التدخين هناك ممنوع.. كيف تبدو اليوم مدينة ملك الحبشة “مقلى” التي احتضنت صحابة الرسول من أذى قريش؟

عدد القراءات
9,248
عربي بوست
تم النشر: 2018/08/29 الساعة 08:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/30 الساعة 12:08 بتوقيت غرينتش

كثيراً ما كنتُ أُمنِّي نفسي بزيارة مدن الشمال الإثيوبي، وخاصة مقلي، أو Mekele "باللغة الإنكليزية"، حاضرة إقليم التغراي، والمدينة التي سطَّرت أروع صفحات التاريخ والنضال في إثيوبيا، كيف لا وهي عاصمة الإقليم الذي شهد مقرّ رئاسة أقدم الممالك التاريخية "مملكة أكسوم" الحبشية المسيحية، التي شملت إثيوبيا القديمة كلها، ولاحقاً احتضنت تلك المنطقة صحابة النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- عندما أوصاهم الرسول بالهجرة من مكة المكرمة إلى أرض الحبشة، قائلاً إن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد.

ومقلي التي يُطلِق عليها الأهالي لقب "نجمة الشمال" كانت أيضاً مقراً لسلطة الإمبراطور يوهانس الرابع "بالعربية يوحنا"، الذي منح نفسه لقب "ملك ملوك إثيوبيا" منذ سنة 1872م وحتى وفاته في سنة 1889م، مع العلم أن بالمدينة متحفاً يضم قصر الإمبراطور، ولا تزال بعض أجزائه ومقتنياته سليمةً كما هي رغم طول المدة. وبالقرب من مقلي وقعت معركة "عدوة" الشهيرة مع الجيش الإيطالي، الذي حاول غزو إثيوبيا، ولا ننسى كذلك أن نجمة الشمال انطلقت منها شرارة الثورة ضد نظام الدكتاتور منجستو هايلي مريام، حتى سقط في العام 1991 على يد الثوار ليتولى الحكم بعده ابن مدينة مقلي مليس زيناوي، إلى حين وفاته بعلةٍ مفاجئة عام 2012م.

مدينة تحظر التدخين في الأماكن العامة!

لكل تلك الأسباب وغيرها كنت أتشوَّق إلى زيارة هذه المدينة الرائعة التي تشتهر بجمالها ونظافتها، حتى وصلت مرحلة طبَّقت فيها قانوناً يحظر التدخين في الأماكن العامة، وإذا أراد شخص ما التدخين في مكانٍ عام فإن الأهالي لن يسمحوا بذلك وسيخبرونه بأن التدخين ممنوع حتى لو كان الشخص غريباً زائراً. خططت لزيارة المدينة عدة مرات، لكنني لم أحظَ بتحقيق هذه الأمنية إلا في الصيف الحالي، وبالتحديد خلال أيام عيد الفطر المبارك.

ويمكن السفر إلى عاصمة إقليم تغراي بالطريق البري، الذي يربطها مع العاصمة أديس أبابا، ولكن الرحلة بالسيارة شاقة ومتعبة لكثرة المرتفعات وبُعد المسافة؛ إذ تصل الرحلة بين المدينتين إلى 14 ساعة تقريباً. أما الخيار الآخر المفضل للكثيرين فهو السفر عند طريق الطيران، حيث تسيّر الخطوط الإثيوبية نحو 8 رحلات يومياً بين العاصمة ونجمة الشمال.

منظر جزئي لمدينة مقلي

بالطبع اخترنا السفر عن طريق الطيران، وألفتُ في هذه الجزئية إلى أن الخطوط الجوية الإثيوبية تمنح تخفيضاً يصل إلى 10% على أسعار الطيران الداخلي، عند الحجز عن طريق تطبيقها الرسمي على أجهزة الجوال المختلفة، وفي الوقت نفسه تُعامِل الناقلة الزائر الأجنبي معاملة المواطن الإثيوبي في حالة إبرازه ما يفيد بأنه قدم إلى البلاد بتذكرة دولية على متن الشركة، أما إذا وصل عن طريق ناقلة أخرى أو بالبر من إحدى دول الجوار فسيضطر لشراء التذكرة الداخلية بسعرٍ مضاعف.

توقيت إثيوبي خاص

اخترنا رحلة الثانية ظهراً بالتوقيت العالمي، ونشير هنا إلى أن التوقيت الإثيوبي مختلف عن العالمي، فالساعة الواحدة عندهم تكون مع شروق الشمس، لأنهم يعتقدون أن اليوم يبدأ من لحظة الشروق وظهور الضوء. ولكن شركة الخطوط الإثيوبية والمؤسسات المرتبطة بالأجانب مثل هيئة الجوازات والفنادق والمؤسسات السياحية تلتزم بالتوقيت العالمي حتى لا يسبب ربكة للسياح.

هبطنا في مطار مقلي حوالي الثالثة ظهراً، فالرحلة تستغرق نحو ساعة تقريباً. المطار صغير ربما لأنه يستقبل الرحلات الداخلية، لكنه أنيق المنظر رغم البساطة، نظيف وإجراءاته دقيقة، يتم التأكد من هوية الشخص المغادر وحقائبه بسرعة قبل الخروج. المطار به كافيهات وأماكن للانتظار، فضلاً عن مكتب لصرف العملة وخدمات أخرى لا بأس بها.

بعد الخروج من المطار وجدنا أسعار سيارات الأجرة موحدة، حسب التعريفة التي وضعتها السلطات، ولا مجال للمفاصلة أو الجدال. وفي طريقنا إلى مقر الإقامة أخذت أتأمَّل البنايات الحديثة والحركة العمرانية. لم أتعجب من ذلك، فمقلي وإن تمّ تحديثها كسائر المدن الإثيوبية عقب النهضة التي بدأت في تسعينات القرن الماضي، كانت منذ القِدم حلقةً للوصل بين إثيوبيا وإرتريا في الشمال، وبين إقليم العفر شرقاً، وإقليم الأمهرا غرباً، كما كانت مركزاً تجارياً ومعلماً تاريخياً مهماً في الشمال الإثيوبي والمنطقة، ساعدها على ذلك قربها من الأماكن التاريخية مثل مدينة أكسوم المقدسة عند المسيحيين، إلى جانب مدينة وقرو، مسقط رأس الملك النجاشي، الذي استقبل صحابة رسول الله، وفيها لا يزال مسجده قائماً إلى اليوم وقبور الصحابة كذلك.

طرق نظيفة وأجواء جميلة

المتأمل لشوارع المدينة يلاحظ هدوء المكان مقارنة بصخب العاصمة، ويجد الطرق واسعة مسفلتة بشكلٍ جيّد، مثل باقي المدن الكبرى كبحر دار وهوّاسا وهرر. وهناك انتشار كثيف للمركبات ثلاثية العجلات "باجاج" كما يسمونها، ونطلق عليها في السودان اسم "الركشة"، وهي وسيلة المواصلات المفضلة للسكان المحليين إلى جانب "الميني باص"، ولا يستخدم السكان التاكسي إلا للمشاوير البعيدة داخل المدينة وخارجها أو للذهاب إلى المطار.

أحد الشوارع التجارية في المدينة

في تلك الأيام كانت عاصمة إقليم تغراي لا تزال تشهد فرحة عيد الفطر المبارك، ومجتمع مقلي كسائر المجتمعات الإثيوبية متعايش في سلامٍ ومحبة، تجد معتنقي الديانات المختلفة يهنئون المسلمين بعيدهم، وهناك حركة دؤوبة واضحة في الأسواق والمطاعم مع احتفالات العيد.

الطقس كان معتدلاً مع الأجواء الغائمة، والمطر هنا قليل مقارنة بالعاصمة أديس أبابا، حيث لا تهطل الأمطار كثيراً إلا في الأمسيات، بعكس العاصمة التي تشهد نزول الغيث عدة مرات في اليوم الواحد، لكن الأجواء عموماً جميلة، والرذاذ يستمر لساعاتٍ طويلةٍ أحياناً، بالطبع لن تجد مكيفات الهواء في فنادق نجمة الشمال الإثيوبي؛ لأن درجات الحرارة لا تزيد عن 26 درجة مئوية كحدٍّ أقصى.

وهناك أغنية لا تزال عالقة بذهني؛ إذ إنها كانت قد صدرت حديثاً وسرعان ما فرضت نفسها على الأماكن العامة ولامست وجدان الشباب. في مقلي نجدها في كل مكان، في الكافيهات والمواصلات العامة والمراكز التجارية، فالمواطن الإثيوبي معروف بأنه عاشق للموسيقى، وترتبط بها حياته العامة. الأغنية للفنان الصاعد Nhatty Man، وتحمل اسم Yemegemeriyaye "يمجمر ياي"، وتعني بالأمهرية "لأول مرة أحب بإصرار" 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد جامع
صحفي متخصص بالشأن الأفريقي
محمد مصطفى جامع، كاتب وصحفي سوداني، حاصل على بكالوريوس الإعلام من جامعة وادي النيل، أعمل حالياً على ماجستير في الإذاعات الرقمية، أجد نفسي في الكتابة عن دول شرق إفريقيا، ونُشرت لي عنها أكثر من 300 مقالة وتقرير في عدة صحف عربية، أعشق القهوة وأحب الحوار الهادئ المتعمق.
تحميل المزيد