تواصل إدارة جو بايدن سياسة أمريكا الهادفة إلى تجريد كوريا الشمالية وزعيمها كيم جونغ أون من السلاح النووي تماماً، فكيف ولماذا قد يؤدي هذا "الحلم" إلى "كابوس"؟
ففي البداية تركّز الهدف الأمريكي على "احتواء" كوريا الشمالية، ومنعها من الحصول على أسلحة نووية، لكن فشلت واشنطن وامتلكت بيونغ يانغ بالفعل أسلحة نووية وصواريخ باليستية بعيدة المدى، لكن لا تزال الاستراتيجية الأمريكية تقوم على إجبار الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون على التخلي عن برنامجه وأسلحته النووية عبر العقوبات.
ومنذ تولي بايدن المسؤولية، أشعل الصراع الجيوسياسي مع الصين، ما أثار سباق تسلح شرساً في مناطق جنوب وشرق آسيا والمحيطين الهادئ والهندي، ما أضاف بعداً جديداً أكثر خطورة للموقف المتوتر في شبه الجزيرة الكورية.
"الحلم" الأمريكي بشأن نووي كوريا الشمالية
هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الكورية الجنوبية، قالت الإثنين 24 يوليو/تموز، إن كوريا الشمالية أطلقت صاروخين باليستيين قصيري المدى باتجاه البحر الشرقي، وأكدت هيئة الأركان أن الجيش الكوري الجنوبي يجري تقييماً شاملاً بشأن مواصفات الصاروخين، حسب وكالة "يونهاب" المحلية.
سقط الصاروخان في المياه التي تسميها كوريا الجنوبية "البحر الشرقي"، وتطلق عليها طوكيو "بحر اليابان"، وأعرب خفر السواحل الياباني، في بيان، عن اعتقاده بأن "الصاروخين سقطا بالفعل"، لكنه حثّ السفن في المناطق المتضررة "على توخي الحذر من الحطام المتساقط"، حسب وكالة "أسوشيتد برس".
هذه التجارب الصاروخية التي تجريها بيونغ يانغ بصورة متسارعة للغاية تشير إلى أن السلام في شبه الجزيرة الكورية يبدو اليوم بعيد المنال، أكثرمن أي وقت مضى.
إذ ترفض كوريا الشمالية صراحةً إجراء محادثات مع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، وفي الوقت نفسه يعجّل زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون بالعمل في برامجه النووية والصاروخية على السواء، بهدف استهداف الأراضي الأمريكية.
ونشر موقع Responsible Statecraft الأمريكي تحليلاً عنوانه "استيقظوا: تجريد كوريا الشمالية من الأسلحة النووية حلم سينتهي بكابوس"، يلقي الضوء على الاستراتيجية التي تصر عليها واشنطن، وما يمكن أن تؤدي إليه في نهاية المطاف.
فالكثير من التعليقات الأمريكية على كوريا الشمالية تميل إلى التشدد، إذ لا يثق معظم صانعي السياسة في أنها قد تفعل أي شيء بخلاف الإفساد والفوضى. وبالتالي يفترض كثيرون أن كيم لن يوافق على أي شيء- والأهم أنه لن يفي بأي اتفاق- أقل من غزو كوريا الجنوبية.
لكن الوقت الذي أمضاه كيم في سويسرا، وإن لم يحوله إلى ليبرالي، أثار اهتمامه بالإصلاح الاقتصادي، ورغم أنه لم يبدِ أي اهتمام بالتخلي عن برنامج بلاده النووي، أظهر موهبة دبلوماسية ويبدو أنه يعترف بالواقع.
وتقوم السياسة الأمريكية على أن كيم يهدف إلى "التهام" كوريا الجنوبية وإعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية، التي شهدت حرباً طاحنة بالوكالة أثناء الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي، انتهت بتقسيم شبه الجزيرة ووجود منطقة منزوعة السلاح بينهما هي أكبر حقل ألغام في العالم، إضافة إلى أكثر من 35 ألف جندي أمريكي للدفاع عن كوريا الجنوبية.
لا يوجد أي شيء يوحي بأن كيم يعتقد فعلاً أن غزو كوريا الجنوبية ممكن، وهذا أحد أسباب امتناعه عن إبرام اتفاق يشمل التخلي عن الأسلحة النووية، لأن ذلك سيجعله عرضةً للهجوم الأمريكي، لكن هذا لا يعني أنه يعارض إبرام أي اتفاق، ما دامت كوريا الشمالية لا تزال قوة نووية.
ما موقف كيم جونغ أون؟
ربما كان العرض الذي قدمه كيم جون أون في هانوي- إغلاق مفاعل يونغبيون النووي مقابل تخفيف كبير للعقوبات- غير مقبول للأمريكيين، ولكن هذا حال معظم العروض الأولية. وكان من الممكن أن تسفر المفاوضات عن شيء يستحق العناء، مهما كان محدوداً، لكن الرفض الأمريكي المتشدد والإصرار على بدء التفاوض من نقطة مرفوضة تماماً لكوريا الشمالية، وهي التخلي تماماً عن الأسلحة النووية، يعني ببساطة أن الولايات المتحدة لن تعرف ما الذي يستعد كيم لفعله.
فما الذي على واشنطن أن تفعله الآن؟ يرى تحليل الموقع الأمريكي المختص بالتحليلات السياسية والاستراتيجية أن إدارة بايدن فعلت كل شيء تقريباً، إلا أن كيم يدرك أن واشنطن لا تقدم جديداً. وتصر الولايات المتحدة على تعهد بنزع السلاح النووي، وهو ما لن يتحقق، فجنوب إفريقيا وحدها، في ظروف فريدة، فككت عدداً محدوداً من أسلحتها النووية، واحتمال أن تحذو كوريا الشمالية، حتى إذا تغير النظام وأصبحت ديمقراطية، حذو جنوب إفريقيا ليس قوياً.
في هذا الإطار، وعوضاً عن أن تمنع الولايات المتحدة المفاوضات من البداية، عليها أن تسعى إلى المزيد من الاتفاقيات المحدودة للحد من الأسلحة النووية. وليس على واشنطن أن تتخلى عن أملها- أو ربما وهمها– بأن تتخلى بيونغ يانغ عن أسلحتها النووية بالكامل. ولكن عليها ألا تطالب بموافقة كوريا الشمالية على ذلك. والنجاح في الحد من الأسلحة لا يتعارض مع نزع السلاح النووي، وإذا تغيرت الظروف، فبإمكان واشنطن إحياء هذا الهدف.
لكن السؤال الذي سيظل مطروحاً: كيف يمكن حث كيم على الدخول في محادثات، حتى لو كانت عن الحد من التسلح وليس نزع أسلحته النووية بالكامل؟ ربما من الضروري أن يشعر أن الولايات المتحدة غيرت موقفها، وهذا قد يتطلب أكثر من بيان صحفي من وزارة الخارجية، وفضلاً عن ذلك، منذ قمة هانوي الفاشلة، عززت حكومته موقفها التفاوضي.
فقد أطلقت بيونغ يانغ نحو 100 صاروخ العام الماضي. ويفترض أنها تقترب من تطوير ليس فقط صواريخ باليستية عابرة للقارات، وإنما رؤوس MIRV الحربية المتعددة لتلك الصواريخ العابرة للقارات أيضاً. وقد توسعت أهداف النظام: "فتطوير صاروخ Hwasongpho-18 الجديد من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات يغير مكونات الردع الاستراتيجي في كوريا الشمالية على نطاق واسع، ويُعزز موقف الهجوم المضاد النووي، ويحدث تغييراً في التطبيق العملي لاستراتيجيتها العسكرية الهجومية". ولن يضحي كيم بهذه الخطط لأجل سياسة إدارة بايدن الفوضوية، بحسب الموقع الأمريكي.
كيف يجب أن تتصرف واشنطن؟
على المسؤولين الأمريكيين التعبير عن اهتمامهم بمناقشة الأفكار لتقليل التوترات. وهذا قد يشمل دراسة تدابير لزيادة الاتصالات الشخصية والرسمية بين البلدين، وتخفيف العقوبات المفروضة على المعاملات التجارية.
فبوسع واشنطن أن تعرض تعليق بعض القيود الاقتصادية إذا بدأت محادثات جادة، وعليها أن تشترط أن أي فوائد مطروحة مقدماً يمكن التراجع عنها، لتشجيع بيونغ يانغ على الوفاء بوعودها، والهدف الأول يجب أن يكون الحد من حجم ومدى وصول الصواريخ والأسلحة النووية لكوريا الشمالية. وبالنظر إلى التحذيرات من أن نظام كيم في طريقه لاكتساب 240 سلاحاً نووياً في السنوات القليلة المقبلة، فتجميد ذلك يستحق تعويضاً مناسباً.
لكن المعارضة للمحادثات مع كوريا الشمالية في واشنطن قوية، إذ يراها بعض المتشددين في الدبلوماسية استسلاماً، وهذا موقف "أحمق"، بحسب وصف Responsible Statecraft، فالتحدث مع الأعداء أهم من التحدث مع الحلفاء. وسوء تفاهم بين واشنطن وسيول لن يؤدي إلى حرب، لكن لو استمرت الولايات المتحدة وكوريا الشمالية في مسارهما الحالي، فاحتمالات نشوب حرب خطيرة ستزداد.
منتقدو المفاوضات يصرون على أن كوريا الشمالية لن تلتزم بأي اتفاق قد تبرمه. ولو أن هذا صحيح، فلماذا إذن عناء الدعوة لنزع سلاحها النووي؟ بيونغ يانغ ستغش على الأرجح في اتفاق قد يترك أمنها بالكامل في أيدي أمريكا، وإبرام أي اتفاق يستلزم تنفيذه، ولو أن هذا مستحيل، فعلى على الولايات المتحدة أن تتخلى عن فكرة نزع سلاح كوريا الشمالية النووي.
ويحذر آخرون من أن تؤدي المحادثات إلى تقويض الجهود الدولية لمنع انتشار الأسلحة النووية، وتأجيج رغبة كوريا الجنوبية في بناء أسلحة نووية، والإضرار بعلاقات الولايات المتحدة مع سيول وطوكيو. لكن المشكلة تكمن في أن كوريا الشمالية قوة نووية لديها ترسانة أسلحة يمكن أن تضعها قريباً بين القوى النووية من الدرجة الثانية. والاعتراف بهذه الحقيقة لن يغير شيئاً، فقد فشل منع انتشار الأسلحة النووية وليس لدى كوريا الجنوبية أو اليابان استجابة أفضل.
والنهج الذي تتبعه إدارة بايدن هو أن تدعم كوريا الجنوبية بكل قوة، وهذا يعني أن تتعهد واشنطن بأنها ستضحي بالمدن الأمريكية لإنقاذ سيول. في الواقع، بدا أن القمة الأخيرة بين رئيسي البلدين لم تناقش شيئاً آخر، حيث هيأت واشنطن جميع أنواع اللجان والاجتماعات لإقناع حكومة يون بأنها أصبح لها دور مهم في تحديد متى قد تستخدم الولايات المتحدة الأسلحة النووية، وهو ما لا تفعله.
وهذه سياسة من الواضح أنها ليست فعالة لأمريكا وكوريا الجنوبية، فالأولى تخاطر بهجوم نووي على أراضيها، والثانية تراهن على أن الرئيس الأمريكي سيضحي بملايين الأمريكيين للانتقام من كوريا الشمالية لو شنت هجوماً على الجنوبية. ومن الأفضل لكلتاهما اتباع سياسة تقلل احتمالية حدوث ذلك، تبدأ بالحد من ترسانة بيونغ يانغ النووية.
إذ تحظى كوريا الجنوبية بالحماية الأمريكية من خلال معاهدة الدفاع الموقّعة بين سيول وواشنطن عام 1972، والتي بموجبها يوجد عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين في المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين، لكن تلك المعاهدة أيضاً حملت شرطاً يمنع سيول من استخدام الطاقة النووية لأغراض عسكرية.
لكن يبدو أن هذا الموقف الأمريكي الرافض قد بدأ يلين، بحسب تقرير لمجلة The Foreign Policy عنوانه: "واشنطن قد تسمح لكوريا الجنوبية بحيازة القنبلة النووية"، ألقى الضوء على المتغيرات التي شهدتها شبه الجزيرة الكورية مؤخراً.
لقد مضت سبعة عقود منذ صمتت المدافع في كوريا بعد انتهاء الحرب الكورية. وقد حاول الرئيس دونالد ترامب تهدئة هذا الوضع العدائي في شبه الجزيرة الكورية، لكن محاولاته فشلت، والآن تهدد كوريا الشمالية بتوسيع ترسانتها النووية، وما لم تجرب إدارة بايدن شيئاً مختلفاً، فالمستقبل سيزداد خطورة.