أمريكا وأفغانستان وحقوق الإنسان.. إطلالة على الجانب المظلم

عربي بوست
تم النشر: 2021/08/26 الساعة 10:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/08/26 الساعة 10:33 بتوقيت غرينتش
قوات أجنبية في أفغانستان/ رويترز

 أثار خروج قوات الولايات المتحدة وحلفائها من أفغانستان الجدل حول ما يعنيه خطاب "حقوق الإنسان"، وماذا نعني بمصطلح "إنسان"؟ حين يترك الغربي البلاد التي اجتاحها قبل عشرين عاماً بدعوى تحقيق "الحرية والديمقراطية والمساواة"، فأقول: يغادر الغربي تاركاً خلفه تلك الأجواء من الرعب والهلع بين الأفغان من جماعات كانت تصنف حتى وقت قريب على أنها "جماعات إرهابية"، حتى لقد وصل الأمر إلى أن يتشبث بعض الأفراد بأجنحة طائرات متجهة إلى الغرب بحثاً عن حياة آمنة كريمة يعتقد أنه سيجدها في بلاد حقوق الإنسان، فيسقط بعضهم من الطائرة كذباب بلا قيمة!

أعاد هذا الجدل إلى ذهني مقالاً مهماً لأستاذة القانون والباحثة ذات الأصول الهندية رانتا كابور، بعنوان "حقوق الإنسان في القرن الحادي والعشرين: نزهة على الجانب المظلم" (2006)، المنشور في مجلة سيدني: مراجعة قانونية "Sydney Law Review". ورانتا كابور هي أستاذ القانون في جامعة كوين ماري بلندن، وكانت أستاذة زائرة في عدد من الجامعات حول العالم، وعملت أيضاً مع الأمم المتحدة، وذلك بعد أن عملت كمستشارة للنوع الاجتماعي (الجندر) في بعثة الأمم المتحدة في نيبال، وهي البعثة السياسية الخاصة للمنظمة؛ لدعم عملية السلام في نيبال بعد نزاع مسلح داخلي دام عقداً من الزمان. 

معنى "حقوق الإنسان"، وكيف نشأ؟

وُلِدت فكرة "حقوق إنسان عالمية" في ظروف الانتهاء من الحرب العالمية الثانية، ويُقصَد "بحقوق الإنسان" مجموعة من الحقوق الأساسية التي تسعى لضمان الكرامة والعدل والمساواة لكل البشر دون تمييز حسب جنسياتهم أو لغاتهم أو أديانهم أو أعراقهم. وتعتبر هذه الحقوق "المثل الأعلى الذي ينبغي أن تبلغه كافة الشعوب والأمم"، كما جاء في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، على أن تُضمَنَ تلك الحقوق الأساسية عبر الدساتير الوطنية والاتفاقيات الدولية، ولكن الجدل حول صياغة معايير "حقوق إنسان عالمية" تمثل كل الثقافات لم يفقد زخمه، وخصوصاً في ظلِّ ما تعرضت له مجتمعات غير غربية من تدخُّل عسكري غربي تحت خطاب حقوق الإنسان، وآثار ذلك التدخُّل.

وفي مقالها "حقوق الإنسان في القرن الحادي والعشرين: نزهة على الجانب المُظلِم"، تذكرنا كابور بأنه على الرغم من الأهمية الكبيرة لخطاب "حقوق الإنسان" فلا يمكننا إهمال الجوانب السلبية التي ينطوي عليها هذا الخطاب، والتي قد تتسبب في زيادة تهميش ومعاناة فئات جاء تحت شعار دفع المعاناة والظلم عنها.

تشرح كابور في مقالها المذكور أعلاه كيف تحوَّل مشروع "حقوق الإنسان" إلى خطاب تمَّ تطويعه من قِبل قوى مختلفة، لينتهي الأمر بارتكاب جرائم في حق المُهَمَّشِين فاقت تلك التي ارتُكِبَتْ في القرن الماضي قبل الإعلان عن هذا المشروع الإنساني، تتحدى كابور الادعاء بأن مشروع حقوق الإنسان قد نجح في تحقيق قيمه الأخلاقية المُعلَنة، وهي: المساواة، والحرية، وتخليص المضطهدين في العالم من معاناتهم.

فعلى العكس من ذلك تَحْتَ شعار حقوق الإنسان تمَّ ارتكاب المزيد من الفظائع ضد المُهمَّشِين في العالم في القرن الحادي والعشرين؛ إذ لم يستطع خطاب حقوق الإنسان أن يتخلص من المصالح الغربية العرقية والسياسية والاقتصادية، وخصوصاً في ظل التفاوت الكبير من حيث الثروة والهيمنة بين المجتمعات الغربية وغير الغربية، وهذا ما جعل كابور ترى أن التدخُّل الإنساني تحت شعار حقوق الإنسان ينطوي على خطر إعادة إنتاج الهيمنة السياسية والثقافية الغربية على "الآخر" غير الغربي.

حجج مشروع حقوق الإنسان

ولدعم حجتها ترصد كابور الافتراضات الرئيسية الثلاثة التي يقوم عليها مشروع حقوق الإنسان، وهي:

أولاً: أن مشروع حقوق الإنسان هو جزء من خطاب الحداثة الغربية، وهو ما ينطوي على خطرين رئيسيين:

الخطر الأول: أنه يفترض أن الغرب قد حقق الحضارة والديمقراطية والحرية، وبالتالي فإن مشروع حقوق الإنسان صالح فقط لأولئك "المتخلفين" من غير الغربيين من وجهة نظرهم؛ لتدشين عصرهم الحديث، ومن ثَمَّ فإن هذا الافتراض لا يخلق فقط نموذجاً للقوة يضع التفوُّق الغربي في مقابل الدونية الشرقية، بل يفترض أيضاً أن الدول الغربية مُحصَّنة ضد أي انتهاكات لحقوق الإنسان.

والخطر الثاني: أن خطاب حقوق الإنسان يتم تطويعه كذريعة من قبل السياسيين الغربيين للتدخل في دول غير غربية، ومثال ذلك التدخُّل العسكري للولايات المتحدة في كل من أفغانستان في عام (2001) والعراق في عام (2003).

الديمقراطية الأمريكية في أفغانستان

فأما في أفغانستان فقد سبقه خطاب واسع في الإعلام عن مسؤولية الولايات المتحدة عن تحقيق الديمقراطية الليبرالية، والدفاع عن الشعب المقموع، وتلاه دعاية واسعة حول المرأة الأفغانية المقموعة خلف حجاب أسود مقارنة بالمرأة الأمريكية التي تستمتع بطلاء أظافرها دون عقاب، كل ذلك دون الإشارة لأهمية المؤسسات التعليمية والمهنية التي من المفترض أن يؤسسها التدخُّل الإنساني في الداخل؛ لدعم وتمكين المرأة الأفغانية. وأما في العراق فكان التباهي في الإعلام الأمريكي بأن التدخُّل الأمريكي قد نتج عنه أن تمكَّن الشعب العراقي من التصويت لأول مرة في التاريخ، مع عدم التعليق على تداعيات التدخُّل العسكري الذي ترك معظم فئات الشعب العراقي في ظروف أسوأ من ذي قبل.

وعلاوة على ذلك، من خلال اتخاذ الحرب على أفغانستان والعراق كنقطة مرجعية لنا، تُؤكِّد كابور أن مشروع حقوق الإنسان مشروع مُسَيَّس بدرجة لا يمكن التغاضي عنها، فقرار التدخُّل لتحرير ومساعدة الفئات المقهورة والمُهَمَّشَة يأتي فقط بعد حسابات مالية وسياسية، فلم تكن المرأة الأفغانية المرأة الوحيدة المحرومة من حقِّها في رفض النقاب في العالم الإسلامي، ولم يكن العراق البلد الوحيد الذي يحكمه ديكتاتور لا يحكم وَفْق انتخابات ديمقراطية في الشرق الأوسط.

ثانياً: تتساءل كابور عن زعم "عالمية حقوق الإنسان" من خلال التعامل مع القيم الثقافية التي يتبناها غير الأوروبيين المتواجدين في مجتمعات غربية، حيث ترى أن "الآخر" غير الأوروبي اعتبر مصدراً "للشر" و"التلوث" منذ بداية عصر التنوير، فكان هذا الخطاب مبرراً لاستعماره تحت شعار "عبء الرجل الأوروبي الأبيض" في تحضير غير الأوروبي من خلال تخليصه من عاداته وممارساته "المتخلفة والشريرة".

غير الأوروبيين في القرن الحادي والعشرين

وأقول إن غير الأوروبي لا يزال يُعامَل بالطريقة نفسها في القرن الحادي والعشرين، تحت شعار خطاب حقوق الإنسان، حتى وإن وُلِد ونشأ في بلد غربي "ديمقراطي". ففي خطابات حقوق الإنسان يتعامل الغرب مع "الآخر" غير الغربي وفق ثلاثة أساليب رئيسية، وهي: "الذوبان والتماهي التام مع الثقافة الأوروبية، والتخلي الكليِّ عن قيم أسلافه وتاريخهم؛ ليتم الاعتراف به، و"التسامح" مع تواجد ذلك "الآخر"، مع تبنِّي ثقافته بشرط أن تظل تلك الثقافة "ساكنة" لا تظهر بشكل علني في المجال العام، أو الرفض التام للثقافة والتاريخ المختلف لغير الأوروبي، كما في حال النساء الأوربيات المسلمات اللاتي اخترْنَ ارتداءَ الحجاب في دول عديدة مثل فرنسا، حتى وإن كانت تلك الأساليب الثلاثة تعد أساليب تمييزية تنكر تاريخ وثقافة غير الأوروبيين، فخطاب "حقوق الإنسان" هو الخطاب الذي يتم استخدامه لإقصاء قيم ومعايير غير الأوروبي.

ثالثاً: ومن هنا تُشَكِّك كابور في الزعم بأن مشروع حقوق الإنسان يهدف إلى تحقيق المساواة بين جميع أفراد العالم، فكلمة "إنسان" قد لا تحمل دائماً الدلالة نفسها عندما نتعامل مع أفراد من ثقافات وبقاع جغرافية مختلفة، وبالتالي لا يتمتع كل "إنسان" بالضرورة بالحقوق نفسها، فوفقاً للغرب الديمقراطي المتحضر، هناك درجات مختلفة من "الإنسانية"، لذلك من أجل التمتع بجميع الحقوق يجب أولاً ذوبان الآخر ليبدو "الآخر الغريب" مثل الغربي، وهو أمر مستحيل على أيِّ حال، لأنه وبغضِّ النظر عن مدى صعوبة محاولته تقليد الغربي، فسوف ينتهي به الأمر أن تبدو "تقريباً كالغربي ولكنك لست غربيّاً تماماً".

ومن هنا يبدو لنا أن كابور تتفق مع ديفيد كينيدي في مقالته "الحركة الدولية لحقوق الإنسان: جزء من المشكلة! ما الحل؟"(2002)، إذ يرى أنه "يمكن أن يكون لتحقيق حقوق الإنسان أحياناً عواقب وخيمة… فهؤلاء الأشخاص ذوو النوايا الطيبة في المجتمعات الجيدة قد ينتهي بهم الأمر بدعم وتعزيز الممارسات التي تعلموا شجبها" (ص 124).

حقوق الإنسان بين نارين

ولكن على الرغم من هذه الانتقادات الموجهة لمشروع وخطاب حقوق الإنسان فلا يجب استخدام تلك الانتقادات كتبرير من قبل حكومات وأفراد؛ لاستثناء مجتمعاتهم من الالتزام بحقوق تحفظ كرامة مواطنيهم، وهنا نقد فكرة حقوق الإنسان مثل كابور، بشأن خطاب "عالمية حقوق الإنسان" بأكمله كحركة أخلاقية، ولا يدعون للتخلي عنه، لكنهم يدعون إلى إعادة التفكير في تنفيذ مشروع حقوق الإنسان من خلال إضافة ممثلين فعليين وفاعلين عن هؤلاء المُهَمَّشِين والمقهورين من دول غير غربية؛ ليقوموا بتمثيل أنفسهم بأنفسهم، لا أن يتمَّ تمثيلهم بالإنابة عنهم، وتقييم ممارساتهم وثقافتهم وفقاً للمعايير الأوروبية، وهو ما قد يضمن قدراً من الالتزام بالتطبيق العادل لمبادئ حقوق الإنسان، وكذلك محاولة لتجنب التأثير الكبير لتدخل المصالح السياسية والاقتصادية على خطاب الإنسان، والذي قد يتسبب في تضرر غير الأوروبيين المهمشين بما يتعدى ضرر ما قد يأتي به خطاب حقوق الإنسان.

وأخيراً وبالعودة للسياق الحالي لانسحاب قوات الولايات المتحدة من أفغانستان، التي دخلتها تحت شعار التزامها بـ"إحلال الديمقراطية"، وبناء دولة بدلاً من دولة فاشلة لا تلتزم بحقوق الإنسان، ورغم أن كلمات الرئيس بايدن بعد الانسحاب بأن الأمريكيين "غير ملزمين ببناء دولة للأفغان… وإن أرادوا فعليهم أن يفعلوا ذلك بأنفسهم" قد تُرَى على أنها تَخَلٍّ وتراجع عن الالتزام "بحقوق الإنسان العالمية" في مقابل المصلحة الوطنية الأمريكية، فهي في الوقت ذاته تأكيد على تغيُّر خطاب حقوق الإنسان وفقاً لتوافقات سياسية واقتصادية حالية، إلا أنها فرصة للدول غير الغربية أن تسعى لتحمُّل مسؤولية إصلاح داخلها دون تدخُّلات خارجية إمبريالية قد تضيف لمعاناة الشعب، ولكن دون التخلي عن مشروع وخطاب حقوق الإنسان، الذي يجب أن يظل تحت حماية ومُساءلة وطنية ودولية.

مصادر:

Kenndy, David. "The international human rights movement: Part of the problem?". Harvard Human Rights Journal. 2002

Kapur, Ratna, Human Rights in the 21st Century: Taking a Walk on the Dark Side (2006). 28:4 Sydney Law Review 665-687 (2006), Available at SSRN:

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أماني الصيفي
باحثة ومحاضرة بكلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بجامعة هومبولت برلين
كاتبة و باحثة ومحاضرة بكلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بجامعة هومبولت برلين، ألمانيا. حصلت على درجتي الماجستير والدكتوراه في الدراسات الأدبية والثقافية من جامعات ألمانية. تشمل اهتماماته البحثية النظرية الأدبية،و نظرية الأزياء و وأدب ما بعد الاستعمار ودراسات النوع الاجتماعي والبيئة. صدر لها العديد من الأبحاث باللغتين العربية والإنجليزية في مجلات دولية محكمة كما صدر لها مؤخرا كتاب باللغة الانجليزية بعنوان Modern Egyptian Women, Fashion and Faith : discourses and REpresentations عن دار نشر بلغراف ماكميلان بسويسرا .
تحميل المزيد