زُوِّدت بجميع أنواع الأشجار ونظام ريٍّ تحدى الجاذبية.. الحدائق المعلَّقة لم يشيِّدها البابليون كما نعتقد.. وهذا الملك هو من بناها

نسمع منذ كنا أطفالاً عن حدائق بابل المعلَّقة التي عُدت من ضمن عجائب العالم القديمة السبع، لكننا لم نر يوماً صورة لها في أي مكان.

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/29 الساعة 12:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/29 الساعة 12:40 بتوقيت غرينتش

نسمع منذ كنا أطفالاً عن حدائق بابل المعلَّقة التي عُدت من ضمن عجائب العالم القديمة السبع، لكننا لم نر يوماً صورة لها في أي مكان.

لكن هذا كله لا يتعدى كونه أسطورة لا أساس لها من الصحة، وتقول الباحثة البريطانية ستيفاني دالي، المتخصصة بدراسات الحضارة الآشورية في جامعة أكسفورد البريطانية: "لا علاقة لبابل بهذه الحدائق التي -إن وجدت- كانت في مدينة نينوى بالعراق".

الكاتبة أليسون مكانري نشرت تقريراً في صحيفة Daily Beast تحت عنوان "أيها البابليون.. أهل نينوى يريدون استعادة حديقتهم.. حقيقة الحدائق المعلَّقة".

في التقرير، تتحدث الكاتبة عن نتائج صادمة توصلت إليها الباحثة البريطانية دالي، تؤكد فيها أن كل ما نعرفه أو نسمعه عن هذه الحدائق يعود إلى روايات ابتدعها في القرن الأول عالمٌ روماني يدعى جوزيفوس.

وتقول إنه هو الذي روى حكاياتٍ عن قصر الملك العظيم نبوخذ نصر الثاني، الذي كان موجوداً في مدينة بابل العراقية قبل ذلك الوقت بـ600 سنة.

ونقلت الكاتبة في صحيفة Daily Beast من كتابات جوزيفوس عن القصر البابلي: "أي محاولةٍ لوصفه ستكون مُملة: ولكن على الرغم من حجم القصر المُدهش وروعته، فقد انتهى بناؤه في غضون خمسة عشر يوماً.. في هذا القصر، أقام الملك نبوخذ نصر الثاني أماكن للمشي عاليةً للغاية، وكانت تسندها أعمدة حجرية، ومن خلال زرع ما يُسمَّى الجنة المُتدلِّية، وتزويدها بجميع أنواع الأشجار، جعل أفق المكان يُشبه تماماً الريف الجبلي. فعل ذلك لإرضاءِ ملكته؛ لأنَّها نشأت في منطقة ميديا (وهي منطقة كانت قديماً تقع شمال غربي إيران)، وكانت مُغرمة بالأجواء الجبلية".

وتؤكد مكانري أن ازدهار الكتابة في تلك الفترة، ساعد جوزيفوس في نشر الصورة التي أراد أن يطبعها في أذهان العامة عن الحديقة.

وتقول إن جوزيفوس ساعد على نشأة اعتقاد أنَّ الملك البابلي كان هو من أنشأ تلك الحديقة العمودية العجيبة، التي أصبحت تُعرف باسم حدائق بابل المعلقة، وكانت محتويات هذه الحديقة والابتكار التقني اللازم لإنشائها مُدهشة للغاية، لدرجة أنَّها اعتُبرت واحدة من عجائب العالم السبع في العالم القديم.

"نبوخذ نصر لم يبنها"



ومع ذلك، حسب رأيها، "لم يتمكن أحد من العثور على دليل على أنَّ حدائق بابل المعلقة كانت موجودةً قط؛ إذ لم يكشف التنقيب في بقايا مدينة ما بين النهرين القديمة هذه عن أي أثر لنظامٍ مُبتكر من الحدائق، ودُرست كتابات نبوخذ نصر الكثيرة ولم يُعثر على أي كلمةٍ عن إنجازٍ، من المؤكد أنَّه كان سيوثقه لو كان حقيقياً".

ماكنري تعتقد أن الإجابة عن هذا اللغز المُستمر، ربما كُشفت على يد الباحثة ستيفاني دالي، التي وجدت دليلاً على أنَّ نبوخذ نصر -على الأغلب- لم يكن له علاقة بالحدائق المعلقة.

بل تُشير الدلائل التي اكتشفتها العالمة إلى أن مُنافِس البابليين الرئيسي، وهو الملك سنحاريب الذي حكم آشور وطرق التجارة والسفر في بابل قبل نبوخذ نصر بـ300 سنة، هو الذي بنى الحدائق.

وتستند ماكنري إلى معلومات الباحثة دالي، التي تبين أنَّ البابليين لآلاف السنين نُسِبَ إليهم -على الأرجح- الفضل في واحدة من أعظم إنجازات الآشوريين، فيما يُعد بالتأكيد واحداً من أفضل أعمال الحرب المعلوماتية غير المقصودة.

ماكنري في تقريرها، تبدو محتارة في إثبات إمكانية وجود الحدائق، لكنها إن وجدت -كما أسلفنا- فإنها لم تكن في بابل؛ بل في نينوى.

ولكن قبل الاسترسال، لا بد من الوقوف دقيقة عند فكرة تقبُّل الناس وجود جنة عدن، أو الحديقة السرية، أو حديقة الزهور الحية.. "كلها مسميات لملاذٍ خيالي من الأحلام مليء بالحياة النباتية الخصبة والغريبة، سكن تخيلاتنا الثقافية منذ البداية"، حسب ماكنري.

"لذلك، ليس من المُستغرب أنَّ تستحوذ فكرة حديقة كانت تبدو كأنَّها مُعلقةٌ فوق رؤوس المتفرجين والمُنبهرين بتنوعها والإبداع الموجود بها- على الخيال الثقافي، أو أنَّ العلماء بدأوا يُشككون في وجودها. فربما كانت حدائق بابل المعلقة مجرد اختراع آخر من وحي الخيال".

الملك الآشوري سنحاريب



حكم الملك الآشوري سنحاريب إمبراطورية كبيرة، تتراوح تقريباً في العصر الحديث من جنوب تركيا إلى فلسطين، وفي كتاباته ذكر إنجازاً آخر.

كتب سنحاريب: "لقد رفعتُ ارتفاع محيط القصر ليكون أمراً مُدهشاً لجميع الناس"، وأكمل وهو يصف "حديقةً عالية تُشبه جبال أمانوس وضعتها بجانب القصر، بها جميع أنواع النباتات العطرية وبستان لأشجار الفاكهة، وأشجار تُحافظ على الجبال، وصفصاف بابلي، بالإضافة إلى أشجارٍ مزروعٌ بداخلها صوف".

كان هذا دليل الإدانة الذي عثرت عليه دالي، التي قالت في لقاء مع قناة PBS، بحلقة من برنامجSecrets of the Dead، في عام 2014: "بدا الأمر كأنَّه كان لدينا المكان الخاطئ، والملك الخاطئ، وقصة خاطئة بأكملها".

مع هذا الدليل الجديد، بدأت دالي دراسة الكتابات والمنحوتات الجدارية التي جاءت من قصر سنحاريب في نينوي، التي تقع بالقرب من مدينة الموصل في العراق، ووجدت الأدلة الأخرى التي تحتاجها.

في حين أنَّ أصل وموقع الحدائق المعلقة كان موضع جدال لمئات السنين، كان هناك اتفاقٌ على أمرين بشكلٍ عام. أولاً، أنَّها مُصممة بشكلٍ يشبه المُدرَّج يعطي الانطباع بأنَّها "معلقة". وثانياً، أنَّها كانت تتضمن نظاماً متطوراً للري ينقل المياه من قاعدة الحديقة إلى الدرجات العليا من أجل الحفاظ على أوراق الشجر هناك على قيد الحياة.

وشرعت دالي في إثبات أنَّ كلا هذين الأمرين كان ممكناً في نينوي، وبتوجيهٍ من سنحاريب.

ولكن، من المستحيل إثبات نظريتها بنسبة 10%، فهو أمرٌ قد يتطلب بحثاً مكثفاً في موقع نينوي نفسه، وهي عملية مستحيلة؛ نظراً إلى الوضع الأمني الخطير والمستمر في الموصل، ولكن ما وجدته دالي يدعم استنتاجاتها، ويشير إلى أنَّ الحدائق المُعلقة كانت إنجازاً رائعاً من الفن والهندسة، وأنَّها يجب أن تُعرف باسمها الصحيح، وهو حدائق نينوى المعلقة.

نظام ري يصل لـ96 كيلومتراً



لتصبح أرض العجائب الخضراء هذه مُمكنة، كان على سنحاريب نقل المياه من نهر دجلة البعيد إلى قصره في نينوى، ليتمكن من توفير الحاجات اليومية الهائلة للحديقة. وفعل ذلك من خلال إنشاء نظام دقيق من القنوات التي حولت المياه عبر الوادي لمسافة تصل إلى نحو 96 كيلومتراً.

ولكل كيلومتر تجتازه المياه، كانت تقل متراً في الارتفاع، وتشق طريقها ببطء إلى عاصمة المدينة. وعند نقطةٍ ما، كان على القناة أن تعبر تياراً. وهكذا صنع الآشوريون -الذين عاشوا أكثر من 600 سنة قبل بداية الإمبراطورية الرومانية وقبل ولادة المسيح- قناةً اصطناعية تسمح لقناتهم بالصعود فوق المياه والاستمرار في طريقها.

زارت دالي نظام القنوات هذا قبل عدة سنوات، وكانت هناك آثار من أعمال سنحاريب موجودة، مدعومةً بحقيقة أنَّ الملك لم يكن خجولاً فيما يتعلق بالترويج لذاته.

ففي بداية نظام القنوات، كانت هناك منحوتات حجرية عملاقة على الجدار، حيث يتباهى سنحاريب باختراعه ويساوي نفسه مع الآلهة. وتحتوي القناة الاصطناعية على رموزٍ مشابهة، حيث يُوقع سنحاريب بشكلٍ أساسي اسمه على الإنجاز، مثلما يوقع الرسام على لوحته، بجانب وصف يحمل قدراً كبيراً من الكبر: "ملك العالم، ملك أرض آشور".

وقالت دالي للبرنامج المذاع على PBS: "ليس هناك شك فيمن بنى هذه الحديقة. وهو ليس متواضعاً على الإطلاق. أراد أن يتأكد أنَّ إرثه سيبقى للأبد".

الري في الأعلى


يصعب تحديد الموقع الدقيق للحديقة في مُجمع القصر، ولكنَّ دالي لديها فكرةٌ عن المكان الذي تعتقد أنَّها كانت فيه، والعديد من المنحوتات الحجرية في القصر تُعطينا فكرة عما كانت تبدو عليه.

ويبدو أنَّ الحكايات التي جرى تداولها عبر العصور صحيحة؛ إذ كان نظام الحديقة -على الأرجح- مُدرجاً، مع بحيرةٍ في الأسفل وصفوفٍ من الحياة النباتية المحلية والغريبة تشق طريقها إلى الأعلى.

وهذا يقودنا إلى اختراع سنحاريب الأخير المدهش، وهو ريّ تلك النباتات في الأعلى.

فبعد مرور نحو 500 عامٍ على ما يفترض أن يكون تاريخ إنشاء الحدائق المعلقة، اخترع عالم يوناني يُدعى أرخميدس ما يُطلق عليه "لولب أرخميدس". تسمح هذه الآلة بنقل المياه عمودياً، وما زالت تُستخدم إلى يومنا هذا. ولكن، اتضح أنَّ سنحاريب كان يسبقه بقرونٍ؛ إذ طوّر-وبالطبع كتب عن- أنابيب لولبية برونزية استخدمها في رفع المياه من البحيرة أسفل الحدائق الهرمية إلى القمة؛ لإمداد النباتات المزروعة في أعلى الحدائق بأكثر من 300 ألف لتر من المياه يومياً.

وفي 2013، نشرت دالي نتائج بحثها بكتابها The Mystery of the Hanging Garden of Babylon، وأنهت بذلك -على الأرجح- نسبتها إلى نبوخذ نصر.

ونفت دالي أيضاً عن عجيبة الدنيا تلك، الوصف المريب بكونها العجيبة الوحيدة من عجائب الدنيا السبع التي اختفت دون أن تترك أثراً. وأصبح يمكن التصديق بحقيقة وجودها.

وأخيراً، سينال سنحاريب ما يستحقه، وهو شيء كان هذا الملك الفخور يُقدره. لم تكن الحدائق المعلقة هدية نبوخذ نصر المذهلة لملكته المشتاقة إلى الوطن؛ بل كانت -على الأرجح- أحد إبداعات سنحاريب، أرادها أن تكون "عجيبةً لكل الشعوب".

وقالت دالي: "الأمر هو أنَّها ليست مجرد حديقة، أليس كذلك؟ إنَّها إحدى عجائب الدنيا من أوجهٍ عدة. تُعد محطات المياه تلك بأكملها جزءاً مما يجعل الحدائق المعلقة من عجائب الدنيا، وتُظهر شخصية سنحاريب. إنه لم يكن خائفاً من تنفيذ مشروعٍ ضخم وكان يملك الخبرة لتنفيذه، ونجح الأمر عندما نفذه".

علامات:
تحميل المزيد