جاء اغتيال والي دارفور والتقارير الأممية عن عنف جنسي وطائفي ليسلطا الضوء على الجانب الأبشع في أزمة السودان، وهي معاناة المدنيين السودانيين، في ظل تحذير للأمم المتحدة من أن بعض أعمال العنف قد ترقى إلى "جرائم ضد الإنسانية".
منذ بدء النزاع الذي أودى بزهاء 1800 شخص وتسبّب بنزوح أكثر من مليون ونصف مليون آخرين، وردت تقارير عدة عن اعتداءات جنسية، لا سيما في الخرطوم وإقليم دارفور (غرب)، المنطقتين اللتين تشهدان أعنف المعارك، حيث قال خبراء الأمم المتحدة إن المدنيين هم من يتحملون وطأة الصراع في السودان، وإن كثيراً من المدنيين محاصرون فعلياً في مناطق تشهد قتالاً بلا هوادة".
قبل الأزمة كان لدى السودان بالفعل 3.7 مليون نازح داخلياً في البلاد، بالإضافة إلى استضافة أكثر من مليون لاجئ من خارج البلاد.
وفيما عبّر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عن قلقة بشأن التقارير الخاصة بالعنف الجنسي والطائفي، أعلن المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، اليوم الخميس، عن مقتل أكثر من 100 شخص في اشتباكات عنيفة دارت بمخيمات النازحين وحولها، في ولاية شمال دارفور السودانية.
وقالت الأمم المتحدة إن المنازل تعرّضت للنهب والحرق في الإقليم، كما تعرض مستشفى مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب للهجوم. مع فرار المدنيين من القتال احتلت المجموعات العربية المنازل التي هجرتها قبيلة المساليت الإفريقية، بحسب التقارير.
وعبّر فولكر بيرتس، رئيس بعثة الأمم المتحدة في السودان (يونتامس)، في بيان أمس، عن قلق عميق من استمرار تدهور الوضع الأمني في دارفور، وخصوصاً في مدينة الجنينة. وأضاف أن الأمم المتحدة تواصل جمع تفاصيل إضافية بشأن هذه التقارير، مشيراً إلى أن هناك نمطاً ناشئاً من الهجمات واسعة النطاق التي تستهدف المدنيين على أساس هوياتهم العرقية، والتي يزعم أنها ارتكبت من قبل ميليشيات عربية وبعض الرجال المسلحين الذين يرتدون أزياء قوات "الدعم السريع". وقال بيرتس إن هذه التقارير مقلقة للغاية، وإذا تم التحقق منها فقد ترقى إلى مستوى "جرائم ضد الإنسانية".
مقتل والي دارفور، والجيش يتهم الدعم السريع
وقُتل والي غرب دارفور، خميس عبد الله أبكر، بعد اعتقاله من قبل قوات الدعم السريع بمدينة الجنينة واقتياده إلى جهة مجهولة، حسبما نقلت الجزيرة عن مصادر عسكرية.
وكان أبكر أحد زعماء حركات التمرد الموقعة على اتفاق جوبا للسلام مع الحكومة عام 2020، سعياً إلى وضع حدٍّ لنزاعٍ في الإقليم امتدّ زهاء عقدين، وقالت القوات المسلحة السودانية، في بيان، إن قوات الدعم السريع اختطفت وقتلت الوالي رّغم أنه "لا علاقة له بمجريات الصراع".
في المقابل، قالت مصادر من الدعم السريع إنها تدين حادث قتل أبكر، مضيفة أنه جاء في إطار الصراع القَبلي، كما اتهمت الجيش بالمسؤولية، لأنه يسلّح أحد طرفي النزاع، على حد قولها.
وتداول ناشطون صوراً للقبض على أبكر، ثم نُشرت لاحقاً صور أخرى وهو مقتول.
وفي وقت سابق، الأربعاء، قال مدير الإعلام في حكومة إقليم دارفور موسى داود، إن عدد القتلى في مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور بلغ أكثر من ألف شخص.
ووصفت مستشارة الأمم المتحدة الخاصة لمنع الإبادة الجماعية أليس ويريمو نديريتو، العنفَ في غرب دارفور بـ"المروّع". وحذرت من أنه إذا استمر يمكن أن يتطور إلى حملات متجددة من الاغتصاب والقتل والتطهير العرقي، التي ترقى إلى جرائم فظيعة.
وتخشى السيدة نديريتو أنه إذا تُرك الوضع دون معالجة فإن العنف والاشتباكات الطائفية التي تحدث في بعض مناطق السودان يمكن أن تجتاح البلد بأكمله في حرب أهلية، مع مخاطر عالية لارتكاب جرائم فظيعة.
ومع استمرار القتال تزداد معاناة المدنيين المزودجة في السودان، حيث أشارت التقارير إلى أن المدنيين من جميع الأعمار يتعرضون لانتهاكات مختلفة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الاعتداء الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي، فضلاً عن النهب ونقص الغذاء والماء والرعاية الصحية، حسب الأمم المتحدة.
الجيش يقصف قوات الدعم التي تتحصن بالمباني الحكومية والسكنية
فمع امتلاك الجيش التفوق الجوي والمدفعي، وسط تقارير عن تدميره للعديد من معسكرات قوات الدعم السريع، لجأت الأخيرة إلى التحصن في المباني الحكومية ومنازل المدنيين في العاصمة الخرطوم.
وتفيد تقارير بقيام الجيش السوداني بقصف البنايات التي تتحصن بها هذه القوات.
وفي هذا الإطار، أعربت مستشارة الأمم المتحدة الخاصة لمنع الإبادة الجماعية أليس ويريمو نديريتو، عن قلقها البالغ إزاء الهجمات الصاروخية التي استهدفت حيين يوم الأحد الماضي، ما أسفر عن مقتل 18 شخصاً وإصابة كثيرين آخرين.
وسبق أن قال مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، إن مكتبه تلقّى تقارير عن استخدام طائرات مقاتلة واشتباكات في العاصمة الخرطوم.
في المقابل، فإن تقارير عدة تفيد باستيلاء قوات الدعم السريع على منازل مواطنين.
بينما حذرت قوات الدعم السريع في السودان من أشخاص يرتدون ملابس القوات ويقتحمون المنازل وينفذون عمليات اعتقال.
وقال بيان صادر من قيادة قوات الدعم السريع في إبريل/نيسان الماضي: "لا توجد أي قوة للدعم السريع مكلفة باعتقالات أو دخول منازل المواطنين، وعلى الجميع الحذر من أي شخص يرتدي زي الدعم السريع يقوم بمثل هذه الأعمال".
الأمم المتحدة ترصد حالات للعنف الجنسي
في 25 مايو/أيار 2023، رصدت الأمم المتحدة 25 حالة عنف جنسي على الأقل في السودان، وناشدت طرفي القتال وقف العنف وحماية المدنيين.
وقال مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، إن مكتبه وثّق تلك الحالات "حتى الآن"، وإن العدد الحقيقي "من المرجح أن يكون أعلى من ذلك بكثير".
واتهمت قوات الدعم السريع من قِبل المعارضين السودانيين بأنها متورطة في مذبحة القيادة العامة في عام 2019، والتي شهدت عمليات اغتصاب حسب تقارير عدة، ولكن اللافت هو تراجع انتقادات واتهامات القوى المدنية للدعم السريع، بعد التقارب الذي حدث بينهما مؤخراً في المواقف، قبيل اندلاع النزاع بين الجيش والدعم.
وقالت وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل الحكومية، إنها وثّقت 49 حالة عنف جنسي خلال أول أسبوعين من القتال، 24 منها في الخرطوم، و25 في دارفور. وكان الجناة في 43 منها يرتدون "زي قوات الدعم"، وفق الهيئة.
وتؤكد مديرة الهيئة، سليمى إسحاق الخليفة، تلقّي تقارير جديدة عن حالات اغتصاب "صباحاً ومساء".
ويؤكد ناشطون أن حالات عنف جنسي كثيرة تحدث دون الإبلاغ عنها.
وتقول باحثة في "مجموعة السودانيات لحقوق المرأة" (SUWRA) الساعية إلى تمكين السودانيات، لـ"فرانس برس"، من خارج السودان، إن الاعتداءات التي تبلغ مرحلة التوثيق تكاد لا "تتجاوز 2 أو 3%" من إجمالي العدد الحقيقي.
تقرير غربي يورد اعترافاً من سيدة تقول إنها تعرضت للاغتصاب من الدعم
وأوردت وكالة الأنباء الفرنسية نموذجاً لحال سيدة سودانية "اسمها زينب" هربت من المعارك، لكن عند نقطة تفتيش أوقف مسلحون الحافلة التي تقلّها، أنزلوها مع ثلاث نساء أخريات، واغتصبوهنّ تحت تهديد السلاح.
عند حاجز لقوات الدعم قام العناصر بفصل النساء عن الرجال على متن الحافلة، ونقلوا الإناث إلى مخزن مجاور، وفق زينب، التي طلبت استخدام اسم مستعار في حديثها إلى وكالة فرانس برس في بلد آخر لجأت إليه.
وطلب شخص- تُرجّح زينب أنه "قائد" نقطة التفتيش- منها التمدّد أرضاً. مانعت، صرخت، وبصقت في وجهه، لتتلقى ضربة ببندقية طرحتها أرضاً.
وتضيف الشابة العشرينية بتأثر بالغ: "أحاط بي اثنان، أحدهما أمسكني، والثاني اغتصبني"، بعدها تبادلا الأدوار وتكرّر الفِعل.
بعد التوسّل سمح المسلحون للنساء اللواتي تعرضن للاغتصاب كلهن بالعودة إلى الحافلة والمغادرة مع الركاب الآخرين.
ويقول أطباء في مستشفى "ود مدني"، إنهم يعالجون الآن حالات اغتصاب ارتُكبت على طريق الخرطوم-مدني، وهو الطريق الرئيسي الذي يربط العاصمة بعدد من الولايات، ويستخدمه الفارّون من القتال.
وقالت الجبهة المدنية لإنهاء الحرب واستعادة الديمقراطية، وهي تجمّع لقوى مدنية تأسست بعد اندلاع القتال بين الجيش والدعم، إن هناك أنباءً تتحدث عن وجود حالات اغتصاب وتحرش جنسي في أماكن يسيطر عليها الجيش، وذلك قبل أن تتراجع لاحقاً وتقول إنها لم تقع في أماكن سيطرة الأخير، حسبما ورد في تقرير لموقع رصيف 22.
العاملون في المجال الإنساني من أبرز الضحايا
وتقول الأمم المتحدة إن العاملين في المجال الإنساني المحلي والدولي، بما في ذلك العاملون في مجال الرعاية الصحية، والمرافق التي تقدم الرعاية الصحية والمساعدات الغذائية والحماية، وغيرها من الخدمات المنقذة للحياة، هم ضحايا لما يبدو أنه هجمات مستهدفة وعشوائية.
وقالت منظمة "أطباء بلا حدود" الإنسانية الدولية مؤخراً إن قوات الدعم السريع أجبرت موظفيها على تسجيل مقطع فيديو دعائي لصالحها، فحسب رواية المنظمة فإن قوات الدعم أوقفت قافلة تابعة لها بينما كانت تغادر مستودعاً، وأجبرتها على الإدلاء ببيان أمام الكاميرا، حتى يتم السماح لها بمواصلة رحلتها.
كما كشفت كل من نقابة الصحفيين وشبكة الصحفيين بالسودان عن تعرض عدد من منتسبيهما للاعتداء والاحتجاز، من قِبل قوات الدعم السريع.
نهب للأسواق في وضح النهار
وعرض على مواقع التواصل الاجتماعي العديد من الفيديوهات لعمليات نهب وسلب للمحال والأسواق التجارية والمنازل، في مختلف مناطق العاصمة الخرطوم، يقوم بها أفراد مدنيون وعسكريون، في ظل غياب الأجهزة الأمنية بسبب الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
هذه الأعمال الإجرامية تتم في وضح النهار، وأمام مرأى من الناس جميعهم دون حياء أو خوف، وهو ما دفع بعض أصحاب المحال في بعض أسواق العاصمة إلى حمل السلاح لحماية متاجرهم، رغم المخاطر الجمة التي يمكن أن تعترضهم، سواء من ناحية الاشتباكات والقصف الجوي، أو العصابات المسلحة التي تنتشر في هذه الأماكن بحثاً عن غنائم.
ومنذ بداية القتال في السودان، منتصف أبريل/نيسان، تم الإبلاغ عن عدة حوادث نهب وعنف منسوبة لعصابات الشوارع في العاصمة الخرطوم ومدن أخرى مجاورة. وبالرغم من أن هذه العصابات المسماة "النيقرز" معروفة لدى السودانيين منذ عشرين سنة، يرى تقرير لموقع "فرانس 24" أن كلا الطرفين في النزاع يعتقلان ويذلان الموقوفين من هذه العصابات، بهدف تعزيز صورتهما لدى المدنيين.
و"النيقرز" كلمة معربة من المصطلح الإنجليزي "Niggers"، وهي "شتيمة عنصرية"، وبها يسمي السودانيون هذه العصابات. وتنشر هذه العصابات الرعب والفوضى منذ النزاع المسلح في دارفور عام 2003، وتظهر بكثافة خلال مراحل حساسة مرّ بها البلد، مثل الاحتجاجات المناهضة لنظام عمر البشير في 2011 و2019، والمظاهرات ضد الانقلاب العسكري عام 2021، وهذا العام منذ بداية النزاع المسلح بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع.
وفيما تَتهم القوات المسلحة الدعمَ السريع بنهب البنوك والمحالّ التجارية، فإنه على شبكات التواصل الاجتماعي توثق فيديوهات قوات الدعم السريع وهي تعتقل وتهين علناً أعضاء عصابات النيقرز في الخرطوم، منذ آخر أبريل/نيسان، منشورة بالأساس على الحسابات الرسمية لهذه القوات شبه العسكرية.
كما وثّقت فيديوهات أخرى نشرتها صفحات مناصرة للجيش والشرطة السودانية اعتقالات قام بها جنود بحق أعضاء محتملين من النيقرز.
وينقل تقرير "فرانس 24″ عن العديد من شهود العيان في منطقة الخرطوم وضواحيها، أن قوات الدعم السريع هي التي تقوم بنهب البنوك والمحلات التجارية والمستشفيات، قبل أن تترك المجال مفتوحاً للمدنيين والعصابات. وتتحرك هذه القوات نفسها بعد ساعات في الموقع نفسه لاعتقال الناهبين، خاصةً أعضاء عصابات الشوارع.
من الواضح أن وتيرة الجرائم بحق المدنيين في السودان تزداد حدتها.
ففي بداية الصراع كانت هناك محاولة من الطرفين لجلب تعاطف الرأي العام، ولكن مع استمرار القتال يبدو أن هذه الاعتبارات تتراجع، بينما يتصاعد الاعتبار العسكري فقط، إضافة إلى أن تأثير الحروب على المقاتلين يدفعهم لأن يصبحوا أكثر عنفاً.
ومن الواضح أن معظم الجرائم المزعومة تُنسب لقوات الدعم السريع، لأنها تحتل منازل المواطنين لتحتمي فيها من قصف الجيش، إضافة لجذورها الميليشياتية، التي تعود للجنجويد، الميليشيات المتهمة بارتكاب جرائم حرب في دارفور.
كما أن قوات الدعم السريع التي ينتنمي معظم أعضائها لعرب غرب السودان، (ويقال إن من بينهم أعداد كبيرة من عرب تشاد ودول إغريقية أخرى)، تعد غريبة اجتماعياً على العاصمة الخرطوم، ما يجعلها أقل تعاطفاً مع المدنيين وأكثر توجساً منهم.
في المقابل، فبعد نفي وجود بعض المزاعم عنف انتهاكات وعنف جنسي في مناطق الجيش، فإن الجريمة الأوضح التي يمكن أن تُنسب للجيش السوداني هي قصف المباني الحكومية والسكنية، التي يتحصن بها أفراد الدعم السريع، وهي قد تضم مدنيين.
ومع أن الجيش يبدو مضطراً لهذا الأسلوب لمطاردة أعضاء الدعم السريع بعرباتهم السريعة وأسلحتهم الخفيفة وشبه الخفيفة، ولكن هذا قد يعرضه لمساءلة قانونية، كما أن مثل هذا القصف قد يكون مسؤولاً عن جزء كبير من التدمير والخسائر التي لحقت بالخرطوم.