ترجع جذور الخلاف بين إيران وألبانيا إلى عقود ماضية، لكن إسرائيل دخلت مؤخراً على خط الخلاف بينهما، فماذا حدث، ولماذا الآن، وما علاقة صدام حسين وجورج بوش الابن بالقصة؟
ترجع أصول هذا الخلاف الإيراني-الألباني إلى ما يقرب من عشر سنوات، وذلك منذ وافقت الدولة الأوروبية، الواقعة في منطقة البلقان المضطربة، على طلب إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، استضافة أعضاء من جماعة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة في المنفى، على أرضها. وهكذا أصبح للمجموعة وجود علني في ألبانيا منذ عام 2013 على الأقل.
مجلة Foreign Policy الأمريكية تناولت القصة في تقرير لها بعنوان "كيف وصلت ألبانيا إلى المرمى السيبراني لإيران؟"، ألقى الضوء على بعض من تفاصيل قصة "مجاهدي خلق"، وكيف انتهى بها الحال على أراضي ألبانيا، وتبعات ذلك وكيفية دخول إسرائيل على الخط.
ما قصة "مجاهدي خلق"؟
خلال السبعينيات من القرن الماضي، كانت منظمة مجاهدي خلق واحدة من الجماعات الأساسية التي تقاتل النظام الإمبراطوري في إيران، وكان لها دور مهم في ثورة الخميني عام 1979، لكن سرعان ما أصبح "مجاهدو خلق" معارضين للجمهورية الإسلامية، التي تأسست حديثاً بقيادة آية الله روح الله الخميني.
ونظراً لأن النظام الإيراني لا يتسامح مع المعارضين بطبيعة الحال، فقد تحولت منظمة مجاهدي خلق إلى جماعة سرية شبيهة بطائفة دينية، وخرج زعماؤها إلى المنفى، حيث عاشوا تحت رعاية الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، ابتداءً من الثمانينيات، عندما اندلعت الحرب الإيرانية العراقية.
قامت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا واليابان وبريطانيا بتصنيف "مجاهدي خلق" على أنها "منظمة إرهابية أجنبية"؛ بسبب قتلها المزعوم لمواطنين أمريكيين.
لكن في عام 2003، وبعد أن قامت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش الابن، بغزو العراق، حذفت الولايات المتحدة منظمة "مجاهدي خلق" من قائمة المنظمات الإرهابية، بعد أن تغيرت الأجندة السياسية لواشنطن، حيث أصبحت الإطاحة بالنظام الإيراني أحد أهداف السياسة الخارجية لواشنطن.
وفي هذا السياق، خططت واشنطن في ذلك الوقت لاستخدام المنظمة للإطاحة المحتملة بالنظام الإيراني (وهي الخطة التي كشفها مؤخراً مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق جون بولتون في 2018).
لكن الخطة الأمريكية لم تؤتِ ثمارها، وتغيرت أجندة واشنطن مرة أخرى خلال إدارة أوباما، التي فتحت خطاً للمفاوضات مع إيران، وانتهت تلك المفاوضات عام 2015 بتوقيع الاتفاق النووي الإيراني.
لم يكن من الطبيعي بطبيعة الحال أن تستمر واشنطن في دعمها لمنظمة "مجاهدي خلق" خلال تلك الفترة، خصوصاً أنه منذ الإطاحة بنظام صدام حسين والفوضى التي أعقبت ذلك في العراق، أصبحت واشنطن الراعي الرئيسي للجماعة المعارضة الإيرانية، بعد حذفها من قائمة المنظمات الإرهابية.
وهكذا بحثت الولايات المتحدة عن "ملاذ آمن" لاستضافة أعضاء مجاهدي خلق، ووجدت ضالتها في ألبانيا، التي وافقت على الطلب. وفي الوقت الحالي يُقدَّر أنَّ نحو 3000 عضو من مجاهدي خلق يعيشون في معسكر أشرف 3 في ألبانيا، وهو مجمع شديد التحصين يحميه الأمن الألباني الخاص.
لماذا وافقت ألبانيا على هذا الترتيب؟
منذ عام 2013، استضافت منظمة مجاهدي خلق بانتظام الأحداث والقمم في ألبانيا، التي جذبت الجمهوريين الأمريكيين المحافظين، بما في ذلك وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، ونائب الرئيس السابق مايك بنس، الذي ألقى خطاباً أساسياً في حدث في ألبانيا، في يونيو/حزيران.
وحتى اليوم ينظر العديد من الجمهوريين ومساعدي الكونغرس إلى منظمة مجاهدي خلق باعتبارها صوتاً مهماً، يدعو إلى تغيير النظام في إيران. وأفادت وسائل الإعلام الألبانية باتصالات بين السفارة الإسرائيلية في تيرانا وممثلي منظمة مجاهدي خلق.
وفي الآونة الأخيرة، وتحديداً في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، التقى السفير الإسرائيلي في ألبانيا، غاليت بيليغ، على ما يبدو، مع زعيمة منظمة مجاهدي خلق مريم رجوي، خلال رحلتها السابقة إلى جنوب ألبانيا.
أواخر الشهر الماضي، بحثت ألبانيا وإسرائيل تعزيز التعاون الأمني، لا سيما في المجال السيبراني، وتنظيم قمة لقادة البلقان في إسرائيل العام المقبل. جاء ذلك بعد أن وجدت ألبانيا دليلاً على أنَّ إيران تقف وراء سلسلة من الهجمات الإلكترونية، في يوليو/تموز وسبتمبر/أيلول، التي أغلقت مؤقتاً العديد من الخدمات والمواقع الحكومية الألبانية على الإنترنت.
لأسباب واضحة، إيران ليست سعيدة بألبانيا لاستضافتها منظمة مجاهدي خلق، رغم أنَّ طهران تميل إلى إلقاء معظم اللوم على الولايات المتحدة. وانتقد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، الولايات المتحدة بسبب "إجبار" الحكومة الألبانية على استضافة منظمة مجاهدي خلق، و"تدريبهم وتجهيزهم في مجال التكنولوجيا الإلكترونية". وقال إنَّ المجموعة "عملت باستمرار ولا تزال تعمل كأداة في أيدي الولايات المتحدة، لتنفيذ أعمال إرهابية، وهجمات إلكترونية، وشن حرب نفسية اجتماعية ضد الحكومة والأمة الإيرانية".
وهذا يثير التساؤل عن سبب استعداد ألبانيا لجرجرة نفسها إلى واحدة من أكثر المواجهات الجيوسياسية توتراً في العالم، التي تشمل الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران، من خلال الموافقة على استضافة مثل هذه المجموعة المثيرة للجدل. وأخبر عدد من المحللين الألبان مجلة Foreign Policy بأنَّ الفكرة لم تكن مبادرة ألبانية، بل اتفاقية أمريكية إسرائيلية. وحرصاً من الحكومة الألبانية على إظهار أوراق اعتمادها المؤيدة للغرب وافقت عليها.
ماذا تريد إسرائيل؟
صارت ألبانيا الآن عضواً في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في منطقة محاطة بأعضاء في الحلف. وهي تتوق إلى الظهور بمظهر حليف ثابت للولايات المتحدة، وغالباً ما تتورط في قضايا جيوسياسية معقدة بعيدة عن شواطئها، من كونها الدولة الوحيدة التي تقبل الإيغور المُرحّلين من سجن الولايات المتحدة في خليج غوانتانامو، الذين حصلوا على براءات من تهم الإرهاب، إلى قبول استضافة ما يقرب من 4000 أفغاني (معظمهم من المترجمين وموظفي الدعم في الجيش الأمريكي)، ومنظمة مجاهدي خلق، وهو نهج في السياسة الخارجية تعتبره القوى السياسية الرئيسية في ألبانيا مثمراً.
وأضاف المحللون الألبان لمجلة Foreign Policy أنَّ تيرانا تأمل بهذه الطريقة في تعزيز دورها في المنطقة، وعلاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة وإسرائيل. في عام 2011، أعلن رئيس الوزراء آنذاك، صالح بريشا، إيران "دولة نازية"، ودعم إسرائيل في الأمم المتحدة ضد محاولة الفلسطينيين إقامة دولة، ثم كما هو الحال اليوم كانت فكرة الوصول إلى الولايات المتحدة عبر إسرائيل بالتأكيد في ذهن راما.
من جانب إسرائيل، يمكن وضع نهجها تجاه البلقان، في إطار سياسة أمنية كلاسيكية: تأمين الدولة خارج حدودها من خلال التعاون العسكري والاستخباراتي، والصفقات السياسية، وتبادل المعلومات الاستخباراتية.
وعملت إسرائيل بشكل تدريجي وسري على تكوين شراكات مع دول البلقان مثل رومانيا وبلغاريا وألبانيا وصربيا. وتتزايد الاستثمارات الإسرائيلية، الخاصة والمرتبطة بالحكومة، في اليونان وصربيا، وكذلك عدد السياح الإسرائيليين الذين يزورون المنطقة، بما في ذلك فلسطينيو الداخل الذين يزورون البوسنة والهرسك.
على مدى السنوات القليلة الماضية، برزت إسرائيل أيضاً باعتبارها واحدة من الداعمين الدبلوماسيين الرئيسيين لجمهورية صربسكا ذاتية الحكم في البوسنة، حيث أقام وزير المالية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان علاقة عمل وثيقة مع المتشدد الصربي البوسني الموالي لروسيا ميلوراد دوديك.
وتعمل إسرائيل أيضاً على رعاية العلاقات العسكرية والدبلوماسية مع اليونان وكرواتيا ومقدونيا. وعلى مستوى أكثر دبلوماسية انخرطت مع دول البلقان من خلال منتدى دولة كرايوفا، الذي يجمع رؤساء حكومات من صربيا ورومانيا وبلغاريا واليونان، ويركز على تحسين البنية التحتية والتعاون في مجال الطاقة.
يعتبر الوجود الإسرائيلي الدبلوماسي في البلقان مغرياً تماماً للدولة العبرية، إذ تقع هذه المنطقة بين البحر الأسود والبحر الأدرياتيكي، وتضعها جغرافيتها على مفترق بين طرق التجارة.
إلى جانب ذلك، تتمتع كل من كرواتيا والجبل الأسود وألبانيا واليونان بوصول بحري إلى شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وتربط المجر وصربيا شبه جزيرة البلقان بأوروبا الوسطى، وتصل رومانيا وبلغاريا إلى البحر الأسود. وفي الآونة الأخيرة، افتتحت شركة Elbit Systems الإسرائيلية مدرسة طيران في مدينة كالاماتا الجنوبية، لتدريب الطيارين اليونانيين في مهام قتالية.
ومن منظور أوسع، تقع دول البلقان في "عقيدة الأطراف" الإسرائيلية، وهي استراتيجيتها المتمثلة في الالتفاف حول الجيران العرب، الذين يُعتبرون معادين من خلال تعزيز علاقاتها الأمنية والاقتصادية مع الدول الإسلامية غير العربية، بما في ذلك دول البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى.
من الواضح أنَّ البلقان تبرز بوصفها منطقة متميزة، تريد إسرائيل أن تمارس فيها دوراً رائداً، وتعمل على ترسيخ مكانة ريادية في الابتكار التكنولوجي وقطاع الدفاع والأمن السيبراني. وتمكنت إسرائيل حتى الآن من صياغة نظام علاقات عمل ثنائية مع صربيا وألبانيا وكرواتيا وكوسوفو.
في حالة ألبانيا، الأطراف الثلاثة خرجت فائزة: تحصل ألبانيا على دعم إسرائيل فيما يتعلق بالأمن السيبراني والاستخبارات وتبرز ولاءها لواشنطن، بينما إسرائيل تقيم علاقات أوثق مع دولة أخرى غير عربية، ذات أغلبية مسلمة، على أطرافها، وتواصل الولايات المتحدة تدريب مجموعة في ألبانيا تعارض عدوها اللدود إيران، سياسياً وعسكرياً، وهي بطاقة ضغط يمكن سحبها متى استدعت الظروف ذلك.