مع بداية القرن العشرين كان هناك الكثير من الشخصيات المطالبة بحقوق السود، والقضاء على العنصرية التي مارسها السكان البيض في أوروبا وأمريكا، وعلى الرغم من شهرة بعض تلك الشخصيات، لكن لم يكن لأي منها التأثير العالمي الذي امتد لعدة بلدان، مثل ذلك الذي تركه ماركوس غارفي.
سواء كان دور أفكاره في ظهور الديانة الراستافارية، أو بعض أفكار جماعة "أمة الإسلام" في أمريكا.
ماركوس غارفي الزعيم القومي الجامايكي الأسود
ولد ماركوس غارفي في 17 أغسطس/آب 1887، في جامايكا، كان والده بناءً، وكانت والدته خادمة في المنازل. على الرغم من أن الزوجين كان لهما 11 طفلاً، إلا أن ماركوس وشقيقاً آخر فقط نجيا حتى سن الرشد.
التحق غارفي بالمدرسة، وهناك عانى من العنصرية لأول مرة في حياته من المعلمين البيض، لكنه أكمل دراسته، كان لوالد ماركوس تأثير كبير عليه، الذي وصفه ذات مرة بأنه "شديد، حازم، جريء، ويرفض الاستسلام حتى لقوى متفوقة إذا كان يعتقد أنه على حق.
وكان والده امتلك مكتبة كبيرة، وبسببها اكتسب غارفي حب القراءة والاطلاع، وعندما بلغ الرابعة عشرة من عمره، غادر مدينته وتوجه إلى العاصمة "كينجستون"، حيث عمل في مطبعة.
كانت نقطة التحول في حياة غارفي في عام 1907، حين شارك في إضراب فاشل لعمال المطابع، ولكن التجربة أثارت فيه شغفاً بالنشاط السياسي، وبعد ثلاث سنوات، سافر في جميع أنحاء أمريكا الوسطى للعمل كمحرر صحفي، وكتب عن استغلال العمال المهاجرين في المزارع.
ثم سافر لاحقاً إلى لندن، وهناك التحق بجامعة لندن ودرس القانون والفلسفة، وفي نفس الوقت عمل في صحيفة "أفريكان تايمز" و"أورينت ريفيو"، وكانت تلك الصحف تنادي بتعزيز "القومية الإفريقية" ومحاربة العنصرية.
ماركوس غارفي يؤسس "الجمعية المتحدة لتحسين الزنوج"
بعد عامين من الدراسة في لندن، عاد غارفي إلى جامايكا. وهناك أنشأ "الجمعية العالمية لتحسين الزنوج" أو "UNIA"، التي تهدف لتحسين أوضاع السود في كل مكان في العالم، وتحسين أوضاعهم الاقتصادية، ليتمكنوا من منافسة البيض اقتصادياً وتحقيق العدالة الاجتماعية أيضاً.
كان حلم غارفي النهائي هو عودة السود في كل مكان من العالم إلى إفريقيا، واستقلال جميع البلدان الأفريقية وإنشاء الولايات المتحدة الإفريقية.
سافر غارفي إلى الولايات المتحدة في عام 1916 لجمع الأموال لتمويل وتنفيذ أفكاره. بعد أن بدأ ماركوس غارفي مراسلة "بوكر تي واشنطن"، الزعيم الأمريكي الأسود والمؤلف والناشط الذي وُلد في العبودية .
في عام 1916، صعد غارفي على متن سفينة متجهة إلى الولايات المتحدة، بصفته متحدثاً عاماً مثيراً وحيوياً، وبعد أن كان ينوي الذهاب في جولة قصيرة لإلقاء المحاضرات. انتهى به الأمر إلى الاستقرار في مدينة نيويورك، ثم ذهب في جولة في 38 مدينة. للترويج لفلسفة الحرية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للسود.
وفي عام 1918، بدأ غارفي في نشر صحيفة "Negro World" على نطاق واسع لإيصال رسالته، وأثناء وجوده في أمريكا، قام بتأليف "إعلان حقوق الشعوب الزنوج في العالم"، والذي تم التصديق عليه في مؤتمر "الجمعية العالمية لتحسين الزنوج" وخلال هذا الاجتماع، تم انتخاب غارفي أيضاً باعتباره "الرئيس المؤقت" لإفريقيا.
مشاريع ماركوس غارفي الاقتصادية لتمكين السود
عام 1919 أطلق ماركوس غارفي أول مشروع تجاري رئيسي لـ UNIA في نيويورك، وهي شركة "Black Star"، كان الهدف من الشركة إنشاء وسيلة فعالة للنقل والاتصال والتجارة بين السود في جميع أنحاء العالم، وتعزيز المكانة والصورة الذاتية والفخر لهذه المجتمعات. استثمر السود في أمريكا في الشركة بشراء أسهم بقيمة خمسة دولارات فقط.
لكن المجموع كان مبلغاً كافياً للشركة لشراء أول سفينة للنقل البحري لتحقيق أحلام غارفي، وانطلقت السفينة للإبحار والتجارة ونقل البضائع لـ3 سنوات بين الولايات المتحدة وجزر الهند الغربية، وكانت أول سفينة في ذلك الوقت مع طاقم من السود بالكامل، وقبطان أسود.
في عام 1920، أسس ماركوس غارفي شركة ثانية باسم "Negro Factories Corporation"، لإنشاء مصانع للسلع الأساسية، وبنفس طريقة تمويل الشركة الأولى، عرض أسهم الشركة للأمريكيين السود لشرائها. فتمكن من جمع مليون دولار للمشروع.
كانت الشركة تهدف إلى بناء وتشغيل المصانع ومصادر البيع حول العالم، التي سيديرها ويعمل بها السود، في المراكز الصناعية الكبرى في الولايات المتحدة وأمريكا الوسطى وجزر الهند الغربية وإفريقيا، لتصنيع كل سلعة قابلة للتسويق، تضمنت الأعمال سلسلة من محلات البقالة، ومطاعم، ومتاجر للخياطة وصناعة القبعات، وداراً للنشر.
في مدينة نيويورك وحدها، امتلك غارفي عدة مبانٍ، وامتلك أسطولاً من الشاحنات عمل به أكثر من 1000 شخص أسود.
لكن مثل هذه المشاريع والثروة الضخمة والأفكار، أصبح لها أعداء في أمريكا، بما في ذلك "إدغار هوفر" مؤسس ومدير الـ"FBI" في ذلك الوقت، وأيضاً مجموعة من الناشطين السود، كان أبرزهم "ويليام دو بوا" والذي كان عالم اجتماع واشتراكياً ومؤرخاً وناشطاً في مجال الحقوق المدنية الأمريكية، ولكنه لم يكن معجباً بنشاط ماركوس غارفي وأفكاره.
كان دو بوا مناصراً لاندماج السود مع البيض في الدول التي يعيشون فيها، ولم يؤيد دولة السود المنفصلة والعودة إلى إفريقيا التي نادى بها غارفي، وإيمانه بالنقاء العنصري للسود. نظم دوبوا مع نشطاء آخرين حملة "غارفي يجب أن يرحل" وتواطأوا مع حكومة الولايات المتحدة لترحيله.
وكانت فرصتهم في عام 1923 حين أفلست شركة ماركوس غارفي للنقل البحري، فأدين غارفي بتهمة الاحتيال عبر البريد باستخدام بريد الولايات المتحدة، لجمع الأموال عن طريق الاحتيال للاستثمار في سفينة لم يتم شراؤها مطلقاً.
ودخل السجن لمدة عامين، لكن الرئيس الأمريكي "كوليدج" خفف عقوبته، وأصدر قرار ترحيل غارفي إلى جامايكا، فعاد ماركوس غارفي إلى جامايكا في 1927.
أفكار ماركوس غارفي تصبح أساس الديانة الراستافارية
في كتاباته ذكر غارفي مراراً وتكراراً نبوءة "تتويج مستقبلي لملك في إفريقيا"، ولكن لم يخطر بباله أن كتاباته ستتحول لاحقاً إلى دين، وأن هذه المقولة ستصبح أساس الدين الجديد.
أعقب تلك النبوءة بسنوات تتويج الإمبراطور "رأس تافاري" في إثيوبيا، وحمل اسم "هيلا سيلاسي". ليرى الكثير من أتباع "غارفي" أنه "الشخص الموعود"، الذي سيحرِّر السود من الاضطهاد ويعيدهم إلى أرض "صهيون الموعودة"، وتنشأ ديانة سُمِّيت الراستافارية، مشتق اسمها من اسم هيلا سيلاسي الأصلي.
بمرور الوقت تطور اللاهوت الراستافاري من أفكار ماركوس غارفي، وخلطها مع تعاليم الكتاب المقدس والاعتماد على قصص العهد القديم، خاصة قصص الخروج، التي تذكر كيف نجّى الله "بني إسرائيل" من أسرهم في بابل، وعادوا مرة أخرى إلى "أرض الميعاد" في فلسطين، معتبرين الأشخاص المنحدرين من أصل إفريقي في الأمريكتين وحول العالم، "منفيين في بابل".
وأن "جاه"، وهو اختصار اسم "يهوه" الذي يطلق على "الله" في التوراة، يختبرهم من خلال العبودية ووجود الظلم الاقتصادي و"الاضطهاد" العنصري. ينتظر "الراستا" تحريرهم من الأسر وعودتهم إلى "صهيون" وهو الاسم الرمزي لإفريقيا المستمد من التقليد التوراتي. واعتبار إثيوبيا الوطن النهائي لجميع الأفارقة، ومقر "جاه" أو "الله".
أصيب غارفي بجلطة دماغية في 1940 تركته مشلولاً جزئياً. وبعدها بفترة قصيرة عانى من سكتة دماغية ثانية لكنها كانت قاتلة. وتوفي غارفي في 1940 في لندن عن عمر يناهز 53 عاماً دون أن تطأ قدمه إفريقيا.