قرأتُها مرتين وأبكتني في كل مرة.. ماذا فعلتْ بي رواية “الطنطورية” لرضوى عاشور؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/02/16 الساعة 11:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/02/16 الساعة 11:44 بتوقيت غرينتش

لا أذكر آخر رواية بكيتُ أثناء قراءتها، ولكنني بعد سنوات من القراءة المتنوعة، ورغم أنني أقرأ الطنطورية للمرة الثانية عقب سنتين من القراءة الأولى بكيت مرتين.

تقول "الست رضوى" إن فكرة الكتابة عن المأساة الفلسطينية ظلت تطاردها وتلحّ على قلمها لسنوات، حتى جاءها وحي الاستهلال، فقررت أن تكتبها بعدما جاوزت الستين، وبحسب وصفها فقد أرادت أن تنتهي من هذا النص المؤجل.

ولعلها كانت على اطِّلاع على أحكام القدر، وتستشعر قرب النهاية، فجاءت حكايتها كزفير أخير، بَاحَت من خلاله بحكاية تكتظّ بكل أنماط التأجيل والتسويف.

رقية الطنطورية، جسد فلسطين الحي، تحمل حقائب الذاكرة، وتمضي بها بين بلدان العرب، مطرودة، منبوذة، أو مجبرة، كأي مهجّر لم تمنحه الحياة حق الاختيار. وحقائب رقية حافلة بالمآسي والذكريات المؤطرة بالغياب، فهي تحمل في جعبتها صوراً من مذابح اليهود وطرد الفلسطينيين في 1948، وصوراً من مجازر صبرا وشاتيلا، والاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982.

 أقرأ؛ فتتلون الكلمات أمام عيني بحمرة الدم، أتأمل الشتات الفلسطيني، والعائلة التي تناثرت كما الهشيم فوق خريطة غابت عنها كلمة فلسطين، ينفرط العقد فتتدحرج المصائر بين القارات بغير اتساق أو اتفاق، ولكن رقية الطنطورية، كما هو حال عشرات الآلاف، تحتفظ بمفتاح دارها، تعلقه فوق نحرها ليمتزج بلحمها، حتى تورثه لحفيدتها، رغم علمها أن الدار قد هدمت، وأن الحقول قد سرقت، وأن الاسم قد ذاب على عتبات النسيان.

تفقد الطنطورية، نسبة إلى قرية الطنطورة على ساحل فلسطين، الأب والشقيقين في اجتياح 1948، فتمضي إلى لبنان، وكأنها مكلفة بتتبع آثار المذابح، مقدر لها أن تشم رائحة الدم الطازج، والبارود الساخن، لتفقد زوجها الطبيب في مستشفى عكا خلال الاجتياح الإسرائيلي وجرائم صبرا وشاتيلا التي تفرق دمها بين عصابات الصهيونية وكتائب سعد حداد، يتسرب من بين كفيها حق العودة، تماماً كما تحرص على تسريب أبنائها بعيداً عن بؤر الدمار، ليرتحل صادق إلى أبوظبي، ويسافر حسن إلى مصر ليلتحق بجامعتها قبل أن يشد الرحال إلى كندا، ويظل عبدالرحمن مقاوماً شرساً لفترة طويلة، حتى يجيء رحيله إلى فرنسا ليكون بمثابة مهادنة لنفس ثائرة على طول الخط. 

الصبية الثلاثة، الذين صاروا رجالاً، يقاومون النكبة بدورهم، كل بطريقته، صادق الثري، ينفق على أطفال مخيمات لبنان، ويتبنى بعضهم في رحلة التعليم الجامعي، وحسن يكتب عن الحكاية كي لا تُنسى، ينزف القصة فوق الورق، مقالات وروايات، ويطلب من أمه الطنطورية أن تكتب تفاصيل الحكاية، فتمنحنا هذه الرواية. 

أما عبدالرحمن، فقد قرر أن يسلك طريق المطالبة بالحقوق عبر المحاكم الدولية، وبذلك ظلت المقاومة مستمرة، وإن تشردت العائلة بين قارات العالم.

مريم الصغيرة، التي تبناها أمين، زوج رقية، بعدما أفنت الحرب كامل عائلتها، تظل برفقتها، تراقب كل منهما تطورات الأخرى، دون أن تخبرنا الكاتبة إن كانت مريم على دراية بحكايتها الأصلية، أم أنها اقتنعت بكونها جزءاً من عائلة الطنطورية، وجدت "الست رضوى" في الأمر تفصيلاً هامشياً، فوحّدت بين الفاجعتين، الفلسطينية واللبنانية في جسد واحد، أحدهما يورث الآخر تاريخ النكبة، والثاني يضيف إليها نكبته الخاصة، دون فصل بين هويتين عمدت الكاتبة إلى صهرهما أسفل سقف الحكاية، لأن الواقع يوثق وحدة المرويّتين، ولا يصنفهما حسب الجنسية وجوازات السفر.

ما بين صيدا، ولبنان، وأبوظبي، فالإسكندرية، ثم العودة إلى صيدا، نعيش مع "الست رضوى" حكاية نكبة الطنطورية، متبوعة بالاجتياح الإسرائيلي للبنان، تنبش رقية الشواطئ بحثاً عن شاطئ الطنطورة، ولا تجده، فالبحر هنا حاضر كرمز للوطن المسلوب، الذي لا يمكن استبداله بمحيطات العالم. أعرف أننا قرأنا كثيراً عن النكبتين، الفلسطينية واللبنانية، وأثق أن أطناناً من الحبر قد انسكبت عبر السنوات مُشكّلة ملايين الحروف حول ذات الحكاية؛ روايات غسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا، وإلياس خوري، ومرويات الملهاة الفلسطينية لإبراهيم نصر الله.

 كل هؤلاء وغيرهم صاغوا ملاحم روائية خالدة عن نكبة الفلسطينيين ومأساة لبنان على حد سواء، ولكن ما هو المختلف في حكاية "الست رضوى"، المصرية، وزوجة الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، عن حكايات الآخرين؟

واقع الأمر أنني لا أقدر على وضع صيغة مناسبة لإجابة واضحة مفسرة لوجه الاختلاف، ولكنني مع كل هذا الكم من القراءات، ومع مرارة الهزيمة وقسوة الانكسار ولوعة الفقد والتهجير القسري، لم يبكني نص كما أبكتني "الست رضوى" مرتين خلال قراءتي لحكاية رقية الطنطورية، المشهد الأول كان استقبال رقية لمكالمة هاتفية من صديقتها وصال، بعد سنوات من الغربة والانفصال القسري عن رفيقة طفولتها، قالت رقية: "وصال؟" ثم انفجرت لتفرغ ما اختزنته من الدموع طيلة السنين التالية للنكبة، حتى إنها لم تنطق حرفاً واحداً بعد كلمة "وصال؟"، وبدوري بكيت معها ما اختزنته خلال قراءتي للفصول السابقة.

 المشهد الثاني الذي أسال دموعي جاء في فصول الختام، عاد حسن إلى فلسطين، وعادت أمه رقية إلى صيدا، فالتقيا مصادفة على الحدود، ليجمعهما عناق عبر أسوار شائكة، فتعرف رقية أن حسن قد أنجب ابنة سمّاها رقية، تحمل الجدة حفيدتها عقب تمريرها من بين الأسلاك، ثم تخلع من على جيدها الحبل الذي تُعلق فيه مفتاح دار تهدمت، وتضعه حول رقبة الرضيعة، وكأنها تمنحها آخر قطعة حية من جسدها، ليبكي حسن، وأبكي معه.

تهدمت الدار؟ ربما؛ ولكن الأمل باقٍ، والمفتاح سيورثه جيل إلى جيل، حتى لو كان المفتاح بلا باب، والباب بلا دار، والدار بلا أرض، المفتاح رمز العودة، وقلادة الهوية.

طرزت "الست رضوى" مرويتها باللهجة الفلسطينية، وزينتها بأهازيج وأغنيات من الفلكلور الشعبي الفلسطيني، هذا القدر من الإمساك بأدق التفاصيل لا يمكن أن تكتبه امرأة لم تعايشه، هذه الشهادة التوثيقية التاريخية لا يُعقل أن تخطّها كفّ لم تحمل أكفان الشهداء، ولم تمسح الدم السائل فوق جباه المصابين، ولم تنبش الأرض بحثاً عن الحيوات القابعة أسفل الأنقاض، كيف فعلت "الست رضوى" ذلك، كيف كتبت هذه الحكاية من منزلها في القاهرة؟ سؤال لا أجد له إجابة مقنعة.

أحببتُ كثيراً الاستهلال، ووصف الشاب/ الأمل/ العشق اليافع الأخضر الذي يطرحه البحر، الغلاف الذي حمل صورة حقيقية لشاطئ الطنطورة كان أضعف أثراً من غلاف طبعة تالية حملت صورة لقرية الطنطورة، العنوان لافت وجاذب للانتباه، أحببت الحكاية برمتها، بكل تفاصيلها وقسوتها الكاشفة لتخاذل وخيانة العرب، التي يمكن وضعها جنباً إلى جنب مع خسة الصهاينة، حكاية تسللت إلى وجداني ومست القلب بنصل واقعيتها، فخدشته، وغرست فيه شعوراً قاسياً بالتقصير والتخاذل، كل ذلك يأتي رغم أن هذه هي قراءتي الثانية للرواية، بعد سنتين من القراءة الأولى تغيرت الكثير من الأشياء منذئذ، اختلفت القدرة على الاستيعاب، ونضج الوعي، فزاد من عمق الأثر.

ماذا فعلتِ بي يا "ست رضوى"؟

فتحتِ أبواب الخزان، وحطمتِ جدرانه دقاً وصراخاً، ثم نثرتِ حبر الحكاية على جثامين قتلى غسان كنفاني، فاستردتهم الحياة، لتمنحهم حق الكلام بعد عقود من الصمت الثقيل.

رواية ينبغي أن تُدرج في مناهج الدراسة الإعدادية أو الثانوية، في كل أوطان العرب، ولو على حساب كتاب التاريخ الظالم، الذي يكتفي بذكر فلسطين في هوامشه، ويمنح أغلب صفحاته لتمجيد زعماء نسجوا ثوب زعامتهم بمغزل الزيف والكذب وتغييب الوعي.

في النهاية، يتداول الكثيرون أبيات مريد البرغوثي التي نظمها في عشق زوجته "الست رضوى"، التي قال فيها:

أنتِ جميلة كوطن محرر

وأنا متعب كوطن محتل

أنتِ حزينة كمخذول يقاوم

وأنا مستنهض كحرب وشيكة

إلا أنني، ومن وحي ذكر الرواية لحكاية بينيلوبي زوجة أوديسيوس في الأوديسة، والنول الذي تحايلت به على الخُطاب في انتظار عودة زوجها من حرب طروادة، أجد أن هذه الأبيات التي نظمها البرغوثي في هوى "الست رضوى" أكثر اتساقاً مع حكاية الطنطورية

على نَوْلِها في مساءِ البلادْ

تحاول رضوى نسيجاً

وفي بالها كلُّ لونٍ بهيجٍ

وفي بالها أُمّةٌ طال فيها الحِدادْ

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

هاجر بتول رقيق
طالبة إعلام جزائرية
هاجر بتول رقيق، طالبة بكلية علوم الإعلام والاتصال بالجزائر، كاتبة ومدوِّنة في العديد من المدونات والمنصات الشبابية، مهتمة بالقضايا السياسية والاجتماعية وكذلك الثقافة والأدب.
تحميل المزيد