أعلنت كبرى شركات الشحن ونقل النفط في العالم واحدة تلو الأخرى إيقاف أو تعليق مرورها عبر البحر الأحمر نحو قناة السويس، بسبب الهجمات التي يشنها جماعة "أنصار الله" الحوثيون من اليمن على السفن التي ترفع علم "إسرائيل"، والمتجهة إلى موانئها محمَّلة ببضائع أو نفط أو غاز أو غير ذلك، بسبب استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة.
ومن أبرز الشركات الدولية التي أعلنت إيقاف عبورها إلى البحر الأحمر شركة "ميرسك" الدنماركية، وشركة "هاباغ لويد" الألمانية، وشركة "إم إس سي" السويسرية الإيطالية، وشركة "سي إم إيه – سي جي إم" الفرنسية، وشركة "أورينت أوفرسيز كونتينر لاين" (OOCL) في هونغ كونغ وغيرها.
الأزمة تتصاعد في البحر الأحمر
تقول صحيفة Calcalist الإسرائيلية، إنه بالنظر إلى الأهمية الكبيرة لقناة السويس في مسار التجارة العالمية، فإن تجميد شركات الشحن لعملها في البحر الأحمر يمكن أن يعطل خطوط الشحن في جميع أنحاء العالم. وقد اشتدت المخاوف من أزمة عالمية بعد أن أعلن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، الإثنين، عن إطلاق عملية متعددة الجنسيات لحماية التجارة بالبحر الأحمر في أعقاب سلسلة من الهجمات الصاروخية وبطائرات مسيّرة شنها الحوثيون.
وقال أوستن، الذي يقوم بزيارة للبحرين، التي تستضيف الأسطول الأمريكي في الشرق الأوسط، إن الدول المشاركة تشمل بريطانيا والبحرين وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنرويج وسيشيل وإسبانيا. وأضاف أنهم سيقومون بدوريات مشتركة في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن. وقال أوستن في بيان: "هذا تحدٍّ دولي يتطلب عملاً جماعياً. ولذلك أعلن اليوم عن إطلاق (عملية حارس الازدهار)، وهي مبادرة أمنية مهمة جديدة متعددة الجنسيات".
في المقابل، وعلى الرغم من الأزمة الجارية وهجمات الحوثيين، ارتفعت قيمة أسهم شركات الشحن ارتفاعاً ملحوظاً في الأيام القليلة الماضية. فلماذا إذاً يرى المستثمرون في هذه الأزمة فرصة سانحة لهم؟ وما تداعيات هذه الأزمة على "إسرائيل"؟ وهل تؤثر على تكاليف معيشة الإسرائيليين؟
ما التداعيات القريبة لوقف الملاحة في البحر الأحمر على إسرائيل؟
كان ميناء "إيلات" أكثر الموانئ الإسرائيلية تضرراً بهجمات الحوثيين منذ بدايتها، فقد انخفض النشاط البحري في الميناء بنسبة 80% تقريباً. ولما كانت حركة التجارة البحرية يُخطط لها قبل التنفيذ بأشهر، فلا يستبعد أن تستمر الأضرار اللاحقة بنشاط الميناء حتى نهاية يناير/كانون الثاني على الأقل، إذ إن شركات الشحن لن تدرج الميناء ضمن مسارات الشحن الخاصة بها في المرحلة القادمة، ما يعني في الواقع أن الأضرار الواقعة على الميناء قد يمتد أثرها فترة طويلة.
ومن ثم، يتوقع أن يطلب ميناء إيلات تعويضاً من الدولة عن الإيرادات التي خسرها، وذلك بمقتضى برنامج تعويض الشركات الذي أعلنت عنه الحكومة الإسرائيلية، غير أن هذا البرنامج لم يُدرج بعد في ميزانيته تعويضات الخسائر عن شهر ديسمبر/كانون الأول، ولم يتضح بعد مقدار التعويضات التي سيتلقاها الميناء في المستقبل إذا استمرت الأزمة.
يمكن لموانئ إسرائيلية أخرى أن تغطي أنشطة ميناء إيلات، لكن ذلك لا يسري على جميع أنواع البضائع. فقد افتتحت "إسرائيل" في السنوات الماضية عدة أرصفة جديدة في موانئها، ما أدى إلى تقسيم النشاط على هذه الموانئ، وتخفيضه في بعضها. ففي ميناء حيفا، على سبيل المثال، كانت الإدارة تبحث خطة تقاعد طوعي لأكثر من 100 موظف (من أصل 800 موظف) بعد افتتاح محطة حاويات جديدة (رصيف الخليج الجديد) في ميناء حيفا، ما أدى إلى انخفاض نشاط الميناء القديم بنسبة 10%.
ومع ذلك، فالبضائع القادمة إلى الموانئ تتفاوت في الحجم والتكلفة، ومن ثم تتباين قدرات الموانئ في استقبالها، ما يعني أن تغيير مسار النقل البحري لا يقتضي وصول المزيد من البضائع إلى ميناء حيفا وميناء أشدود. فعلى سبيل المثال، كان ميناء إيلات يتولى استقبال نحو 50% من المركبات التي تصل إلى "إسرائيل" وتفريغها، إلا أن ذلك لا يوجب أن تكون الموانئ الأخرى قادرة على تلبية المهمة.
ما تداعيات تلك الأزمة على سوق السيارات في "إسرائيل"؟
قطاع المركبات من أكثر القطاعات تأثراً بإيقاف العمل في ميناء إيلات، فحركة الشحن المرتبطة بهذا القطاع تمثل 85% من نشاط التفريغ في الميناء. ويشير الواقع الحالي إلى أن ميناء إيلات لن يستقبل سفناً تحمل مركبات جديدة حتى شهر يناير/كانون الثاني على الأقل، وربما أبعد من ذلك.
علاوة على ذلك، تختلف ضريبة الشراء السارية على السيارات الكهربائية والسيارات الهجينة في ديسمبر/كانون الأول عن نظيرتها في يناير/كانون الثاني، إذ من المقرر أن تزداد الضريبة في مطلع السنة الجديدة. ولذلك، يطالب مستوردو السيارات الإسرائيليون بإعفاء السيارات من الجمارك ما دامت خارج المياه الاقتصادية لإسرائيل. ولم ترد سلطات الاحتلال بعد على هذا الطلب، لكن هذه السيارات لن تصل إلى إيلات خلال الشهر الجاري على أي حال، وإذا لم تُحل الأزمة، فيُتوقع أن تزداد أسعار السيارات على المستهلك.
هل هناك مسار آخر يعوّض "إسرائيل" عن طريق البحر الأحمر؟
تعتمد "إسرائيل" على الشحن البحري في استقبال 99% من البضائع الواصلة إليها، وتمر 40% من هذه البضائع عبر قناة السويس. ومن ثم فإن إيجاد طريق آخر للشحن يقتضي تغييراً واسع النطاق في طرق شحن البضائع القادمة إلى "إسرائيل".
الاحتمال الأول أن تبحر هذه السفن حول أفريقيا، أي عبر طريق رأس الرجاء الصالح. إلا أن هذا المسار أطول بكثير من طريق البحر الأحمر، ويمكن أن يؤخر تسليم البضائع أسابيع طويلة، علاوة على كونه أكثر تكلفة.
أما الخيار الثاني، فهو الاعتماد على الشحن الجوي في نقل المزيد من البضائع، ومع ذلك فهناك بضائع لا يمكن نقلها جواً، لا سيما المواد الثقيلة -مثل الإسمنت والنفط- والمركبات. والنقل الجوي أكثر تكلفة كذلك.
وقالت نحاما رونان، رئيسة شركة "مامان" التي تدير ميناء الشحن الجوي في مستوطنة نتاف، إن "أسعار النقل البحري اليوم أرخص بكثير من أسعار النقل الجوي، وتبلغ من 4 آلاف إلى 5 آلاف شيكل (من 1092 دولاراً إلى 1365 دولاراً) للحاوية الواحدة، ومن ثم فإن هذا المسار لن يعتمد عليه إلا الشركات التي تكون منتجاتها عالية الثمن، ومن ثم يمكنها استيعاب هذا الارتفاع في التكلفة".
واستشهدت نحاما بما حدث خلال فترة كورونا، إذ تجاوزت أسعار الشحن البحري 14 ألف شيكل (3800 دولار) للحاوية الواحدة، وقد أدى ذلك إلى عدول كثيرين عن الشحن البحري إلى الشحن الجوي، ومع ذلك فقد بقيت حصة الشحن الجوي لا تمثل إلا جزءاً قليلاً من واردات "إسرائيل".
لماذا ترتفع قيمة أسهم شركات الشحن البحري؟
على عكس التوقعات التي انتشرت في البداية، ارتفعت قيمة أسهم شركات الشحن بعد الإعلان عن وقف الإبحار في البحر الأحمر. فعلى سبيل المثال، ازدادت قيمة سهم شركة "زيم" الإسرائيلية بنسبة 30% في الأيام الخمسة الماضية، وارتفع سهم شركة "ميرسك" الدنماركية بنسبة 13.7%، وسهم شركة "أو أو سي إل" الصينية بنسبة 11%. ويبدو أن السبب هو الزيادة المتوقعة في تكاليف النقل وانخفاض العرض في السوق.
وقد حدث ذلك من قبل خلال جائحة كورونا، فقد ارتفعت أسعار الشحن البحري، فشرعت شركات الشحن في زيادة العرض، وشراء المزيد من السفن والحاويات. إلا أن الطلب على النقل البحري انخفض بعد انقشاع الجائحة، ما أدى إلى فائض كبير في المعروض من السفن والحاويات، وانخفاض أسعار النقل البحري. وعلى سبيل المثال، خسرت شركة زيم الإسرائيلية 2.3 مليار شيكل (628 مليون دولار) في الربع الثالث من هذا العام، بعد انخفاض بنسبة 68% في متوسط سعر الشحن للحاوية.
والحال الآن أن هناك توقعات بزيادة أسعار النقل البحري، واللجوء إلى سلاسل توريد أطول، وهو ما يؤدي إلى انخفاض العرض وارتفاع قيمة أسهم الشركات، وزيادة أسعار البضائع على المستهلك.
لماذا نقل البضائع عبر الطرق الأخرى أكثر تكلفة؟
أكبر ميزة للنقل عبر قناة السويس هي القدرة على نقل البضائع من الشرق إلى أوروبا من دون الحاجة إلى قطع طريق الشحن الذي يدور حول أفريقيا. ويتيح هذا المسار تقصير مدة النقل من الشرق إلى أوروبا مدة تصل من أسبوعين إلى شهر، ويتوقف ذلك على نوع البضائع وسرعة الإبحار وميناء الوجهة في أوروبا. ولذلك فإن 12% إلى 14% من التجارة العالمية تمر عبر القناة.
وأشار إلياكين بن حاكون، الأستاذ بكلية علوم البيانات في معهد "إسرائيل" للتكنولوجيا (التخنيون)، إلى أن المرور عبر قناة السويس لا يقصِّر مدة النقل فحسب، بل يقلل التكلفة كذلك، وتذهب التقديرات إلى أن الاعتماد على طرق أخرى يعني "ارتفاع التكلفة بنحو 400 ألف دولار إلى مليون دولار على كل سفينة شحن".
وتزيد الطرق الأخرى كذلك من تكاليف الأجور والوقود، فضلاً عن أن تغيير الخطوط الملاحية لشركات الشحن قد يترتب عليه أيضاً تكاليف إضافية. فشركات الشحن الكبرى تضع قوائم رحلاتها البحرية قبل انطلاقها بسنوات، والأمر كذلك فيما يتعلق بقوائم الانتظار الخاصة بتحميل الحاويات على السفن.
هذا كله في النهاية سيؤثر على تكاليف المعيشة في "إسرائيل" التي ارتفعت فيها الأسعار بشكل كبير منذ السابع من أكتوبر الماضي٬ حيث قالت منظمة "لتيت" يوم الثلاثاء 19 ديسمبر/كانون الأول 2023، وهي منظمة معنية برصد الأحوال الاقتصادية والمعيشية للإسرائيلين٬ إنه لأول مرة يصل الحد الأدنى لتكلفة المعيشة 12,900 شيكل لأسرة مكونة من 4 أفراد. أي إن حتى راتبين كحد أدنى بقيمة 5,570 شيكل لن يصلا إلى الحد الأدنى من المعيشة في الدولة. وبحسب المنظمة فإن 20% من سكان "إسرائيل" يقولون إن دخلهم انخفض خلال الحرب على غزة.