ما زالت رائحة جثث ضحايا مذبحة القيادة العامة للجيش السوداني التي وقعت قبل عامين تفوح من المشرحة، ورغم ذلك لم تصل لجنة التحقيق المعنية بالمذبحة إلى نتائج تذكر وسط حديث عن محاولات لدفعها لإخفاء الحقيقة.
ووقعت المذبحة بعد عزل الرئيس السوداني السابق عمر البشير، عندما اقتحم مئات الأفراد بزي عسكري ساحة الاعتصام في محيط قيادة الجيش بالخرطوم، وعدد من الولايات في الثالث من يونيو/حزيران 2019، مما أوقع مئات القتلى والجرحى والمفقودين، وهي الأحداث التي وُصفت بالمجزرة وهزت الشارع السوداني.
ما الدافع وراء مذبحة القيادة العامة للجيش السوداني وكم عدد الضحايا؟
ونفذت المذبحة في ذروة الثورة السودانية، عندما فتح الجنود النار على مئات الأشخاص الذين كانوا معتصمين في العاصمة الخرطوم، في استعراضٍ وحشي للقوة كان هدفه الإعلان للمتظاهرين المدنيين أنهم، وإن كانوا نجحوا في إسقاط عمر البشير قبلها بشهرين، فإن الجيش هو حاكم البلاد الفعلي والجهة التي ستقرر مستقبل البلاد، حسب وصف تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
وتتفاوت التقديرات بشأن عدد ضحايا مذبحة القيادة العامة بين من مئة أو أكثر إلى 250 شخصاً.
ويقول تقرير لموقع "إندبندنت عربية" واصفاً الحادث "في صباح الثالث من يونيو/حزيران 2019 فوجئ السودانيون بفض اعتصام القيادة العامة للجيش السوداني والذي أقيم في السادس من أبريل/نيسان 2019. الاعتصام الذي استمر قُرابة الشهرين بعد ثورة أسقطت نظام الرئيس عمر البشير؛ حيث استمر حكمه لمدة 30 عاماً".
إذ اقتحم أكثر من ألفي جندي تابعين لقوات الدعم السريع وقوات خاصة وقوات أمنية وبعض القوات الشرطية بحسب شهود عيان، ما خلّف 150 قتيلاً، رميت 40 جثة منهم في نهر النيل، الذي كان يبعد كيلومترات قليلة من الاعتصام، الهجوم كان بالأسلحة النارية والغاز المسيل للدموع، مئات الجرحى ما زالوا يتلقون العلاج، والعشرات يُعالجون من الصدمة النفسية بعد مشاهدتهم للقمع الوحشي والاعتداءات اللفظية والجنسية.
وبعد مذبحة القيادة العامة بأيام، صرَّح النائب الأول لرئيس المجلس السيادي الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) أثناء لقائه قيادات الإدارة الأهلية منتصف يونيو/حزيران 2019، ومن قبله المتحدّث باسم المجلس العسكري الفريق أول شمس الدين كباشي، بأن "المجلس العسكري أمر بفض منطقة (كولومبيا) في شارع النيل والتي تمثِّل امتداداً لساحة الاعتصام من جهة الشرق، إذ باتت تشكِّل خطراً على الأمن العام بوصفها مسرحاً للجريمة ومرتعاً للمطلوبين أمنيّاً، من دون المساس بمنطقة الاعتصام التي يحرسها رجالنا ولم تشكِّل ضغطًا بالنسبة إلينا".
وأضاف أن "ذلك تم باتفاق إخواننا في قوى (الحرية والتغيير) ورئيس القضاء والنائب العام الذين قدموا لنا المشورة القانونية"، مؤكّداً أن "القوات العسكرية وضعت خطتها ونفَّذتها ولكن حدثت بعض الانحرافات عما هو مخطّط له".
وقد أصدر رئيس الوزراء السوداني، عبدالله حمدوك، في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2019، قراراً بتشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق في الانتهاكات، التي حدثت في فض الاعتصام.
ويفترض أن اللجنة التي كلفت بالتحقيق في مجزرة القيادة العامة يجب أن تعمل على تحديد المسؤولين عن فض الاعتصام بالتحريض أو المشاركة، أو الاتفاق الجنائي أو ارتكاب أي انتهاكات أخرى، وتحديد وحصر عدد الضحايا من الشهداء والمصابين والجرحى والمفقودين، وقيمة الخسائر المالية والجهات والأشخاص المتضررين من ذلك.
وبعد عامين، ما زالت جثث ضحايا مذبحة القيادة العامة راقدة في غياهب النسيان بإحدى مشارح العاصمة السودانية، حسب تقرير The New York Times.
وتفوح رائحة الجثث من المشرحة، حيث تتكرر حالات انقطاع التيار الكهربائي وتشتد حرارة الصيف وأثرها. في الخارج، يترقب الأصدقاء والأقارب التطورات، ويتفاقم غضبهم من تقاعس السلطات عن إجراء عمليات التشريح.
إنهم يحجبون الأدلة
يسود اعتقاد بأن النظام الجديد يحاول قمع الأدلة التي يمكن أن تتيح المساءلة التي يتوقون إليها للقصاص من قتلة أحبائهم.
يقول معز محمد، الذي قُتل شقيقه سعيد برصاص قوات الأمن السودانية في 3 يونيو/حزيران 2019: "إنهم يؤخرون النتائج عن عمد. الجميع يعرف من قتل الناس" في هذه الواقعة.
يأتي المشهد المروع للجثث ليُبرز علامةً أخرى على الأعمال التي لم تُنجز والآمال التي لم تتحقق في ثورة السودان. وقد جاء انتقال البلاد إلى الديمقراطية هشاً، إذ لا يزال القادة المدنيون والعسكريون يتنافسون على السلطة. ولا شيء تتجلى فيه هذه التوترات بقدر الخلاف حول الجثث الراقدة في المشرحة حتى الآن.
وفي مقابلات، قال خبراء بالطب الشرعي ومحققون ممن عيَّنتهم الدولة والمدعي العام السوداني السابق، الذي استقال الشهر الماضي، إن التحقيق في وقائع القتل أعاقته قوات الأمن ومحاولات التستر على الأدلة.
عدد الضحايا قد يكون أكبر بكثير
وقال مسؤولون مشتركون في التحقيقات- منهم مسؤول بوزارة العدل ونائب عام سابق ومحقق بارز- إن المحققين اكتشفوا مؤخراً مقبرةً جماعية خارج الخرطوم، في أم درمان، تحتوي على جثث عدة مئات من الأشخاص الذين يُشتبه في مقتلهم عندما فتح الجنود النارَ على المتظاهرين في الخرطوم في 3 يونيو/حزيران 2019. وإذا ثبت ذلك، فإن عدد القتلى من ذلك اليوم سيكون أعلى بكثير مما هو معروف.
وأشار محققون سودانيون إلى أن خبراء الطب الشرعي الذين أرسلتهم "الوكالة الدولية للتنمية الدولية" (USAID) سيصلون إلى السودان الشهر المقبل لإجراء تقييمٍ أولي للموقع. وقال متحدث باسم الوكالة إن الولايات المتحدة تدعم جهود العدالة الانتقالية في السودان، وما يشمله ذلك من "توفير الخبرة المتخصصة، عند الطلب، بما يتماشى مع المعايير الدولية".
النائب العام يتقدم باستقالته
تقدم النائب العام السوداني السابق، تاج السر الحبر، باستقالته في مايو/أيار، قائلاً إنه يبدو أن فصائل داخل قوات الأمن تتعمد حجب الأدلة عن مكتبه المسؤول عن التحقيق في جرائم القتل التي وقعت.
وقال الحبر: "لدينا أسباب للاعتقاد بأن هذا يتعلق بالاعتصام. غير أننا نشعر أن هناك تضارباً في المصالح".
وقال الحبر إن المحققين جمعوا أدلة وأجروا مقابلات مع أشخاص يعيشون بالقرب من موقع المقبرة للتثبت من موعد وصول الجثث وكيف نُقلت إلى هذا المكان، وما هي المركبات التي استُخدمت لنقلها. وأضاف: "لدينا شهود مهمُّون للغاية شهدوا" على الواقعة.
تستعد عائلات الضحايا وبعض المجموعات المؤيدة للديمقراطية في حذرٍ للخروج في احتجاجات جماهيرية في 30 يونيو/حزيران، للتعبير عن خيبة أملهم. يقولون إنهم ما زالوا ينتظرون محاسبة المشاركين في المذبحة، سواء أكانوا من قوات الشرطة أم من أفراد القوات المسلحة السودانية أو من قوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو المعروف باسم حميدتي، على قمعهم العنيف للمعتصمين المدنيين.
من جهة أخرى، يُنظر إلى تحقيق العدالة في هذه القضية على أنه اختبار حاسم للحكومة الانتقالية، التي تشكلت عبر مخاض عسير بين المجلس العسكري الانتقالي، بقيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، وائتلاف "قوى الحرية والتغيير" المعارض، بقيادة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك.
دعا الإعلان الموقع بين المعسكرين في عام 2019 إلى إجراء انتخابات وطنية في أوائل عام 2024، لكن العدد الهائل من المسؤولين الذين وقفوا بنفوذهم وثرواتهم إلى جانب الطرف العسكري من الاتفاقية جعل الشك يتملك العديد من السودانيين.
توتر بين البرهان وحميدتي
وقال دبلوماسيان غربيان كبيران ومسؤول آخر من دولة إفريقية بارزة، إن معظم القوى الكبرى- من روسيا إلى الصين والولايات المتحدة- لاحظت توتراً متزايداً في العلاقة بين الجنرال البرهان ونائبه الفريق محمد حمدان دقلو قائد بما يُعرف بقوات الدعم السريع.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، ورد أن اللواء حمدان، المعروف باسم حميدتي، رفض دمج القوات التابعة له مع قوات الجيش السوداني، التي يقودها الجنرال البرهان، على الرغم من أن ذلك كان أحد الأهداف الصريحة للفترة الانتقالية.
وقال حميدتي في حفل تأبيني لجندي في الخرطوم: "الحديث عن دمج قوات الدعم السريع في الجيش يمكن أن يؤدي إلى تفتيت البلاد".
بالعودة إلى التحقيقات، قال نصر الدين، وهو أحد أعضاء لجنة التحقيق التي عينتها الحكومة، إن فريقه عثر على ضحيتين في مذبحة 3 يونيو/حزيران، على بعد نحو 150 كيلومتراً شمال الخرطوم بعد التحدث إلى القرويين الذين أفادوا برؤية جثث تطفو على النيل. وأشار إلى أن المحققين أخذوا عينات من الحمض النووي من الجثتين وناظروها مع عائلات الضحايا.
ويقول نصر الدين: "هذه أدلة قوية جداً".
وقف تشريح الجثث، ودفن بعضها بدون الإجراءات اللازمة
على الرغم من إحراز بعض التقدم، قال خبراء بالطب الشرعي مشاركون في التحقيق إن الأوامر الموجهة إليهم كانت العمل على تعطيل اللجنة المكلفة بالتحقيق في إطلاق النار. واطلعت صحيفة The New York Post على رسالة عرضها خبيران في الطب الشرعي يعملان داخل وزارة الصحة، التي تأمرهما فيها بعدم التحدث إلى وسائل الإعلام. وقالوا إن اللجنة أمرتهم أيضاً بعدم إجراء تشريح للجثث في المشرحة.
وقال نصر الدين إن اللجنة أمرت بوقف عمليات التشريح؛ لأن خبراء الطب الشرعي تعرضوا للخطر ودفنوا بعض الجثث "دون استخدام الإجراءات الصحيحة".
من جانبهم، يقول أولئك الذين حاربوا لإسقاط عمل البشير إن العثور على الحقيقة فيما يتعلق بالمسؤول عن الأمر بفض الاعتصام في 3 يونيو/حزيران سيكون له دور كبير في تهدئة حدة الاستياء العام على نطاق واسع بشأن وتيرة العملية الانتقالية. فضلاً عن الإجراءات الاقتصادية القاسية مثل التخلي عن دعم الوقود والقمح.
وقالت سماهر المبارك، عضو تجمع المهنيين السودانيين: "بمجرد أن نعيش في دولة عادلة، ستبدأ الأمور كلها في الانتظام".
في المقابل، لم يرد متحدث باسم مكتب رئيس الوزراء على أسئلة حول التحقيق، رغم أن رئيس الوزراء حمدوك قال في بيان صدرَ في وقت سابق من هذا الشهر إن "العلاقات المعقدة بين الأجهزة الأمنية العديدة كان لها دور في تأخير العدالة".
كما لم يرد مكتب حميدتي على أسئلة، صحيفة The New York Times الأمريكية.
أما عائلات الضحايا، فقد تُركوا بلا راحة أو قصاص من قتلة ذويهم.
تقول أميرة بابكر، وهي محاضِرة في دراسات النوع الاجتماعي بجامعة الأحفاد للبنات بالخرطوم، إن آخر مرة رأت فيها ابنها كانت قبل يوم من المذبحة. وكان ذلك اللقاء في حفل عيد ميلاده بمنزل العائلة بالخرطوم.
عاد الابن، محمد هاشم، البالغ من العمر 26 عاماً، من دراسته للهندسة في إحدى جامعات لندن وانضم إلى الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية، وفي الساعات الأولى من 3 يونيو/حزيران، توجه إلى ساحة الاعتصام قبالة المقر العسكري.
تستعيد السيدة أميرة الأحداث، فتقول إنها أخذت تتصل بابنها، "لكن لم يكن هناك رد".
وقرابة منتصف نهار ذلك اليوم، توجهت الأسرة إلى أحد المشافي التي كانت تستقبل الجرحى من المظاهرات.
قالت الأم: "كان جثمانه به رصاصة واحدة أصابته تحت عينه اليمنى. فتحت الشرطة قضيةً، لكن حتى الآن لا يوجد شيء، لا عدالة ولا شيء".