في خطاب حرب من البيت الأبيض موجّه للأمريكيين، قال جو بايدن إنه سيطلب حزمة مساعدات غير مسبوقة لأوكرانيا وإسرائيل، واصفاً ذلك بأنه "استثمار ذكي"، ورابطاً بين حركة المقاومة الفلسطينية حماس والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فكيف يفكر الرئيس الأمريكي؟
فبعد أقل من 24 ساعة من عودته من زيارة إسرائيل، ألقى بايدن خطاباً للأمة من المكتب البيضاوي، سعى من خلاله لحشد دعم الأمريكيين لتوجيه مليارات الدولارات الإضافية إلى إسرائيل وأوكرانيا، مستغلاً الخطاب النادر ليقول إن الدعم الأمريكي مهم للغاية للحليفتين الرئيسيتين اللتين تخوضان حربين.
كيف ربط بايدن بين "طوفان الأقصى" وهجوم روسيا على أوكرانيا؟
قال الرئيس الأمريكي، البالغ من العمر 80 عاماً، إن "القيادة الأمريكية هي التي تجمع العالم معاً. والتحالفات الأمريكية هي التي تبقينا، كأمريكا، آمنين"، مضيفاً أن "أمريكا لا تزال منارة العالم"، ومن هذا المنطلق أعلن أنه سيقدم طلباً عاجلاً إلى الكونغرس للموافقة على حزمة مساعدات غير مسبوقة لتقديم الدعم إلى أوكرانيا وإسرائيل.
وفي هذا الإطار، سعى بايدن إلى الربط بين حركة المقاومة الفلسطينية حماس، التي تقاوم الاحتلال الإسرائيلي من جهة، وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي بدأت قواته هجوماً على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، يصفه الكرملين بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه بايدن والغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر". قال بايدن: "حماس وبوتين يمثلان تهديدين مختلفين، لكنهما يشتركان في أمر: كلاهما يريد القضاء على ديمقراطية مجاورة".
وبدت رسالة بايدن ملحة، فإسرائيل تستعد لاجتياح بري لقطاع غزة المحاصر، والذي يتعرض لقصف مستمر منذ 13 يوماً أسقط ما يقرب من 4000 شهيد وأكثر من 12 ألف مصاب، وتقول دولة الاحتلال وبايدن إن الهدف هو القضاء على حماس، بينما أثار قصف جيش الاحتلال للمستشفى الأهلي المعمداني في غزة، مساء الثلاثاء 17 أكتوبر/تشرين الأول، غضباً عارماً تجاه تل أبيب وواشنطن في المنطقة وحول العالم.
وردد بايدن المساعي الإسرائيلية للتنصل من جريمة قصف المستشفى، قائلاً إن دولة الاحتلال ليست مسؤولة عن الانفجار، واستطرد بالقول لكنه "لا يمكننا أن نتجاهل إنسانية الفلسطينيين الأبرياء الذين يريدون فقط العيش في سلام، وأن تتاح لهم الفرص".
وعبر بايدن عن قلقه من أن بعض الأمريكيين يتساءلون "ما شأن أمريكا" لتدعم الحروب؟، ورد على ذلك قائلاً "أعلم أن هذه الصراعات قد تبدو بعيدة"، وتابع أن خصوم أمريكا يراقبون كيف سيتطور الصراعان، وأنهم قد يثيرون أزمات في مناطق أخرى من العالم، وفقاً لما ستؤول إليه الأمور، خالصاً إلى أن الأموال التي تنفقها أمريكا على تلك الحروب هي "استثمار ذكي سيعود بالنفع على الأجيال الأمريكية القادمة في صورة أمن وأمان".
وانطلاقاً من هذا المنطق، الذي يبدو منافياً لكل قواعد المنطق بطبيعة الحال، طلب بايدن تمويلاً طارئاً قال مسؤولون أمريكيون لرويترز إنه سيبلغ إجمالاً نحو 100 مليار دولار على مدى العام المقبل لإسرائيل وأوكرانيا وتايوان وأمن الحدود الأمريكية مع المكسيك.
ومن خلال جمع الأولويات معاً في حزمة واحدة، يختبر بايدن ما إذا كان من الممكن إقناع المشرعين الجمهوريين بتنحية معارضتهم جانباً والموافقة على إنفاق أوكرانيا التي امتصت حربها المستمرة منذ 20 شهراً مع روسيا أسلحة أمريكية بمليارات الدولارات بالفعل، دون أن تكون هناك نهاية تلوح في الأفق.
وأي إجراء للتمويل يجب أن يقره كل من مجلس الشيوخ، حيث تحظى المساعدات الإضافية بدعم من الحزبين، لكن مجلس النواب، الذي ليس له رئيس منذ إزاحة رئيسه الجمهوري كيفين مكارثي قبل 17 يوماً، يظل عقبة أمام تمرير ما يريده بايدن.
لماذا هذا الربط غير المنطقي بين مقاومة واحتلال؟
الربط بين المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي من جهة و"الغزو" الروسي لأوكرانيا من جهة أخرى يبدو "مستفزاً" وليس فقط متناقضاً، بحسب توصيف صحيفة الغارديان البريطانية، وهو ما يثير الدهشة على أقل تقدير، إن لم يكن الاشمئزاز أيضاً.
وهناك مثل عربي يقول "إذا عُرف السبب بطل العجب"، وفي حالة هذا الربط الذي لجأ إليه الرئيس الأمريكي، الذي وُلد قبل نشأة دولة الاحتلال نفسها بـ5 أعوام، يرجع سبب هذا الربط بين حماس وبوتين إلى المأزق الذي وجدت إدارة بايدن نفسها فيه بعد موقفها الداعم لإسرائيل، رغم أنها دولة محتلة ترتكب جرائم حرب وإبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني المحتل في القدس والضفة الغربية والمحاصر في قطاع غزة.
ففي هذا الإطار، كانت صحيفة Financial Times البريطانية قد نشرت تحليلاً عنوانه "اندفاع الغرب لدعم إسرائيل يُقوِّض دعم الدول النامية لأوكرانيا"، يرصد كيف أدى الدعم الغربي، الذي تقوده أمريكا، لهجوم إسرائيل على غزة إلى تسميم جهود بناء توافقٍ عالمي لدى الدول النامية المهمة حول إدانة الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وفقاً لما حذّر منه عدة مسؤولون ودبلوماسيون.
حيث قال هؤلاء إن رد الفعل على "طوفان الأقصى" الذي تعرضت له إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وتعهّد إسرائيل بالانتقام من قطاع غزة، أسفرا عن إبطال شهور من الجهود الرامية لتصوير موسكو كعاصمةٍ منبوذةٍ عالمية لأنها انتهكت القانون الدولي. وقد عرّض هذا الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والدول الحليفة لهما لاتهامات بالنفاق.
ففي خضم الزيارات الدبلوماسية الطارئة ومؤتمرات الفيديو والاتصالات، تلقى المسؤولون الغربيون اتهامات بالإخفاق في الدفاع عن مصالح 2.3 مليون فلسطيني أثناء اندفاعهم لإدانة المقاومة ودعم الاحتلال الإسرائيلي. وفي الأيام الأولى التي أعقبت "طوفان الأقصى"، شعر بعض الدبلوماسيين الغربيين بالقلق من أن الولايات المتحدة أعطت إسرائيل تفويضاً مطلقاً للهجوم بكامل قوتها على غزة.
وأسفر هذا الدعم الأمريكي والغربي لدولة الاحتلال عن تآكل الجهود التي بدأت منذ الهجوم الروسي على أوكرانيا لبناء توافق عالمي مع الدول الرائدة في الجنوب العالمي -مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا-، وذلك حول الحاجة لدعم النظام العالمي القائم على القواعد بحسب تصريحات أكثر من 10 مسؤولين غربيين لصحيفة فايننشيال تايمز.
فقد أدت ردود الأفعال الغربية إلى تعزيز المواقف الراسخة حيال الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في العالم النامي بحسب المسؤولين، إذ حذروا من أن هذا قد يؤدي لعرقلة الجهود الدبلوماسية المتعلقة بأوكرانيا مستقبلاً. وقال أحد الدبلوماسيين الكبار في مجموعة الدول السبع: "لا شك أننا خسرنا المعركة في الجنوب العالمي. وخسرنا كل الجهود التي بذلناها مع الجنوب العالمي من أجل أوكرانيا… وعليكم نسيان أمر القواعد والنظام العالمي. لن يستمعوا إلينا مرةً أخرى".
أغلب الدول النامية تدعم القضية الفلسطينية وتنظر إليها من منظور حق تقرير المصير والتصدي للهيمنة العالمية للولايات المتحدة، التي تُعَدُّ أهم داعمي إسرائيل. وأعرب بعض الدبلوماسيين الأمريكيين عن مخاوفهم سراً حيال استجابة بايدن، وفشلها في إدراك أن الدعم الواسع لإسرائيل سيؤدي لتنفير الكثير من دول الجنوب العالمي.
"استثمار ذكي".. دعم بايدن لإسرائيل وأوكرانيا!
لكن استخدام بايدن لهذا الربط القسري بين حربين متناقضتين أثار انتقادات فورية بطبيعة الحال، وجاءت الانتقاد الأسرع من سلفه دونالد ترامب. "إنه (بايدن) مشعل حرائق يتعهد بإنقاذنا من العالم الذي أشعله عن عمد. أوروبا والشرق الأوسط مشتعلتان بسبب الرئاسة الفاشلة للنصاب جو بايدن. لقد سقطت مصداقيته ويعتبره أعداؤنا وحلفاؤنا على السواء أضحوكة مثيرة للشفقة"، بحسب بيان صادر عن حملة ترامب الانتخابية نقلته صحيفة الغارديان.
وربما يكون استخدام بايدن لمصطلح "استثمار" في معرض خطاب حرب في وقت يشاهد العالم القصف الإسرائيلي المستمر لقطاع غزة وسقوط آلاف الشهداء والمصابين أغلبيتهم الساحقة أطفالاً ونساء، واحدة من أبرز السقطات الأخلاقية لرئيس أمريكي لا يتوقف عن ترديد مصطلحات "القيم الأمريكية" وحقوق الإنسان والعالم الحر والإنسانية وغيرها.
ولم يكد ينتهي بايدن من خطابه حتى قالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، صباح الجمعة 20 أكتوبر/تشرين الأول، إن تصريح الرئيس الأمريكي، الذي وصف فيه دعم أوكرانيا وإسرائيل بأنه "استثمار" يكشف أن واشنطن تستفيد من الحروب بالوكالة ولا تقاتل من أجل الأفكار.
وقالت زاخاروفا عبر تطبيق تليغرام إن تعليقات بايدن تنم عن استخفاف، مضيفة "لقد اعتادوا على أن يطلقوا على هذا الأمر اسم 'الكفاح من أجل الحرية والديمقراطية'… والآن اتضح أن هذه مجرد حسابات. لقد كان الأمر على هذا النحو دائماً، لقد خدعوا العالم باستغلال قيم لم تدافع عنها واشنطن أبداً". وتابعت زاخاروفا "عادة ما تكون الحروب 'استثمارات ذكية' بالنسبة للولايات المتحدة ما دامت لم تحدث على الأراضي الأمريكية، ولا يكترثون للثمن الذي يتكبده الآخرون".
لكن حتى بمنطق الرئيس الأمريكي، الذي يتهمه خصومه داخل أمريكا وخارجها بأنه يعيش أسيراً لأجواء الحرب الباردة السابقة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي، لم يقدم بايدن شرحاً مقنعاً لاعتبار دعمه المطلق لإسرائيل يمثل "استثماراً ذكياً". فالموقف الأمريكي وضع الولايات المتحدة وإسرائيل في كفة واحدة، إذ يشعر العديد من العرب بأن الولايات المتحدة وغيرها من القوى الغربية لم تُحمِّل إسرائيل المسؤولية عن تعاملها مع الفلسطينيين مطلقاً، ولم تول اهتماماً كافياً للصراعات الوحشية في سوريا واليمن وليبيا.
باختصار، أدى موقف جو بايدن الداعم لإسرائيل إلى إشعال مشاعر الغضب والكراهية تجاه واشنطن وليس تل أبيب فقط، وهو ما يلحق الضرر البالغ بمصالح بلاده في المنطقة. وتناول تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية كيف أثار الموقف الأمريكي غضباً عارماً في الشرق الأوسط، لا يقتصر على إسرائيل فحسب، بل موجّه نحو الولايات المتحدة أيضاً باعتبارها القوة العالمية التي أعلنت دعمها الثابت لحليفتها الرئيسية في المنطقة.
وعلى الرغم من أن مشاعر الغضب تجاه أمريكا قد تأججت أكثر بعد قصف المستشفى المعمداني، فإنه حتى قبل ذلك، بدأ العديدون في المنطقة ينظرون إلى ما تقوم به إسرائيل باعتباره مذبحة برعاية أمريكية للمدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر. فقد قطعت إسرائيل الماء والدواء والكهرباء عن القطاع، وتُواصل استهداف غزة بغارات جوية دموية أسفرت عن رفع حصيلة الشهداء لما يقرب من 4000، 70% منهم من الأطفال والنساء.
وينظر العديد من العرب إلى الحكومة الأمريكية على أنها لا تكترث لمعاناة الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي، فضلاً عن كونها شريكةً في تلك المعاناة أيضاً. ولا شك أن التعهدات الأمريكية بالحفاظ على الدعم "الثابت" وتقديم المساعدات الأمنية بلا شروط لإسرائيل تؤجج تلك المشاعر.
نبيل فهمي، وزير الخارجية المصري الأسبق، قال للصحيفة الأمريكية: "هناك مشاعر غضب هائلة في العالم العربي، حتى من جانب أولئك الذين لا يدعمون حماس". ثم أردف أن القوى الغربية "أعطت إسرائيل الضوء الأخضر. وستصبح يد الغرب مخضبةً بالدماء مع ازدياد الأوضاع دموية".
ويُمكن القول إن حالة الغضب شديدة للغاية لدرجة أن أصداء عبارة "الموت لأمريكا" عادت لتتردد في أرجاء المنطقة، بما في ذلك الاحتجاجات التي شهدتها البحرين يوم الجمعة 13 أكتوبر/تشرين الأول، رغم كونها حليفة مقربة من الولايات المتحدة، وكانت ضمن الدول التي وقَّعت اتفاقات للتطبيع مع دولة الاحتلال عام 2020.