شن مسلحون، تدعمهم الدولة الصربية، هجوماً منظماً على البنايات الحكومية في شمال كوسوفو خلال عطلة نهاية الأسبوع، الجمعة، 1 يونيو/حزيران 2023، مما أسفر عن اشتباك قوات الشرطة والناتو مع رجال يرتدون الأقنعة ويحملون الأنابيب المعدنية. وأدان حلف الناتو الهجوم الذي خلف 30 جندياً مصاباً على الأقل، ووصفه بأنه "مرفوض تماماً".
إذ يرجع تاريخ الأزمة الحالية إلى أبريل/نيسان الماضي، عندما قاطع الصرب في كوسوفو الانتخابات المحلية. ونتيجة لضعف الإقبال الانتخابي، سيطر أبناء العرق الألباني على المجالس المحلية التي هيمن عليها الصرب، كما يقول تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
وعندما حاول الممثلون المنتخبون الألبان دخول البنايات الحكومية، تعرّضوا لهجومٍ على يد مسلحين تدعمهم بلغراد، ويحملون شارات حرف "Z" الإنجليزي، وهو شعار روسيا في الحرب الأوكرانية.
بينما شرعت الولايات المتحدة الآن إلى فرض العقوبات على حكومة كوسوفو في بريشتينا، لأنها لم تعرض عملية اتخاذها للقرار على واشنطن أولاً، في خطوةٍ وصفتها رئيسة اللجنة المختارة للشؤون الخارجية البريطانية، أليسيا كيرنز، بـ"التفكك الاستراتيجي".
أمريكا تتجنب انتقاد الصرب وتنقلب على حكومة كوسوفو
يقول أكاديمي من كوسوفو، فضّل عدم كشف هويته، لموقع MEE: "من الواضح أن الولايات المتحدة تنقلب على رئيس وزراء كوسوفو ألبين كورتي، لأنه يحاول تأكيد شكل سيادة لم يكن جزءاً من تصوراتهم لكوسوفو على الإطلاق".
في ما تجنّبت الولايات المتحدة إلى حدٍّ كبير انتقاد صربيا بعد أحداث العنف، في محاولةٍ لمنع انزلاق حليفة روسيا المقربة إلى أحضان موسكو أكثر.
لكن واشنطن وجدت صعوبةً في قبول فكر كوسوفو الاستقلالي بدرجةٍ متزايدة، واستعدادها للسعي وراء مصالحها الوطنية الخاصة، بعد أن اختارت بريشتينا السماح لرؤساء البلديات المنتخبين ديمقراطياً بتولي مناصبهم.
وأوضح الأكاديمي، الذي تحدث إلى موقع Middle East Eye البريطاني، من بريشتينا: "تريد الولايات المتحدة التخلص من كورتي في الأساس، كما أرادت التخلص منه عام 2020. لكن لا أحد هنا يدعم ذلك".
ويقف كورتي الآن في وجه واشنطن، كما فعل من قبل، بعد أن حاولت في السنوات الأخيرة إجبار كوسوفو على سياسات لا يرى كثيرون في البلاد أنها تخدم مصالحهم الوطنية. والأسوأ من ذلك أن بعض ساسة كوسوفو يعتقدون -في السر- أن السياسات الأمريكية تهدف لإضعاف سيادة بريشتينا.
حيث قال الأكاديمي: "يحاول كورتي الحفاظ على سيادة كوسوفو. بينما ظنت القوى الأوروبية والولايات المتحدة أنهم سيبقون على كوسوفو في حالة السيادة المعلقة والمؤجلة -ولا يزالون يحاولون فعل ذلك-، حتى يجعلوننا في حاجةٍ دائمة إلى مساعدتهم أو يجعلوننا نظن أننا نحتاج مساعدتهم. ومن الواضح أن التوترات الحالية ليست منفصلةً عن صراع السلطة الجيوسياسي الأكبر بين الغرب وروسيا".
هل تخلى الغرب عن كوسوفو في سبيل إبعاد صربيا عن دائرة النفوذ الروسية؟
أعلنت كوسوفو استقلالها عام 2008، بعد حرب 1998-1999 التي شهدت تصدي جيش تحرير كوسوفو -بمساعدة الناتو- للقوات الصربية، التي انطلقت في حملة تطهير عرقي ممنهجة. وبعد الحرب، صارت كوسوفو من أشد المؤيدين المتحمسين، وربما أشد المتعصبين للغرب، والولايات المتحدة تحديداً.
وآمنت النخب السياسية في الدولة ذات الأغلبية المسلمة لفترةٍ طويلة بأن الغرب يمكنه قيادة كوسوفو، وذلك في رحلتها العصيبة نحو إضفاء الطابع المؤسسي على دولتها.
لكن المزاج العام في البلاد أصبح رافضاً بدرجةٍ متزايدة لفكرة اعتبار الغرب مجرد طرف غير مؤذٍ.
بينما قال ناشط سياسي مقرّب من حزب تقرير المصير (فيتفيندوسيي)، الذي يقوده كورتي للموقع البريطاني: "يشعر شعب كوسوفو مؤخراً بأن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على استعداد لفعل أي شيء، في مقابل إبعاد صربيا عن دائرة النفوذ الروسية".
وأردف الناشط الذي تحدث إلى الموقع البريطاني دون الكشف عن هويته: "تبدو القوى الغربية مستعدة للتضحية بكوسوفو التي تُعد من أكثر الدول المؤيدة للغرب في العالم، في مقابل كسب ود صربيا، التي تُعتبر مواليةً لروسيا بالفعل".
ويبدو أن التصرفات الأمريكية تؤكد صحة هذا الانطباع بدرجةٍ متزايدة. إذ خرج السفير الأمريكي في كوسوفو، جيف هوفينير، ليصب غضبه على كوسوفو، وذلك بعد هجوم المسلحين الصرب على قوات كوسوفو والناتو.
حيث قال هوفينير: "سأفاجأ في حال تمكن أي مسؤول في حكومة كوسوفو من دخول الولايات المتحدة في هذه الفترة". في ما قال ناشط حزب تقرير المصير: "يبدو أن هذه التصرفات تُضعف موقف كوسوفو، بدلاً من تقويته".
هل تنجح تركيا بما فشل فيه الغرب في كوسوفو؟
لذلك، يقول هوفينير إن كوسوفو أصبحت تتطلع بدرجةٍ متزايدة إلى "شركاء بدلاء يعاملونها بكرامة. وتحتل تركيا موقعاً مثالياً لتحقيق ذلك. وإذا استمر المسار الحالي للسياسة الغربية دون تغيير، وفي حال نشطت الدبلوماسية التركية أكثر داخل دول البلقان؛ فمن المتوقع أن تتكثف جهود استكشاف البدائل في كوسوفو".
ويمثل ملف البلقان قضيةً تتفق عليها الأحزاب في تركيا. إذ تحدث الموقع البريطاني إلى مسؤولين في الحكومة التركية، وقد ركزوا بدرجةٍ متزايدة على ما يمكن لأنقرة فعله من أجل المساعدة في حل توترات المنطقة.
إذ تحدّث نائب برلماني معارض من حزب الشعب الجمهوري، شرط عدم كشف هويته، وقال إنه يرغب في أن تتولى أنقرة دور وساطةٍ أكثر استباقية.
وصرح أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ابن خلدون بإسطنبول، طلحة كوس، للموقع البريطاني قائلاً: "لدينا علاقات اقتصادية وسياسية قوية مع صربيا. كما تربطنا مع كوسوفو علاقات شعبية على المستوى الثقافي والتاريخي والسياسي".
وأوضح كوس أن تركيا تحتل موقعاً خاصاً للوساطة بالنظر إلى "علاقاتها المتوازنة، والدافئة، والصادقة" مع كلا الجانبين. وأردف كوس: "يعاني الاتحاد الأوروبي من أجل لعب دور بنّاءٍ أكبر مع صربيا وكوسوفو. مما يمثل فرصةً دبلوماسية لتركيا".
ويرى كوس أن الانفراجة الدبلوماسية التي توسطت فيها تركيا بين روسيا وأوكرانيا العام الماضي، من أجل شحنات القمح، قد تمثل نموذجاً مفيداً يمكن لأنقرة الاستفادة به كفكرة عامة.
ثم تابع كوس: "الخطأ الذي يستمر الاتحاد الأوروبي في ارتكابه هو أنه يأخذ موقفاً من السياسات المحلية لتلك الدول"، مضيفاً أنه لا خلاف على وجود "دورٍ روسي في التوترات الجارية".
وقد دعا الرئيس الصربي، ألكساندر فوتشيتش، نظيره التركي، رجب طيب إردوغان، إلى التوسط لتهدئة التوترات. وأضاف كوس: "تقف الولايات المتحدة والناتو والاتحاد الأوروبي في ناحية. وتقف روسيا مع الصين في الناحية المقابلة. ولكل ناحيةٍ مواقفها ومصالحها المتضاربة. بينما تستطيع تركيا المساعدة في عقد قمة تضم جميع أصحاب المصالح".
وربما يكون الأمر "مستحيلاً الآن" بسبب الصراع في أوكرانيا، لكن "يجب على تركيا أن تعقد اتصالات مع كافة أصحاب المصالح".
"أمريكا في عجلةٍ من أمرها لمغادرة المنطقة"
من ناحيته، يرى سنان بايكنت، خبير السياسة الخارجية في البلقان، أن الولايات المتحدة "تركز بدرجةٍ متزايدة على الحلول السريعة في منطقة البلقان"، بالتزامن مع سعيها لتوجيه تركيزها نحو الصين.
ويمثل ملف كوسوفو "عبئاً" قديماً تريد الولايات المتحدة إزالته من جدول أعمالها. حيث قال بايكنت في حديثه إلى الموقع البريطاني من إسطنبول إن "الولايات المتحدة في عجلةٍ من أمرها لمغادرة المنطقة".
وعلى الجهة المقابلة، يُعتبر وجود تركيا "تاريخياً وعميق الجذور"، وتختلف تركيا عن الولايات المتحدة في أنها ليست مهتمةً "ببناء وضعٍ راهن مؤقت سيفشل بنهاية المطاف. ولا يبدو أن بروكسل والولايات المتحدة تريدان التوصل إلى اتفاقٍ دائم. بل تميلان إلى اعتبار المنطقة بمثابة رقعة شطرنج، وهي نفس نظرة روسيا. فهل يهمهم رفاه شعوب البلقان حقاً؟ أشك في ذلك بشدة".
وأوضح بايكنت أن تركيا حققت التوازن بين جميع أصحاب المصالح الإقليميين، بينما "أسهم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في تصعيد التوترات الأخيرة"، ومن الممكن أن تجمع قمة بين ألبانيا وكوسوفو وصربيا.
ومن المرجح ألا ترحب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تحديداً بلعب تركيا لدورٍ أكبر في البلقان.
إذ يعتبر الاتحاد الأوروبي هذه المنطقة بمثابة "باحته الخلفية". ويرى بايكنت أن هذا الأمر لا يجب أن يثني تركيا عن سد الفجوة الإقليمية، والتوسط بين جميع الأطراف.
وأضاف بايكنت: "أعتقد أن أنقرة تتمتع بالقدرات اللازمة لمراقبة عمليةٍ كهذه، دون التدخل في السياسات والقرارات المحلية للأطراف المعنية. وسيحدث ذلك بالتنسيق ودون ضغوطات، ودون تهديدات، ودون ابتزاز. ومن الممكن أن تفتح خطوات كهذه الباب أمام منظورٍ جديد كلياً في المنطقة".