ربما يعد الأخطبوط من أغرب الكائنات في الطبيعة، إذ يمتلك جسداً إسفنجياً يمكنه اعتصار نفسه والنفاذ من بين الشقوق الصغيرة مع 8 أذرع مغطاة بالمجسات التي تنمو من جديد، وثلاثة قلوب تضخ دماً أزرق اللون (غني بالنحاس)، ودماغ على شكل الكعكة المحلاة تمنحه ذكاء فائقاً مقارنة باللافقاريات الأخرى. لكن لعل أغرب سمة في الأخطبوط هي قدرته على تغيير لونه بسرعة للاندماج في بيئته المحيطة كما يشاء.
ويعد التمويه من المهارات المهمة التي تتشارك فيها كل الرأس قدميات تقريباً، وهي مجموعة من اللافقاريات البحرية التي تتضمن أيضاً الحبار، لكن مهارة التمويه لدى الأخطبوط تتخذ بعداً مختلفاً.
يتميز الأخطبوط بأعلى مستوى من أنماط الدقة وسط كل الرأس قدميات، كما أنه من بين أسرع الكائنات في تغيير لونه وسط مملكة الحيوان بأسرها. وبينما لا تستطيع كل فصائل الأخطبوطيات تغيير ألوانها، إلا أن آليات التمويه تختلف بين الفصائل القادرة على ذلك.
احتار الباحثون من إتقان الأخطبوط للتمويه منذ بداية تاريخ العلوم. منذ نحو 2400 عام، سجل الفيلسوف اليوناني أرسطو، الذي يعتبره كثيرون أحد الآباء المؤسسين للعلم الحديث، ملاحظات تفصيلية حول قدرة الأخطبوط على التمويه.
ووفقاً لعالمة الكيمياء الحيوية بجامعة نورث إيسترن في ماساتشوستس، ليلى ديرافي، فإن أرسطو أول شخص نعرفه يفعل ذلك. لكنها أضافت: "رغم دراسة ومراقبة قدرات الأخطبوط على التمويه منذ قرون، لم نشهد تطورات كثيرة في هذا الصدد حتى وقت قريب جداً".
والسبب هو أن تغيير الألوان في الرأس قدميات عملية معقدة تنطوي على العديد من المكونات الميكروسكوبية المختلفة. ويجعل ذلك "من المستحيل تقريباً" الإجابة بدقة على كيفية حدوث ذلك.
لكن في العقود الأخيرة، أتاحت تقنية متطورة للباحثين "فصل" المكونات الفردية المسؤولة عن التمويه في الرأس قدميات، وبدأنا الآن نفهم كيفية حدوث ذلك.
لماذا يغير الأخطبوط لونه؟
بإمكان الأخطبوط تغيير لونه، لأنه يحتوي على خلايا حاملة الأصباغ، وهي أعضاء صغيرة يتغير لونها وتظهر منقّطة على السطح الخارجي لجسم الأخطبوط.
تقول ديرافي لموقع Live Science، إنه بداخل كل خليةٍ حاملةِ أصباغ توجد أكياس صغيرة مليئة بجزيئات الأصباغ الدقيقة التي يطلق عليها إكسانثوماتين. وتكون أكياس الأصباغ محاطة بمادة مرنة تتصل بدورها بخلايا عضلية تحيط بالأكياس على شكل نجمة مدببة.
وتضيف ديرافي: "عندما تنقبض تلك الخلايا العضلية، تتمدد أكياس الصبغة، ما يتيح لمزيد من الضوء بدخول الخلية لينعكس على جزيئات الإكسانثوماتين. ولأن مادة الإكسانثوماتين تمتص أطوالاً موجية معينة، أو ألواناً معينة، من الضوء المرئي، ينعكس الضوء مرة أخرى من الخلايا حاملة الأصباغ بلون مختلف مقارنة بالضوء الذي دخل الخلية أول مرة".
وتشير ديرافي إلى وجود ثلاث طبقات من حاملات الأصباغ على السطح الخارجي لجسم الأخطبوط، وكل طبقة بها جزيئات الإكسانثوماتين التي تعكس لوناً مختلفاً. تنتج الطبقة العليا اللون الأصفر، وتعكس الطبقة الوسطى اللون الأحمر، بينما تنتج الطبقة السفلية اللون البني. وبإمكان الأخطبوط أن يجمع تلك الألوان عن طريق تغيير شكل حاملات الأصباغ في كل طبقة، مما يتيح للرأس قدميات الظهور بمجموعة كبيرة من الألوان المختلفة.
توجد عشرات الآلاف أو حتى ملايين حاملات الأصباغ في الأخطبوط، بناءً على حجم الفصيلة. ويمكن التحكم في كل حاملة أصباغ بشكل فردي بإشارات عصبية مباشرة من دماغ الأخطبوط تتسبب في انقباض العضلات المحيطة بأكياس الصبغات أو ارتخائها، مما يغير شكلها. تقول ديرافي: "الأمر يشبه الطريقة التي يرسل بها دماغك إشارات عصبية لانقباض أو انبساط أي عضلة بالذراع. لكن في الأخطبوط، يرسل الدماغ إشارات عصبية لانقباض العضلات وفتح أكياس الصبغات والتي تؤدي بدورها إلى تغيير اللون الخارجي للأخطبوط.
لكن حاملات الأصباغ ليست الجزء الوحيد المسؤول عن تغيير اللون. توجد أعضاء أخرى في جلد فصائل معينة من الأخطبوط تساعد في تعزيز أو تعديل الألوان التي تنتجها حاملات الألوان، تلك الأعضاء هي الحاملات القزحية وحاملات الصبغة البيضاء.
تمتاز الحاملات القزحية بأن حجمها أكبر قليلاً من حاملات الأصباغ وتساعد في جعل ألوان الأخطبوط أكثر لمعاناً وتألقاً. أما الحاملات القزحية فتحتوي على بروتين يُعرف بـ"رفلكتين"، والذي يتراكم داخل الحاملات القزحية لإنتاج تأثير عاكس مثل المرآة، وفقاً لدراسة نشرت في مجلة IOP Science عام 2018.
بينما يعد حجم حاملات الصبغة البيضاء مماثلاً لحجم حاملات الأصباغ، لكن تحتوي على صبغة بيضاء بدلاً من مادة الإكسانثوماتين.
كما يمتلك الأخطبوط في جلده آلية تتيح له تغيير ملمسه أيضاً، مما يضيف طبقة إضافية من التمويه. توجد على جلد الأخطبوط نتوءات صغيرة تعرف بالحليمات، عندما تسترخي يصبح الجلد أملس مثل العشب البحري، أو تنقبض فتجعل الجلد خشناً ومجعداً مثل الصخور. تخضع تلك الحليمات أيضاً لإشارات عصبية من الدماغ، لكن تشير ديرافي إلى أننا ما زلنا نجهل الكثير عن آلية تغيير الملمس مقارنة بآلية تغيير اللون، حسب موقع Science ABC.
ما الذي يجعل الأخطبوط جيداً في تغيير لونه؟
تعتمد الكثير من الحيوانات على مهارة التمويه، لكن يتقن الأخطبوط تلك المهارة بمستوى مختلف تماماً؛ نظراً إلى سرعته الكبيرة ودقته الهائلة التي يتحول بها بين مجموعة كبيرة من الألوان. تقول ديرافي: "يغير الأخطبوط لونه في جزء من الثانية. أعتقد أن أسرع تحول أقل من 100 مللي ثانية (0.1 ثانية)، أي أسرع من رمشة العين".
في المقابل، قد تستغرق الحرباء من عدة ثوانٍ إلى أكثر من دقيقة لتغيير لونها تماماً.
بإمكان الأخطبوط إنجاز هذا التحول السريع بفضل "اتصال دماغه العميق بسطح الجلد". تقول ديرافي: "لديه آلية تواصل سريعة جداً، يمكن تشبيهها بمفتاح تشغيل وإطفاء مصابيح الإضاءة في منازلنا".
السبب الرئيسي لهذا الترابط بين الدماغ والجلد هو أن دماغ الأخطبوط، عكس معظم أدمغة الحيوانات الأخرى، غير مقتصر على منطقة واحدة (الرأس). إضافة إلى الدماغ الأشبه بالكعكة المحلاة، يمتلك الأخطبوط "جيوباً دماغية"، أو عقداً دماغية، في جميع أنحاء جسده وفي أذرعه. يعتقد الباحثون أن هذا يتيح لكل ذراع من أذرع الأخطبوط أن يكون له دماغ مستقل، وقد يكون لذلك دور مهم في آلية تغيير اللون الخارجي.
لكن يظل هناك لغز كبير غير مفهوم يحيط بآلية التمويه عند الرأس قدميات: كيف تجيد تلك الكائنات تغيير لون جلدها ليطابق لون بيئتها المحيطة؟ وهذا الموضوع ما زال قيد البحث العلمي.
لماذا يحتاج الأخطبوط إلى التمويه؟
رغم عدم فهم آلية التمويه بالأخطبوط بشكل كامل، يفهم العلماء بشكل أفضل لماذا تغير تلك الكائنات الذكية لونها.
تقول جينيفر ماثر، عالمة النفس في جامعة ليثبريدج بكندا والمتخصصة في سلوك الرأس قدميات، لموقع Live Science: "لا يمتلك الأخطبوط حماية خارجية. بالنسبة لأي كائن مفترس، يعتبر الأخطبوط عبوة مكشوفة من البروتين، مما يعني رغبة جميع كائنات المحيطة في افتراسه".
وأضافت ماثر: "من الناحية التطورية، لم يكن أمام الأخطبوط أي خيار، فبدون الحماية الجسدية، كان عليه أن يطور أساليب تجعله غير مرئي للكائنات الأخرى".
طورت بعض فصائل الأخطبوطيات وسائل أخرى للاختباء. على سبيل المثال، يفقد الأخطبوط الزجاجي كل حاملات الأصباغ لديه ليصبح شفافاً تماماً. أما الفصائل التي تعتمد على تغيير لونها، فتكون تلك القدرة متأصلة لديها ومتاحة منذ الولادة.
توجد استخدامات أخرى للتمويه أيضاً، مثل الصيد والافتراس. تقول ماثر: "نميل دائماً إلى الاعتقاد بأن التمويه آلية دفاعية، وأعتقد أنها مهمة أكثر في الدفاع فعلاً. لكن لا يعني ذلك أنها غير مفيدة للتسلل ومباغتة الكائنات الأخرى".
رغم أن التمويه مهارة فطرية في معظم فصائل الأخطبوطيات، يعتقد الباحثون أن الأخطبوط يتحسن أكثر في تلك المهارة على مدار عمره، الذي يصل عادةً من عام واحد إلى عامين. تقول ماثر: "يتقن الأخطبوط مهاراته بشكل جيد جداً منذ الصغر، لكنها تتحسن أكثر بمرور الوقت. كما يتعلم الأخطبوط بمرور الوقت كيف يجمع بين تغيير اللون مع السلوكيات الأخرى، مثل الاختباء في الشقوق أو تغيير شكل الجسم".