ماذا بعد “ميتا”.. متى يقنع الإنسان بالأرض؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/10/30 الساعة 14:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/10/30 الساعة 14:44 بتوقيت غرينتش
من الإعلان عن إطلاق مارك زوكربيرغ "ميتافيرس"- يوتيوب

في عالمنا الجديد المجيد، المتطور جداً، الذي يبحث عن الثراء بأي صورة كانت، ولو كان من خلال تحويل البشر إلى مجموعة من الدُّمى، لا يتورع أربابه عن البحث اللانهائيّ عن التكنولوجيا، ذلك الإله الذي يعبدونه لأنه يسمح لهم بأن يصيروا آلهةً أيضاً، ويمنحهم شيكاً على بياض باستغلال أي شيء وكل شيء من أجل تحقيق غايتهم: توفير الرفاهية للبشر.

بغض النظر يا سيدي عن أن البشر لن يجدوا الرفاهية لأنهم أنفسهم الهدف، والمستهدف، فلم نعد في عصر استغلال المعلومات والبيانات من دون إذن أصحابها، وإنما استغلال أصحاب البيانات أنفسهم من حيث لا يشعرون، مع إيهامهم بهذه الأضواء البراقة، وقد انتقلوا من عصر متطور إلى آخر أكثر تطورا، يجعلهم مخلوقات من جديد، يمنحهم القدرة على استنساخ أنفسهم، على خلق المزيد منهم، في فرصة ذهبية للحياة كما نريد.

ويظن المطورون بهذا ربما أن العالم أخيراً لم يعد في حاجة إلى خالق، ننسف فكرة الإله، فالبشر هم أنفسهم الإله الجديد، بل نجدهم قادرين على أن يخلقوا عوالم أخرى، دون الحاجة إلى الله، فنحن خلقنا مجموعة من الشيفرات الضخمة شديدة التعقيد، التي يمكنها خلق بشرٍ إلى ما لا نهاية، حتى مع كون الموت حقيقةً تحدث منذ ملايين السنين، فإن الآلة لا تموت، لأنها خالية من الروح التي تمنح أو تمنع الحياة!

وبعيداً عن الجدال الذي لا ينتهي بخصوص العالم الجديد، الافتراضي شكلياً، الواقعي عملياً، أعود وأسأل ماذا بعد؟ يعني بعد كل هذا اللهث، إلى أين سنذهب؟ وكانت تلك الفكرة حاضرة من بعيد، منذ مشاهدتي لفيلم "سبع سنوات في التبت" حيث يسعى البطل إلى اكتشاف ذلك العالم البدائي خلف الجبال شاهقة الارتفاع، ومنذ حدثنا السيد إيلون ماسك عن المريخ وسعيه لبناء مستعمرة فوقه، ومنذ طموحات إرسال البشر إلى الفضاء، وأنا لست ضد الطموح والفضول، وإنما ضد اللهث خلفهما بلا جدوى، بينما في الأرض نفسها التي يصرف هؤلاء النظر عنها، نحو أربعة مليارات إنسان لا يعرفون ماذا قد يأكلون اليوم، وهل هناك ما قد يأكلونه فعلا؟

أهلاً وسهلاً، اكتشفنا المريخ، وبنينا مستعمرة فوقه، وكتبنا على القمر أسماءنا، وطلينا الفضاء بلوننا المفضل، وجعلنا الرعد يردد موسيقى بيتهوفن، وانتشرت في الشوارع شركات تذاكر الفضاء بدلاً من شركات تذاكر الطيران، وأصبحت الرحلة لا تتجاوز الخمس دقائق، ماذا بعد؟ هل ندرك أصلاً حجمنا بكل هذا الهراء الضخم، وكم نحن متناهون في الصغر، كأننا لا نُرى بالعين المجردة، مقارنةً بحجم الكون؟

عند هذه النقطة، ووسط ذلك الكم الفظيع من الإرهاق، أشعر بضرورة التوقف عند نقطة نظام، تمهلوا، بل قفوا تماماً، بل أوقفوا كل شيء، وأغمضوا عيونكم، وتخيلوا، عالماً من البشر، يلتقون بأجسامهم الطبيعية، بينهم مسافات طبيعية، يقطعونها بطرق طويلة، يختصرونها بوسائل أخرى ربما، ليلتقوا حقيقةً بآخرين، وأقصى ما يمكنه اختصار المسافات بينهم أن يتحدثوا في الهاتف مع من يحبونهم، فيخبروهم أنهم مشتاقون إليهم، تخيلوا أن هذا كله قد يكون بحد ذاته حلماً في يوم قريب، ينتقل فيه الناس عبر نسخٍ افتراضية إلى نسخ افتراضية من آخرين، وحينها يظنون أنهم التقوا، في عالمٍ يعج باللزوجة المفرطة، والمادية القاتلة، التي لا تقف عند تسليع الإنسان، وإنما إلغاء مشاعره، حقيقته، في مجرد تطبيعٍ مع الزيف، وتواطؤ ضد حقيقة الناس والأشياء!

لا أخفيكم سراً، أني أشعر بصداع رهيب وأنا أكتب هذا المقال، لأنني أعتصر عقلي لأتخيل ما نحن مقبلون عليه، وأحس بضجيج رهيب، ومحاولات دفاع مستميتة عن نفسي، لا أريد أن أتحول إلى وهم، وحياتي مجرد فقاعة كبرى، في عالم ميتا، حيث أتمكن الانتقال إلى كل مكان في كل وقت، وأن أفعل كل شيء دون أن يوقفني شيء، ولا مرجعية لديّ على الإطلاق، كما لا أريد ذلك لأولادي حين يأتون للدنيا بالتأكيد!

وقد يرى البعض في هذا الحديث "أفورة"، بالرغم من أن "الأفورة" الحقيقية الكبيرة تكمن فيما يجهزه هؤلاء للبشرية، ولا أبالغ حين أتصورهم يقتلون الحقيقة، فيدخلوننا في مرحلة جديدة من السيولة، كأنهم لم يكفهم سيولة المشاعر، وسيولة الحب، وسيولة التعارف، وسيولة العلاقات، لندخل عهداً من سيولة الإنسان ككل.

وأرى في كل ذلك أن على الإنسان التوقف قليلاً، والتفكير فيما بين يديه، وماذا يريد الله منه، وماذا يريد هو لنفسه حسب مراد الله، ويرى الدنيا على حقيقتها، ويدرك ما له وما عليه، فلا تشقيه الأيام وفي صدره غنى بالله ومراده، ويتذكر أن للدنيا إلها لا يعجزه شيء، ويدرك أن فوق كل ذي علم عليم، وأن هؤلاء أنفسهم، كانوا لعام كامل -وأكثر لو شاء الله- لا يقدرون على أن يذهبوا لمكاتبهم في شركاتهم، لأن الله القادر أراد ابتلاءنا بشيء لا نراه.

فنعرف أن سعي الإنسان لما يسهل عليه حياته مهم، لكن بما لا يكون فيه من المبالغة ما يفسد عليه دنياه ودينه، وليس في ذلك دروشة، وإنما إقرار وسط هذه القدرات البشرية الهائلة، بأننا ضعفاء جداً إلى الله، وأنه القاهر فوق عباده! وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه! و"ألا له الخلقُ والأمرُ"؟! تبارك الله رب العالمين!

لذا، اتركوا لنا بساطتنا، وعالمنا القديم.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد