من المقرر أن يسافر الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى آسيا لحضور فعاليات دبلوماسية في الهند وفيتنام، لكنه تجاهل خلال هذه الرحلة حضورَ قمتين بارزتين في المنطقة هما قمة الآسيان وقمة شرق آسيا، وهو ما أثار الغضب بين بعض الدبلوماسيين في جنوب شرق آسيا، ودفع مراقبين للقول إن هذا التجاهل ربما يقوض الجهود التي تبذلها واشنطن للفوز بصراع النفوذ بينها وبين الصين على الهيمنة في تلك المنطقة.
وغاب بايدن عن قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) و"قمة شرق آسيا" اللتين يتزامن انعقادهما في جاكرتا بإندونيسيا، بدايةً من 4 سبتمبر/أيلول إلى الخميس 7 سبتمبر/أيلول، وقد أرسل نائبة الرئيس كامالا هاريس بدلاً منه.
ولئن كانت واشنطن ترى أن قرار الحضور يتعلق بجدول برامج الرئيس في المقام الأول، فإن ثلاثة دبلوماسيين أمريكيين وآسيويين مطلعين قالوا إن كثيراً من المسؤولين والدبلوماسيين في إندونيسيا وبعض دول جنوب شرق آسيا يرون أن غياب بايدن عن حضور القمتين يدل على استخفاف دبلوماسي واضح بهم، حسب ما ورد في تقرير لمجلة The Foreign Policy الأمريكية.
وقال المسؤولون إن هذا التجاهل المتصوَّر، وإن لم يقطع الطريق على الحملة الدبلوماسية الأمريكية المستمرة منذ سنوات لكسب النفوذ في المنطقة وترسيخه في مواجهة الصين، إلا أنه قد يُعطِّل خطواتها.
غياب بايدن عن قمة الآسيان أضاع عليه فرصة تعزيز المكاسب في ظل تراجع التأييد للصين
وفي معرض الحديث عن تأثير الأمر في الدوائر الداخلية للمشاركين في قمة آسيان، قال أحد كبار الدبلوماسيين الآسيويين، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، إن "خيبة الأمل هي الكلمة المعبرة عن الأمر"، "فغياب بايدن سيكون تأثيره محسوساً طوال الوقت، وهي فرصة ضائعة لتعزيز المكاسب في وقت يتراجع فيه تأييد الصين".
وكتب كورنيليوس بوربا، كبير محرري صحيفة Jakarta Post قبيل القمة: "من الناحية الدبلوماسية، فإن غياب بايدن إهانة للرئيس [الإندونيسي جوكو ويدودو]"، "وتخلُّف الرئيس الأمريكي عن القمة المنعقدة في جاكرتا إنما يدل على أن إندونيسيا لم تعد ذات أهمية كبيرة للإدارة الأمريكية، التي ربما باتت ترى أن جاكرتا أكثر ميلاً إلى المنافس الأبرز لواشنطن، بكين".
إندونيسيا غيرت موعد القمة لكي تشجع بايدن على الحضور
وقال مسؤول أمريكي ومسؤول من شرق آسيا إن أحد الأسباب التي دفعت إندونيسيا إلى تقديم موعد قمة الآسيان من نوفمبر/تشرين الثاني (الشهر الذي كانت تُعقد فيه) إلى سبتمبر/أيلول، كان أن تستحث بايدن وزعماء مجموعة العشرين على حضور الاجتماعات في جاكرتا. وهو ما يزيد استياءهم من عدم حضور بايدن إلى القمة. ومع ذلك، يقال أيضاً إن إندونيسيا غيَّرت موعد القمة لتجنب تعارضه مع موسم الحملات الانتخابية المقبلة في البلاد، والذي يستمر من نوفمبر/تشرين الثاني إلى فبراير/شباط من العام المقبل.
قال جوشوا كورلانتزيك، وهو زميل بارز لشؤون جنوب شرق آسيا في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي: "ترى دول جنوب شرق آسيا و[أعضاء قمة شرق آسيا] أنها مراكز مهمة في النقاش بشأن قضايا البنية الإقليمية والبحث عن حلول المشكلات في المنطقة، وأن رؤساء الولايات المتحدة لا يُولونهم قدر الاحترام نفسه الذي يتعهدون به للاجتماعات الأوروبية على سبيل المثال".
البيت الأبيض يقول إن بايدن استضاف أول قمة أمريكية مع الآسيان
في المقابل، لم يرد مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض على طلب التعليق. لكن عدة مسؤولين بالإدارة الأمريكية قللوا من أهمية الانتقادات لغياب بايدن عن جاكرتا، وأشاروا إلى أن بايدن استضاف في عام 2022 أول قمة على الإطلاق بين الولايات المتحدة ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) في البيت الأبيض في واشنطن.
كما عيَّن بايدن سفيراً للولايات المتحدة لدى الكتلة السياسية لجنوب شرق آسيا، ليشغل المنصب الدبلوماسي الذي ظل يعتمد على قائم بالأعمال أكثر من خمس سنوات.
ولفتوا كذلك إلى أن بايدن يُولي أهمية كبيرة لتحركاته المقبلة في الهند وفيتنام ويعدُّها ركناً مهماً في استراتيجية إدارته للسياسة الخارجية في آسيا.
وقال المسؤولون الأمريكيون أيضاً إن حضور هاريس يظهر تمسُّك الولايات المتحدة بالشراكة مع دول الآسيان. وهي رابع زيارة تُجريها نائبة الرئيس الأمريكي إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والثالثة إلى جنوب شرق آسيا خلال العامين الماضيين.
الرئيس الأمريكي يركز على فيتنام
ومن المقرر أن يزور بايدن الهند لحضور قمة زعماء مجموعة العشرين المقرر عقدها في الفترة من 9 إلى 10 سبتمبر/أيلول، ثم يسافر بعد ذلك إلى فيتنام لعرضِ "شراكة استراتيجية" جديدة مع دولة تراها الإدارة الأمريكية ذات أهمية كبير في مساعي إضعاف تقدم الصين في جنوب شرق آسيا.
ولن يحضر الرئيس الصيني شي جين بينغ قمة الآسيان ولا قمة مجموعة العشرين، وسيذهب بدلاً منه المسؤول الثاني، رئيس مجلس الدولة (البرلمان الصيني) لي تشيانغ.
لكن سواء أكان غياب بايدن ناتجاً عن استخفاف مقصود بإندونيسيا أم عن تضارب في برنامج جولاته، فإن التركيز المتزايد على غياب الزعماء الأمريكيين والصينيين وحضورهم لهذه القمم الدبلوماسية الكبرى يسلط الضوء على تزايد حدة التنافس بين القوى العظمى على النفوذ والتأثير في الساحة العالمية.
وقال غريغوري بولينغ، الخبير في شؤون جنوب شرق آسيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إن الولايات المتحدة عليها أن تولي المزيد من التركيز والاهتمام بشؤون القوى الإقليمية التي لم تحسم أمرها بالانحياز إلى واشنطن أو إلى بكين. وقال: "إذا اندلعت منافسة استراتيجية طويلة الأمد بين الولايات المتحدة والصين بشأن النفوذ بين دول عدم الانحياز في الجنوب العالمي، فإن إندونيسيا والهند وفيتنام دول ذات تأثير بالغ الأهمية في هذا السباق".
قوة تجمُّع الآسيان تتراجع
مع ذلك، فإن غياب بايدن عن قمة الآسيان وإن كان لافتاً للأنظار ومثيراً لشيء من خيبة الأمل لدى دول المنطقة، إلا أنه من المستبعد أن يكلف الولايات المتحدة ضرراً يُعتد به على المدى الطويل، فقوة هذه الكتلة الإقليمية ونفوذها في تراجع. وأقر الدبلوماسيون سراً بأن رابطة دول جنوب شرق آسيا متعثرة بسبب الافتقار إلى الرؤية الاستراتيجية فيما يتصل بالتعامل مع التحديات القائمة، مثل مطالبات الصين بضم أجزاء متنازع عليها من بحر الصين الجنوبي، والحرب في أوكرانيا، وأمور أخرى. وهو ما يُضعف نفوذ الكتلة وتأثيرها الجيوسياسي.
جديرٌ بالذكر أن رابطة آسيان تتكون من عشر دول تقع في جنوب شرق آسيا، وهي بروناي، وكمبوديا، وإندونيسيا، ولاوس، وماليزيا، وميانمار، والفلبين، وسنغافورة، وتايلاند، وفيتنام، على أن ميانمار عُزلت عن الكتلة بعد استيلاء المجلس العسكري على السلطة في عام 2021. أما "قمة شرق آسيا"، فهي منتدى موسع لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، إذ يضم جميع أعضاء الآسيان العشرة، ومعها أستراليا والصين والهند واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية وروسيا والولايات المتحدة.
ويأتي غياب بايدن عن مؤتمرات القمة في إندونيسيا في وقت كان يمكن فيه لواشنطن أن تغتنم الأخطاء الدبلوماسية الكبرى التي ما انفكت بكين ترتكبها، لا سيما أن هذه الأخطاء قللت من إحسان الظن بالصين بين دول المنطقة، وانتقصت من التأييد السابق لها.