّةً حُرَّةً وَإِمّا رِياءَ

لا تخف علينا يا أبا عبادة حزن الرياء والأسف المصطنع فنحن نتفيأ ظلال الصدق والإخلاص وبركات الشجاعة والإقدام حين نتحدث عن آلاء الصديق؛ فتلك فتاة لو جسدت  هذه القيم لكانتها وزيادة، ولعل إخلاصها وما وقر في قلبها من اليقين وحب الخير هما السر وراء القبول الذي وضع لها في الأرض فاجتاح العالمَ حزنٌ عقب وفاتها فكان رحيلها كاشفاً لقضايا كثيرة متشابكة، ومظهراً ما خفي من جهادها وسعيها، وكان سعياً حميداً توقن صاحبته أنه سيعرض على علام الغيوب فختمت مشوارها التدويني والنضالي بآية  {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى}، إي والله يا آلاء لقد رأينا سعيك العظيم الذي فاجأ أقرب الناس إليك فما قصتك يا آلاء؟

الحرية لمحقق الأمنيات

قالت العجفاء بنت علقمة السعدي "كل فتاة بأبيها معجبة" فأطلقها العرب مثلاً، لكن علاقة آلاء بأبيها "محقق الأمنيات" كما تصفه علاقة من نوع آخر تجاوزت الإعجاب الفطري بالآباء إلى الفداء بالنفس والوطن ورغد العيش، فمنذ بدأت أبوظبي حملاتها العدوانية على قادة دعوة الإصلاح، وعرضتهم لأنواع شتى من المحن بدأتها بالنفي من الأرض بسحب الجنسيات ثم السجون والتعذيب والتغييب القسري والأحكام الطويلة الجائرة ظلماً وعدواناً جعلت آلاء شعارها في معركتها الشرسة قول الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنهما: "إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا ندماً".

لم تشأ آلاء أن تقترف ذلك الندم فابتعدت عن الظالمين في بلادها منافحة عن أبيها وإخوانه الأحرار، كانت المعادلة عندها واضحة جداً وبسيطة بساطة الحق وجمال العدل وعمق التجارب، فقد توصلت  آلاء في 5 يونيو/حزيران 2011 أنه "يومٌ واحد إضافي من الصمت على الظلم ليس إلا مزيداً منه"، سبحان من ألهمك الحِكَم وأنطقك بالصواب. 

ولما اشتد الكرب على الأحرار وبدأت معركة كسر العظم بثني دعاة الإصلاح الإماراتيين عن دعوتهم إلى العدل والحق والخير أرسلت آلاء رسالة مختصرة لحكام بلادها والعرب في 22 فبراير/شباط 2011 "افهموها نحن لا نستسلم ننتصر أو نموت"، لكنهم لا يفهمون، ولم يغب عن الألمعية آلاء أن النصر يحتاج إلى إعداد وأن معركتها معركة وعي وحقوق وصبر ومصابرة، فكان همها حين شاركت في  "ملتقى النهضة الشبابي الأول" بالمنامة في 20 أبريل/نيسان 2010 أن تهتم باكتشاف "مواقع تخدم حقوق الإنسان بشكل مباشر، وهو ما أحتاجه المرحلة القادمة"، كما تقول في تدوينتها عن مشاركتها الفعالة في ذلكم الملتقى. 

بعد معركة الوعي بالحقوق والتنظير لها جاء امتحان التطبيق ومواجهة صعاب النضال العملي ودفع ضريبة الصدع بالحق في وجه سلطان جائر، وأنَّى لفتاة خليجية منعمة أن تخطط  لخشونة العيش في سبيل مبادئها، لكن آلاء الاستثنائية في كل شيء تعرف أن "من ترك الحزم ذل" فانتهزت فرصة رحلتها إلى إندونيسيا للمشاركة في مؤتمر "للاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية" يوم 9 يونيو/حزيران 2010 ففي ختام ذلك المؤتمر ذهبت بعد أيام حافلة من العمل والنقاش مع رفيقاتها لزيارة مسجد الاستقلال في جاكرتا، تقول: "وهدَّ التعب الجميع وجاء وقت العودة، لم نجد سيارة أجرة فقررت المنظمة أن نركب الحافلة التي تبدو كتلك الحافلات التي ينادي عليها أصحابها في مكة والمدينة! حسناً الأخيرة أفضل بكثير، لم أكن آسفة على حالي فأنا أعتبر كل ذلك تدريباً للحرب القادمة التي سأتجند فيها يوماً ما".

بهذا الوعي والتجلد امتطت آلاء الصديق جواد النضال تدافع عن أب برٍّ وقائد مقدام لم ترهبه سياط التعذيب ولم يخش صولة الباطل فوقف بكل شجاعة وصرامة في وجه القرار الجائر بسحب جنسيته مع ستة من النبلاء الإماراتيين لمطالبتهم بالإصلاح فلم يتلجلج أو يتراجع فواصل سعيه الحميد الدؤوب وزاد مطالب الإصلاح ووقع على العرائض الإصلاحية فحكموا عليه بالسجن وشردت عائلته الكريمة فما زاده ذلك إلا ثباتاً على الحق، وحسب امرئ من الخير والنبل أن تكون آلاء الصديق إحدى ثمار تربيته الموفقة.  

في يوميات آلاء التي احتفظت بها مدونتها ذات العنوان الدال "ابدأ بما هو صحيح وليس بما هو مقبول" نجد تاريخاً حافلاً لدعاة الإصلاح في الإمارات وفي مقدمتهم  والدها الشيخ الدكتور محمد عبدالرزاق الصديق عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وأستاذ الشريعة بالإمارات، وهو تاريخ مشرف كله سعي إلى الخير في الإمارات ورحلات في الدعوة والإصلاح والعمل الخيري في العالم الإسلامي وغيره، وصلة للأرحام على ضفتي الخليج.

كتبت آلاء في تدوينة يوم 23 فبراير/شباط 2010 "أستيقظ في الصباح وأنا محملة بالأمل، يشع قلبي، ويلمع البريق في عيني، وأود لو ألتقي جميع أهل الأرض أو أهل الشارقة على الأقل أقبلهم على جبينهم وأغمس لهم قطعة الخبز في الشاي وألقمهم إياها ثم أتمنى لهم يوماً سعيداً آخر"، ومن كانت هذه أمنيتها للإنسانية جمعاء لا يمكن أن تخذل والدها البرَّ وأحرار بلدها وأمتها في مواقع محنة فآلاء تكره الظلم والبغي بقدر حبها للخير، وقد مضت لا تلوي على شيء في سبيل حرية أبيها، ولم تثنها التهديدات والمنافي، وكان طول تغييبه القسري عنها يزيدها له شوقاً، وكانت تترجم شوقها دفاعاً وكفاحاً عنه وإقداماً في نصرة المظلومين حتى ارتقت فأنشد لسان غربتها:

لكِ الله من مفجوعةٍ بحبيبها… قتيلةِ شوق غير ملحقها وَصْمَا

وَلَم يُسلِها إِلّا المَنايا وَإِنَّما… أَشَدُّ مِنَ السُقمِ الَّذي أَذهَبَ السُقما

نضال ونبال:

لم يبق في جسم آلاء الغض مكان إلا تكسرت فيه النبال على النبال "فالفتاة التي يخشاها ابن زايد" كما يناديها الأديب الكبير والإعلامي الأستاذ أحمد فال ولد الدين كانت تواجه نظاماً عاتياً أوحى الشيطان إلى رأسه بن زايد عبر فلول الأنظمة العربية البائدة أنه مرسل من الأبالسة للقضاء على آمال التحرر والنهضة الحقة في المنطقة، وأن معجزته في ذلك حماية الصهاينة له فطفق يمول الثورات المضادة ويؤجر الحناجر واللحى ولما أوهمه غروره أنه أجهض كل حلم بالإصلاح، قالت له آلاء الصديق: "لن تعدو قدرك"، أنا لأوهامك بالمرصاد، فكانت هذه الفتاة عقدة عقده.

حياة المرحومة آلاء الصديق كلها نضال وكفاح لا يوجد باب من أبواب الجهاد السلمي إلا طرقته بشجاعة وبصيرة وإتقان؛ ففي النضال الطلابي أسست عام 2007 أول فرع لاتحاد الطالبات على مستوى الإمارات، وكان يوم فوز قائمة "المتحدة" بقيادتها يوماً مشهوداً في تاريخ القضية الطلابية في الخليج والإمارات، وفي ذلك اليوم الموافق 9 مايو/أيار 2007 سألت نفسها: "يا أنا ماذا يكونُ بين تحقيق الحلم وخسارته؟" وأجابت نفسها "قناعة".

 بتلك القناعة الراسخة قادت المأسوف عليها آلاء "الهيئة الإدارية الأولى للاتحاد الوطني لطالبات الإمارات"، لمدة عامين، ولما بلغ عمر الهيئة حولين وحان أوان فطامه قدمت آلاء ورفيقات دربها علياء وعائشة ووجدان وفاطمة ومريم وأروى استقالتهن وطوين عامين من أجمل الذكريات فتسلمت الهيئة الإدارية قيادة أخرى يوم 9 مايو/أيار 2009.

كان خطاب استقالة آلاء من أبلغ الخطابات وكانت الاستقالة نفسها وفاء مدنياً للتداول على المناصب القيادية في هيئات الطلاب سعت آلاء بكل فخر لترسيخه، تقول آلاء إنه أثناء الانتخابات الثانية التي فازت بموجبها قيادة جديدة للاتحاد "جلست في مكان تحت أشعة الشمس" كما تحب دائماَ "وفكرت بهدوء بالسؤال الذي يطرقها بعد كل عمل "لماذا نحن نعمل؟" تقول: "وفي كل مرة تتصارع الإجابات فلا ينتصر أحد حتى يبقى ذهني مشوشاً وأنسى السؤال، لكن هذه المرة جاءت الإجابة واضحة سريعة جلية جداً، "إننا نعمل لنحيا".

لا مجال للفراغ في حياة العظماء؛ فآلاء تقول وتدرك أن "اليوم الذي سنتخلى فيه بصورة انسحابية عن أدوارنا التي نحس أننا يجب أن نكون فيها سيكون يوم موتنا المعنوي"، وكان الميدان القادم لنضال آلاء بعد تأسيس فرع نقابي للطالبات هو قضايا المجتمع وهناك رمت آلاء نفسها على أخطر قضية اجتماعية في الخليج فطرحت سؤالاً "من أنا؟ سؤال يطرحه [البدون] في دولة الإمارات؟ وكتبت وصورت التقارير وسجلت بصوتها الفصيح مناهضة للظلم والتهميش.

وكانت الجملة التي آلمت آلاء أكثر خلال إعدادها للتقرير الميداني المنشور يوم 21 يوليو/تموز 2009 هو قول أحدهم  "هل من مجيب، والأوامر حبر على ورق. أرجوكم تكلموا واكتبوا عن الموضوع! لأننا نموت، والله العظيم إننا نموت. أطفالنا يموتون بين أيدينا ولا يوجد علاج. أرجوكم أن تراجعوا أي دولة ترغب في استضافتنا وسوف نكون خير شعب لتلك الدولة المستضيفة. نحن مستعدون حتى إلى جزر القمر، أو جامايكا، أو حتى غوانتانامو وجزر الواق واق".

بعد معضلة البدون كانت تحديات الخليج تكبر وتتسع، وكانت آلاء تزداد عزماً وحزماً فمن حقوق المرأة والنهوض بفتيات الخليج إلى قضية معتقلي الرأي وغياب الحريات والسعي لإقامة "القسط"، ودق ناقوس الخطر على مستقبل أمنه المائي، ورصد التطورات السياسية سنوياَ في الإمارات التي لم يكن يكتب عن قضايا سواها ثم مناهضة التطبيع الذي قادته بلادها.

مناهضة التطبيع عند آلاء تاريخ أطول من أيام عمرها القصير العريض، فمنذ الجامعة كانت آلاء تقود المهرجانات والفعاليات وحين نشرت يوم 22 مارس/آذار 2010 إعلان فعالية "يوم الوفاء لأرض الإباء" بمناسبة يوم الأرض في فلسطين كتبت "لا أملك ما أقوله.. لكنني سأكون هناك.. اللهم استعملنا ولا تستبدلنا"، وقبل ذلك كانت تتساءل "هل يحق لي أن أقول بأنني سأكون في جيش النصر الذي سيحرر القدس؟، أو أنني شاركت في تنظيم كذا من المهرجانات حين كنتُ في الجامعة، وساهمت في نشر منشورات عنها فيما مضى من السنوات.. ألم تكن هناك صحبة معينة وكان التيار كله يحملُ هذا الهم فكنت معهم".

ولأنه لا يليق بآلاء أن تكون نصرتها للقضايا العادلة خاضعة لأهواء التيار العام استجابة أو مجاراة للمزاج العام سألت نفسها ذات مرة هل سأستمر في الدفاع عن فلسطين بعد أن تتغير أمزجة الحكام وتابعيهم؟ فأجابت: "سأفعل ذلك مرة أخرى بل وأكثر من ذلك ولو كنتُ وحدي، سأكون أنا المتبوع لا التابع، ليعلم الجميع بالأمر، ستبقى هناك أجزاء تدافع عن هذا الوطن الأصيل الذي سكنني قبل أن يسكنه الآخرون" كان ذلك في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2009، وفي 2011 حين اشتد القمع في بلدها وأظهر بعض حكامه معاداة فلسطين كتبت أن "الطريق من القدس وإلى القدس"، وفي 2021 رفعت نفس اللافتة وغطت معركة "سيف القدس" وقادت المظاهرات في منفاها البريطاني.   

بين الإتقان ونقيصة الكمال:

حين مشاركة آلاء في الملتقى الشبابي الأول في المنامة 18 أبريل/نيسان 2010 كانت تدون ملاحظاتها عن الموضوعات والضيوف وكان مما كتبت "ثم بدأ د.محمد الأحمري في الحديث وبدأنا نحن في الاستماع المندهش لم يكن يحتاج لأي وسيلة من وسائل العرض فهو لوحده وسيلة، الحديث العميق الممتلئ والحروف الكبيرة لا تحتاج لألوان وصبغ وبهرجة، تحدث عن أمور كتبتها وسأعيد تلخيصها لأضعها هنا بإذن الله كي تعم الفائدة"، لم يكن أبو عمرو الأحمري حينها يعرف أي شيء عن هذه الفتاة وشاءت الأقدار أن يكون بعد ذلك بسنوات بمنزلة والدها حين عملت لسنوات معه في منتدى العلاقات العربية والدولية بالدوحة.

من محاسن الصدف أنه قبل يوم من رحيل آلاء جاء ذكرها عقب تسجيل حلقة من برنامج "أسمار وأفكار" فقال الدكتور الأحمري إنها ما رأى مثل إتقانها وإحسانها في عملها مع حسن أدب وقلة ضجيج حين كانت تشرف على مؤتمرات المنتدى واحتفالات جائزة حمد للترجمة، فيقول كانت تضع كل شيء في مكانه بدءاً من حضور الضيوف من أنحاء العالم إلى وضع الأقلام والأوراق في أمكنتها، والناس شهداء الله في أرضه وبمثل ما شهد الأحمري شهد جميع من عرف آلاء عن قرب أو بعد.

وقد لمحت هذا الأمر حين كانت تشرف على تأسيس موقع "الموقع" وتقوم لوحدها بتحرير أكثر المواد وَمنتجتها وفق فنيات الإعلام الجديد فتأتي المقالات والبحوث مدعمة بخرائط وصور وفيديوهات كأنها مقالات أخرى، كما أشهد لها بالحرص الشديد على إيصال الحقوق لأصحابها، فحين تركت الموقع لاحقت الكتاب في أقاصي الدنيا حتى وصلتهم تعويضاتهم ثم تفرغت لمنظمة القسط ومنظمات أخرى.

كانت آلاء في سعيها لإتقان أعمالها تحذر مما تسميه "نقيصة الكمال"، لأنها اكتشفت أن حرصها على أن تكون "الأمور على أكمل وجه يجرها إلى التأخر كثيراً"، كما أن الهوس بالكمال قد يضطرها لأمر آخر لا يرضاه العظماء الرساليون تقول: "فإصراري على القيام على عمل ما لوحدي يكلفني أن أكون لوحدي دون أن أتحمل أخطاء الآخرين -المحتملة- وبالتالي تعليمهم وإيجاد أفراد بإمكانهم أن يكونوا خلفاء"، ثم توصلت لهذه الخلاصة في 7 أبريل/نيسان 2009  "يخدعنا طلب الكمال وهو في جوهره نقيصة تؤخر الكثير".

جذوة الإيمان والفن والحبر

إن محن السجن والنفي والتشريد التي تعرضت لها آلاء الصديق وعائلتها المجاهدة تهد الجبال ولولا لطف الله وإخلاص آل الصديق لانهارت هذه العائلة وانسحق والدها في زنازين أبوظبي، وقد عصم الله آلاء بفضله وحسن تربيتها فما عاقتها هذه المحن عن العمل والعطاء والنضال، وكانت جذوة الإيمان التي أوقدها والدها فيها أقوى من كل التهديدات وحملات التشويه، لقد عرفت الله في الرخاء فعرفها في الشدة كان تدينها محبة قبل أن يكون خوفاً في إحدى رحلاتها للحرمين تقول: "سأغادر غداً إلى جوار الحبيب ثم إلى بيت الأحب، سأدعو الله أن يغير بي في الأمة، كم كنت أحتاجك أيتها الرحلة لأعيد ترتيب هذه الأوراق الصفراء الصغيرة المبعثرة".  

بجذوة الإيمان قاومت آلاء الطغيان والاستبداد واليأس وتغلبت على الصعاب فـ"الجذوة التي يجب أن تحميها كما تحمي ابن أختك من الوقوع من على حافة السرير"، وهذه الجذوة كما تخبرنا آلاء 18 أكتوبر/تشرين الأول 2011 هي  "السر، يمكنك أن تغير العالم بهذه الجذوة ويمكن للعالم أن يغيرك دونها، وأنت تعلم أنك تعلم، ربما تتذمر يغلق الطريق، يصعب الأمر حتى لا يخيل إليك أنه لا هواء أمام فمك وأنفك، لكنك تعلم أنك تستطيع لو أردت، وتعلم أن الجذوة لو أشعلتها، فلن يبقى هناك شيء مغلق إلا اليأس".

لم يكن في حياة آلاء يأس فكانت الحياة عندها دار سعي وكسب وكدح إلى الله تعالى تطوي المسافات نحو جلاله وجماله طي الأولياء ترنو بهمتها العالية إلى الفراديس منذ نشأت معلقة القلب بالله والملأ الأعلى، وعندها أن الأمنيات التي ضاقت عنها الدنيا تتسع لها الجنان، وكانت الجنة حاضرة في تفاصيل يومياتها، وقد اقتبست ذات يوم هذا الاقتباس ونشرته  "أشتاق للجنة، كيف تراها؟ الجنّة بالنسبةِ لي ليستْ مُجرّد حَقيقة قادمَة فقَط.. إنّها المَواعيد التّي تمّ تأجيلهَا رُغمًا عنّي.. والأماكِن التّي لا تستطيع الأرض مَنحي إياهَا.. إنّها الحُب الذي بَخلت بهِ الدنيَا.. والفرَح الذي لا تَتسعُ لهُ الأرضْ.. إنّها الوُجوه التّي أشتاقهَا.. والوجوه التّي حُرمت مِنها.. الجنّة موتُ المُحرّمات.. وموتُ المَمنوعاتْ.. الجنّة موتُ السُلطات.. الجنّة مَوت المللْ.. مَوتُ التّعب.. مَوت اليأسْ.. الجنّة موتُ المَوتْ..".

مع النضال والمصاعب والاقتراب كان لآلاء سبح طويل في عالم الفن والشعر والثقافة، فهي رسامة محترفة وترى أن "الرسم شيء يستحق أن تبدأ وتجربه أسلوباَ للسمو الروحي"، وتحب الرسم ومتعلقاته لأن "أغلب الأشياء التي تصب في الفن تحدث دون سابق إنذار"، وخلاصة مذهبها الفني قول محمد الغزالي "آن الأوان للفنانين أن يتدينوا وآن الأوان للمتدينين أن يتفننوا"، ومن لطائف ذوقها الفني أن تدوينتها عن مشاركتها في ورشة مكثفة عن الفن والرسم نشرتها قصدا في هذا التاريخ المميز 10-10-2010.

أطلقت آلاء عام 2010 مبادرة جماعية للقراءة على غرار مبادرة "قراءتي عبادة" السعودية، وكانت لها مبادرتها الخاصة بها بعنوان "101 صفحة نحو حياة أخرى" عرضت فيها عشرات الكتب في السيرة النبوية والأدب والرواية والمذكرات والسياسة والاجتماع والدواوين الشعرية، وقد استوقني من اختياراتها الشعرية قول الأميري:

وأنا أحسُّ بكاهلي الأعباءَ قاصمةَ الظُّـهورْ

أعباءَ كُلِّ الخلْقِ! وَيْلي كِدْتُ إعياءً أَمُـورْ

ورأيْتُ صَرْحَ الْمَجْدِ ينتظرُ الْجَسورَ ولا جَسورْ

وَوَجَـدْتُ هَمَّ العالَمـينَ بقلبِ إيماني يَسُـورْ

وكَـأَنَّ إِنْقَـاذَ الوُجُـودِ عَلَيَّ مِحْوَرُه يَـدورْ

وسَمِعْتُ ثَمَّ هَواتِفَ الأقدارِ: حَيَّ عَلَى العُبورْ

فَقَذَفْتُ نفسي! غَيْرَ أَنِّي شِمْتُ أجْنحةَ الطُّيورْ

بُسِطَتْ لِتحملني، وحطَّتْ بي على جَدَدِ المُرورْ

فتحتُ عيني، والخلافةُ في رُؤى أَمَلي الغَـيورْ

والرُّوحُ يَقظى، والأمـانةُ في دَمي نـارٌ وَنُورْ

والعَهْدُ في عُنُقي، وأمرُ اللهِ، في عَزْمي يَثـورْ

الرحيل الكاشف:

في 4 يوليو/تموز 2010 كتبت آلاء الصديق ما يلي "لا شيء كنت أريد أن أذهب لملتقى الفهم النهضوي في قطر، أخذت مقعدي، وأدخلت حقيبتي للشحن، وبقي المعبر الأخير للجوازات، استوقفني الضابط هناك وقال: اختي ممكن تروحين للغرفة إلي على الزاوية؟ ذهبت لهناك جاء هو وكان هناك ضابط آخر – آلاء أنتي ممنوعة من السفر – لماذا ؟ – لا أدري هذا أمر بينك وبين أمن الدولة.  استريحي وبنعطيج الجواز بعد ثوان".

آلاء لا تخاف ولا ترتعد فرائصها تقول: "جلست اقرأ كتاب حياة في الإدارة.. جاء الضابط ثم قال: آلاء يمكن انتي تملكين شي أو غيره عشان جيه منعوج تابعي الأمر؟ أملك! ماذا أملك.. أنا لا أملك سوى هذه الرغبة في التعلم.. والرغبة في أن يكون هذا الدين أجمل".

أسفت آلاء لعدم تمكنها من المشاركة في الملتقى النهضوي في كعبة المضيوم لم تستلم ازدادت رغبتها "في الحصول على الحرية.. غالية يا حرية.. سأتابع الأمر غداً مع علامة استفهام من الحجم الكبير.. ومزيد من النضال"، استمر نضال آلاء ولما تصلب أمن الدولة ومنعها من حق السفر والتنقل أنشدت قول الشاعر واتجهت نحو الدوحة:

إذَا شَالَتِ الْجَوْزَاءُ وَالنَّجْمُ طالِعٌ… فَكُلُّ مخَاضَاتِ الْفُراتِ مَعابِرُ

وَإِنِّي إذَا ضَنَّ الأمِيرُ بِإذْنِهِ… عَلى الإِذْنِ مِنْ نَفْسِي إذاَ شِئْتُ قادِرُ

في قطر التي امتنعت عن تسليم آلاء للحاكم الذي يخشاها ألقت عصا التسيار وواصلت دراستها العليا وعملت وكسبت صداقات عابرة للقارات، فرحيل آلاء وقصتها كشفا أن نظاماَ يتظاهر بالقوة قد تهزمه فتاة لا تملك إلا قلما وكاميرا وريشة رسام وقلب شاعرة وعقل فيلسوف وشجاعة أسد ومضاء سيف وجذوة إيمان لا تخمد إلا لتجدد.

كشف رحيل آلاء أن فتاة واحدة شجاعة خير من ملايين اللحى الجبانة، وأن مثقفة بصيرة تهزم جيوشاَ من المرتزقة، وأن متدينة مخلصة خير من مئات فقهاء السلاطين المنافقين، وكشف رحيل آلاء أن تسامح أبوظبي كذبة كبرى، وأن منتدى السلم أوجد لتشريع التطبيع مع الشعوب، وكشف رحيلها أن من رفعه الله فلا واضع له، ومن أعزه فلا مذل له.

مناجاة:

"ويا رب أتيتك حباً وألماً، وتفاؤلاً يا رب، يا رب أنا أعرف أنه كلما زاد السواد اقترب طلوع الفجر، وأنا أحب الفجر، لكن المحبة لا تكفي فيسر لي التخطيط لهذا الفجر ويسر لي أفراداً يعملون معي لهذا الفجر، لا يهمني أن أراه يا رب بقدر ما يهمني أن أعمل له جيداً جداً، لا يهمني لأنني أعلم أنه سيأتي ولا أعلم أكنت ممن يؤخره أو ممن يعجل به، يارب اجعلني ممن يعجل بالفجر"  آلاء الصديق 11 أغسطس/آب 2011.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

إبراهيم الدويري
أكاديمي وباحث موريتاني
أكاديمي وباحث موريتاني
تحميل المزيد