أُم مرهقة وأطفال بلا إبداع.. ماذا يفعل البيت المرتب المنظم طوال الوقت في عقول أولادنا؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/09/09 الساعة 14:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/09/09 الساعة 14:51 بتوقيت غرينتش

 كان المتعارف عليه سابقاً فيما يخص البيوت وتربية الأطفال ودور الأم، أن البيت النظيف المرتب المنظم طوال الوقت يدل على أم فعالة تقوم بدورها جيداً، وأطفال حسني التربية، ويحسنون التصرف والسلوك، وبالتالي حياة سعيدة مستقرة مريحة.

ثم ظهرت صيحة تربوية تقول إن كل هذا يضر الطفل ويحد من قدراته الإبداعية، وإنه في حالة وجود أطفال فلا بد أن يكون المنزل في حالة فوضى، وأن نقبل ذلك في سبيل الحفاظ على صحة أطفالنا النفسية.

وبين هذا وذاك، احتار الآباء وتاهوا في اختيار الأصوب والأصلح، فأين الحقيقة؟

حسناً لكي نعرف الصواب وما علينا فعله واتباعه، علينا أن نرجع خطوات إلى الوراء لنرى الصورة بشكل أكبر وأوضح، وهذا ما سنفعله في السطور التالية.

تعالوا لنتخيل وضع بيت يسكنه أطفال، يلعبون ويجرون، ويحاولون التجريب والاستكشاف في أرجاء المنزل المختلفة، ويخططون لفتح الدواليب المغلقة والصعود على أسطح الطاولات، ويبنون مصاعد وناقلات من الوسادات ليصعدوا عليها ويصلون لما هو محرّم عليهم لمسه.

ثم نجد أواني المطبخ مرصوصة بالكامل في غرفة الجلوس، لماذا؟ لأن هؤلاء الصغار يريدون محاكاة الكبار، فيتركون ألعابهم ويذهبون للمطبخ حاملين الأواني والأطباق ليمارسوا بعض اللعب التخيلي في غرفة الجلوس.

أطفال يأكلون ولم يستطيعوا بعد التحكم الكامل في أناملهم وعضلات أيديهم، فيسقطون فتات الطعام حول المائدة، وآخرون أصغر سناً لم تكتمل قدراتهم على الانضباط الذاتي والبقاء بأماكنهم طوال فترة العشاء، فنجدهم يتناولون الوجبات وهم يجرون ويروحون ويجيئون.

وبالطبع ينتج عن كل هذا أرض متسخة ببقايا الوجبات، وسجاد به بقع عصير، وحائط عليه بصمات أصابع متسخة بصوص اللحم بالطماطم.

هذا طبعاً بجانب أكوام الملابس المتسخة التي تحتاج لغسيل وتنظيف، وأكوام الملابس النظيفة التي تم غسلها وتجفيفها بالفعل، وتنتظر ليتم طيها ورصها في أماكنها وعلى الرفوف.

ولن ننسى في تخيلنا لوضع ذلك البيت المطبخ وما يحدث داخله من عمليات معقدة لإعداد أشهى الأكلات الصحية واللذيذة لإطعام الأسرة بالكامل، والتي تعكف الأم بالساعات على تحضيرها وتسويتها وتقديمها جاهزة للتناول والأكل.

هل ذكرنا ترتيب الأسرّة وتنظيف الستائر، ومتابعة دراسة الأطفال، وتحميمهم ليلاً قبل النوم!

ماذا عن تمارين الأطفال، والذهاب بهم من النادي لمركز تعليم الفنون، ثم تدريب السباحة، عائدين للمنزل منهكين!

في ظل هذا التخيل، ماذا يعني البيت النظيف المرتب المنظم طوال الوقت؟

  • يعني أطفالاً غير مسموح لهم بالتجريب والاستكشاف داخل المنزل.
  • يعني قواعد صارمة وقيوداً موضوعة حول المهارات الإبداعية للطفل، والتي تبدأ قطعاً داخل المنزل ومن سن صغيرة.
  • يعني أطفالاً غير مسموح لهم بممارسة حقوقهم الطفولية في الخطأ وإحداث الفوضى.
  • يعني أطفالاً لا تتم مراعاة قدراتهم ومهاراتهم التي لم تنمُ وتكتمل بعد، في الحفاظ على النظام واتّباع الترتيب والقواعد، وتذكر أماكن الأشياء والحفاظ عليها.
  • أطفال غير مسموح لهم بالتحرك أثناء الطعام حتى لا يقع الفتات حول المائدة، والضغط على جهازهم العصبي الذي لم يكتمل بعد، ليمكنهم من البقاء في أماكنهم ساكنين لفترة طويلة.
  • يعني وضع الكثير من الضغوط على الطفل، والتي تسبب بدورها توتراً وتفرز هرمونات القلق داخل أجسامهم الصغيرة، فنعرّض هؤلاء الأطفال للإصابة بأمراض القلق النفسي وضعف الجهاز العصبي، وغيرها من الاضطرابات النفسية.
  • يعني سلب طفولة منطلقة سعيدة من الطفل، وإحلالها بطفولة منظمة مرتبة صارمة، ولكنها تعيسة، فجزء من سعادة الأطفال يكمن في الانطلاق والتجريب والخطأ وكسر القواعد أحياناً.

أما عن الأم في ظل ذلك البيت المنظم المرتب طوال الوقت، فحدّث ولا حرج.

  • حدّث عن تفانيها طوال اليوم في أعمال التنظيف والترتيب وإعداد الطعام.
  • أُم يومها بالكامل مشغول في متابعة القواعد وتطبيقها، ومراقبة ما ليس نظيفاً لتعيد تنظيفه مرة أخرى سريعاً حتى تحافظ على نظافة المنزل.
  • أم لا تسمح لنفسها بالراحة ولا بالترفيه، لأنه لا وقت لديها لذلك، فوقتها مشغول بالمنزل ومتابعته، وطاقتها تنفد بين المطبخ وأكوام الملابس.
  • وبالتالي تخرج لنا أُم بصحة نفسية مرهقة، أعصابها مشدودة طوال الوقت، تجري وراء الأطفال، تصرخ فيهم، وتكره يومها منذ بدايته.
  • أُم لا تستطيع الاستمتاع بأمومتها، ولا اللعب مع أطفالها؛ لأنها مثقلة بالمثالية والنظافة الزائدة، وخائفة من تهمة الإهمال في نظافة المنزل وترتيبه.
  • أم لا تمارس حقها الإنساني في أن تكون هناك جوانب مختلفة متعددة في حياتها، وليست حياتها بالكامل للتنظيف وترتيب الأسرّة وإعداد الطعام.
  •  لكل ذلك، ظهرت لنا صيحة "تربوية" تقول، لا لنظافة المنزل في ظل وجود أطفال، ومرحباً بالفوضى مقابل سعادة الأطفال وحريتهم.

فما أثر تلك الفوضى على الطفل وصحته النفسية؟

الطفل هو إنسان في المقام الأول، إنسان وُلِد صغيراً ويكبُر رويداً رويداً لتتشكل شخصيته ونفسيته، ويقوم بدوره في هذه الدنيا.

ولكي ينشأ الطفل بشكل مستقر نفسياً، فإنه يحتاج لمجموعة من الاحتياجات النفسية، مثل:

الاحتياج للنظام والترتيب

النظام والترتيب في حياة الطفل يجعله مطمئناً ومستقراً نفسياً، أن يحتاج إلى لعبة ما، فيعرف أن لها مكاناً محدداً يذهب إليه فيجدها ويلعب بها، وعندما يريد أن يلبس التيشرت المفضل لديه يطمئن أنه سيجده نظيفاً مطوياً داخل دولابه.

الاحتياج للكفاءة

يحتاج الطفل منذ صغره أن يؤمن أنه كفء، وأنه يستطيع القيام ببعض الأعمال، يستطيع ترتيب سريره صباحاً، ويستطيع المشاركة في إعداد المائدة، ويقدر أن يطوي لنفسه ولو قطعة ملابس واحدة، يشعر ويرى بنفسه أنه عضو فعّال داخل الأسرة، وليس مجرد كائن يحيا يأكل ويشرب دون فائدة.

وكل ذلك من خلال مشاركته في ترتيب المنزل وتنظيفه.

الاحتياج لتعلم المهارات

الإنسان من دون مهارات حياتية، مثل السيارة من دون وقود يحركها، هي سيارة مكتملة البناء، وهيكلها قوي، لكنها لا تستطيع التحرك للأمام، ولن توصلك لأي مكان دون وجود الوقود بداخلها.

الإنسان كذلك يحتاج لتعلم الكثير من المهارات لكي يحيا حياة سوية قوية، ليستطيع أن يتفاعل في المجتمع الذي يحيا به، وأن يكوّن علاقات اجتماعية، وأن يتعلم ويعمل وينتج، وأن يكون عضوا فعّالا في المجتمع.

يحتاج لمهارات مثل: إدارة الوقت، وترتيب الأولويات، وتقديم ما يحتاج العجلة، وتأخير ما ليس مُهماً.

مهارات مثل الحفاظ على نظام معين داخل البيئة التي يحيا بها، وأن يكون مسؤلاً عن إرجاع كل ما يستخدمه لمكانه نظيفاً ومرتباً.

كل تلك الاحتياجات والمهارات يكتسبها الطفل بشكل تلقائي، ويتم إشباعها إذا تعلم وتدرب على الحفاظ على نظافة منزله وترتيبه والمشاركة به.

ترتيب سريره يعلمه المشاركة، وإعادة ألعابه إلى صندوقها بعد استخدامها يعلمه النظام،

تقديم إعداد المائدة على تناول الطعام يعلمه مفهوم الأولويات.

وتخصيص وقت لطي ملابسه يعلمه إدارة الوقت واستثماره بشكل فعال.

المشاركة في نقل القمامة لمكانها يعلمه تحمل المسؤولية.

وعلى العكس، المنزل المليء بالفوضى والإهمال:

  • يوصل رسائل نفسية للطفل أن رغباته وميوله أهم من أي شيء آخر في الدنيا.
  • كما أن تلك الفوضى تجعله قلقاً غير مستقر، لا يعرف ما هو مطلوب منه، ولا المتوقع منه.
  • المنزل الذي يعمه الإهمال وعدم النظافة يدرّب الطفل على الإهمال، ويجعله يألف الاتساخ والفوضى.
  • كما أنه يسرق منه فرصاً يومية توفرها له الحياة ليتعلم مهارات حياتية، ولينمو نمواً صحيّاً
  • إضافة إلى تواجد الجراثيم وتكاثرها مع عدم الاعتناء بنظافة المنزل. وهذا خطر على الأطفال، ويعد انتهاكاً لحقوقهم في الحصول على بيئة آمنة نظيفة صحية.
  • وفي السن الصغيرة، تعرّض الفوضى الطفل لعديد من المخاطر. فالقلم الذي قد يجده نتيجة الإهمال سيحاول جاهداً وضعه في قابس الكهرباء؛ ما يعرّض حياته نفسها للخطر.

ما بين هذا وذاك ماذا نفعل؟!

السر في التوازن، البيت المنظم المرتب بشكل دقيق مرهق ومؤذٍ للطفل ولأصحاب البيت، 

والمنزل الذي تعمه الفوضى أيضاً منزل قلق غير مريح، وبيئة غير صحية للتنشئة

مهم جداً أن يتم وضع بعض القواعد، وأن يتمسك الآباء بتطبيقها.

كما أنه مهم أيضاً أن تكون هناك مرونة، أن يسمح الآباء ببعض الفوضى البسيطة.

  • أن نسمح بإخراج الأواني من المطبخ للعب بها، على أن تتم إعادتها مرة أخرى بعد انتهاء الأطفال من استخدامها.
  • ألا يرتب الطفل سريره يوماً لو كان مرهقاً أو بمزاج سيئ، وأن تصنعه مكانه الأم، بشرط أن يكون هذا حدثاً استثنائياً لا منتظماً.
  • أن تتغاضى الأم عن تنظيف الستائر، وقد تؤجل طي بعض الملابس لفترة، مقابل أن تستريح وتأخذ وقتاً خاصاً لها يمكنّها من العيش والتفاعل مع الأسرة بشكل إيجابي وصحي.
  • لا بأس من تراكم الأواني بحوض المطبخ، في سبيل أن تلعب الأم مع أطفالها وتقضي معهم وقتاً ممتعاً.
  • لا مانع من ترك الأرضيات متسخة يوماً، مقابل الترفيه عن الأطفال وصناعة ذكريات سعيدة معهم، تخلد في ذاكرتهم للأبد.

نعم نقول تربوياً لا للمبالغة في نظافة المنازل والحفاظ على ترتيبها بصرامة، كما أننا نطالب بحقوق الطفل في العيش في بيئة آمنة نظيفة وصحية، تعتني به وتعلّمه المهارات وتنمي لديه القدرات.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
يسرا القارح
مدربة صحة نفسية ومدربة أسرية
مدربة صحة نفسية ومدربة أسرية
تحميل المزيد