التنافس الأمريكي الصيني يتوسع في كل مكان، ولكن له نتائج إيجابية.. إليك أبرز الدول التي استفادت منه

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2023/07/16 الساعة 16:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/07/16 الساعة 16:12 بتوقيت غرينتش
الرئيس الأمريكي جو بايدن يصافح نظيره الصيني شي جين بينغ على هامش قمة قادة مجموعة العشرين في بالي بإندونيسيا في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2022-رويترز

لا صوت يعلو فوق صوت المنافسة الصينية الأمريكية التي امتدت آثارها لمعظم أرجاء المعمورة، وباتت تهدد باندلاع حرب باردة جديدة، ولكن هل يمكن تنظيم هذه المنافسة منعاً لتفاقمها، وهل يمكن أن يكون لها أوجه إيجابية على بقية دول العالم؟

خلال قمة "مجموعة العشرين" التي أقيمت في بالي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، شدَّد الرئيس الأمريكي جو بايدن، والرئيس الصيني شي جين بينغ، على أهمية الإدارة الحكيمة للمنافسة بين بلديهما. وقال بايدن: "أرى عن قناعة أنه لا داعي لوقوع حرب باردة جديدة". 

وأكَّد شي أن البلدين تجمعهما مصلحة عامة تحملهما على "عدم الميل إلى المواجهة؛ والنزوع إلى التعايش السلمي". 

ولأن الزعيمين يدركان العواقب المدمرة للصراع العسكري، فقد تعهدا بالابتعاد عنه. لكن حتى لو تمكن البلدان من تجنب الصراع، فإن المنافسة الصينية الأمريكية يُتوقع أن تتواصل في المستقبل المنظور، وأن يظل بقية العالم يُراقبها في توتر، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Foreign Affairs الأمريكية. 

ومع ذلك، فإن للمنافسة بين الولايات المتحدة والصين وجهاً آخر ربما تكون له عواقب محمودة: ألا وهو صعود "التوازن المؤسسي". فعلى النقيض من التوازن العسكري الذي نعرفه جميعاً، والذي تسعى فيه الدول إلى معادلة قوةِ منافسيها بمراكمة الأسلحة وبناء التحالفات الدفاعية، فإن التوازن المؤسسي يقوم التنافس فيه على سعي البلدان إلى الاستفادة من القواعد والمعايير المرتبطة بالمؤسسات الدولية أكثر من غيرها.

المنافسة بين القوى العظمى يمكن أن تكون لها نتائج إيجابية

يرى بعض العلماء أن تنافس التوازن المؤسسي ليس إلا وجهاً آخر للنزاعات المنذرة بالمخاطر، ووصفه بعضهم بأنه صورة من صور الحرب. 

لكن الواقع أن هذا النهج في المنافسة ليس فقط أقل عنفاً من الحرب، بل يمكن أن تكون له عوائد محمودة، منها تقوية التعاون الدولي؛ وحمل المؤسسات المتعددة الأطراف على التعزيز من أهميتها وتنويع سبل عملها؛ وحث الدول على مزيد من الاستثمار في المنافع العامة؛ علاوة على أن التوازن المؤسسي يقدِّم طريقة للتنافس بحكمةٍ دون اللجوء إلى الصراع العسكري.

هل يمكن تجنب تحول المنافسة الصينية الأمريكية إلى حرب باردة جديدة؟

ينزع كثير من القادة العسكريين الأمريكيين خاصةً إلى التعامل مع أي منافسة شرسة للولايات المتحدة على أنها صراع من صراعات الحرب الباردة، فيميلون إلى المناورات العدائية والتحركات المثيرة للاضطرابات.

لكن إذا سعت واشنطن وبكين إلى التوازن المؤسسي على وجهه الصحيح، فإن لديهما فرصة سانحة أن تجعلا العصر القادم -عصر النزاع بين القطبين الأمريكي والصيني- أكثر سلاماً من العصر أحادي القطب -الذي كانت السيادة فيه للولايات المتحدة- خلال السنوات الثلاثين الماضية.

ما مفهوم التوازن المؤسسي الاستيعابي الذي ميز المرحلة الأولى لعلاقات البلدين؟

التوازن المؤسسي ليس مفهوماً مستحدثاً في السياسة العالمية. فالولايات المتحدة والصين تعملان منذ نهاية الحرب الباردة على تعزيز قوتهما في هذا السياق. وهذه الاستراتيجية لها نوعان: استيعابي، وإقصائي. يقتضي التوازن المؤسسي الاستيعابي دمجَ الدولة منافسها في مؤسسة دولية تتيح قواعدها تقييد التصرفات غير المرغوب فيها من المنافس. 

ومن الأمثلة على ذلك المساعي الناجحة التي بذلتها الولايات المتحدة وآلت إلى انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001. فقد تطلب هذا الانضمام أن تلتزم الصين تحريرَ حصةٍ كبيرة من اقتصادها؛ والسماح للبلدان بالتحاكم ضدها أمام منظمة التجارة العالمية.

أما التوازن المؤسسي الإقصائي، فيقف على النقيض من ذلك، إذ تسعى فيه الدولة إلى استبعاد غريمتها من اتفاقية أو مؤسسة ما؛ أو تقويض نفوذها والضغط عليها للانضمام إلى إحدى المنظمات مع إلزامها بشروط لا تعود بالفائدة عليها. وقد استخدمت الولايات المتحدة التوازنَ المؤسسي الإقصائي حين تعمدت استبعاد الصين من مفاوضات الشراكة عبر المحيط الهادئ (من عام 2008 إلى عام 2015). وبهذا الاستبعاد، قيَّدت الولايات المتحدة من نفاذ الصين إلى أكثر من 40% من تجارة الاقتصاد العالمي.

يمكننا أن نستوعب التوازن المؤسسي بين الولايات المتحدة والصين على مدى الثلاثين عاماً الماضية إذا قسَّمناه إلى مرحلتين. امتدت المرحلة الأولى من أوائل التسعينيات حتى الأزمة المالية العالمية لعام 2008. فعلى الرغم من أن تلك الحقبة اتسمت بتعميق الترابط الاقتصادي، وتسريع وتيرة العولمة، فإنها كانت مرحلة أحادية القطب في المقام الأول، وكان الافتراض العام أن الولايات المتحدة ستظل أكثر نفوذاً من الصين.

وفي أثناء المرحلة الأولى، استخدمت كل من الولايات المتحدة والصين المؤسسات المتعددة الأطراف، ولا سيما "رابطة دول جنوب شرق آسيا"، في التنافس ضمن قواعد التوازن المؤسسي الاستيعابي. فقد استفاد البلدان من الرابطة؛ إذ استندت الصين إلى مبدأ عدم التدخل الذي توافقت عليه الرابطة للحيلولة دون معالجة قضية تايوان منذ عام 1994؛ وفي الوقت نفسه، عززت الولايات المتحدة من شراكتها مع دول الرابطة، وأصبحت تلك الدول أكبر شريك لها في استراتيجية "منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة".

ولكن منطق التوازن المؤسسي الإقصائي أصبح سائداً الآن 

 أما المرحلة الثانية من التوازن المؤسسي بين الولايات المتحدة والصين، فلا تزال ملامحها في طور التكوِّن. إذ بعد أن كشفت الأزمة المالية العالمية لعام 2008 عن الثغرات القائمة في رأسمالية السوق الحرة التي تتزعمها الولايات المتحدة، بدأت الاقتصادات غير الغربية والناشئة في تحدي الهيمنة الأمريكية بقوةٍ أكبر.

وأدى ذلك إلى ميل الولايات المتحدة والصين إلى  التوازن المؤسسي الإقصائي؛ وإنشاء مؤسسات جديدة يستبعد كل منهما فيها الآخر، ويهاجمه بالوسائل التي تتيحها له تلك المؤسسات.

المنافسة الصينية الأمريكية
أول حاملة طائرات صينية التي تسمى "لياونينغ" تشارك في عرض عسكري في بحر الصين الجنوبي قبل عدة أعوام يرافقها سفن حربية وطائرات مقاتلة/رويترز، أرشيفية

وفي هذا السياق، استأنفت الولايات المتحدة (الحوارَ الأمني الرباعي) مع أستراليا والهند واليابان. وزادت تلك الدول من مناوراتها العسكرية المشتركة خلال السنوات الخمس الماضية؛ وأعلنت عن تعاونها في مبادرات مختلفة، منها إنتاج اللقاحات، ومكافحة التغير المناخي؛ ومشروعات التكنولوجيا والبنية التحتية.

في المقابل، سعت الصين إلى إنشاء وتوسيع المؤسسات الأمنية التي تستبعد الولايات المتحدة. وأبرز مشروع في تلك المرحلة، هو مبادرة الحزام والطريق التي أعلنت عنها الصين في عام 2013، وتعتمد على شبكة ضخمة من المشروعات واستثمارات البنية التحتية في أكثر من 100 دولة، يُتوقع أن تصل تكلفتها الإجمالية إلى 8 تريليونات دولار. وسعت الصين كذلك إلى توسيع نفوذ "منظمة شنغهاي للتعاون"، وضمَّت إليها الهند وباكستان في عام 2017 – ثم إيران في عام 2022- لتصبح أكبر منظمة إقليمية في العالم من حيث عدد سكان دولها.

إليك مكاسب تحققت من المنافسة الصينية الأمريكية والدول التي استفادت منها

تبدو هذه التحركات في أول وهلة خطوات مقلقة على طريق يؤول في نهايته إلى مواجهة أمريكية صينية. لكن الواقع أن التوازن المؤسسي زاد -خلافاً للمتوقع- من الاستقرار والأمن في منطقة شرق آسيا، وجنوب شرق آسيا. وتتجلَّى ملامح ذلك في:

أولاً؛ أن هذا التوازن دفع المؤسسات الإقليمية القائمة إلى إصلاح نفسها، خشية أن تتعرض للتهميش. فعلى سبيل المثال، عالجت "رابطة دول جنوب شرق آسيا" أحد أبرز مكامن ضعفها: العجز عن دفع وزراء الدفاع بالدول الأعضاء إلى المشاركة في حوارات واسعة لتعزيز الأمن الإقليمي، لكن الأمور تغيرت واجتمعت دول الرابطة، بل تمكنت في عام 2017 من تحويل الاجتماعات إلى منتدى سنوي دائم، وقد كان لذلك تأثير كبير في تعزيز التعاون الأمني بين دول الرابطة.

ثانياً؛ ظهرت تجمعات ومنظمات جديدة تسعى إلى الاستفادة من صراع واشنطن وبكين على النفوذ. وجاء من بينها "قمة الأمن الآسيوي"، المعروفة باسم "حوار شانغريلا"، وهي قمة سنوية تُعقد في سنغافورة، ويستضيفها "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية"، ويجتمع فيها كبار مسؤولي الدفاع من منطقة آسيا والمحيط الهادئ وخارجها، ويتناقشون حول مسائل الأمن الإقليمي.

ثالثاً؛ استفادت بعض دول المنطقة على حدة من صراع التوازن المؤسسي بين الولايات المتحدة والصين، فقد حرصت كل دولة منهما على تقديم حوافز لدول الرابطة للحفاظ على الزعامة أو اكتساب النفوذ في المنطقة. وفي عام 2009، انضمت الولايات المتحدة إلى "معاهدة الصداقة والتعاون في جنوب شرق آسيا"، وهي منظمة معنية بالحل السلمي للنزاعات في المنطقة، وتعاونت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مع رابطة دول جنوب آسيا في مبادرات جديدة لتحسين الخدمات الصحية، والنقل، وتمكين المرأة، والبيئة، والطاقة، واستثمار 10 ملايين دولار سنوياً لتدريب القادة العسكريين الناشئين في جنوب شرق آسيا، وتعزيز الروابط بينهم وبين نظرائهم الأمريكيين.

المنافسة الصينية الأمريكية
رئيس الوزراء الصيني لي كه تشيانغ على اليسار يصافح الرئيس التنفيذي لشركة أبل تيم كوك الصورة تشاينا ديلي -رويترز

أخيراً؛ ساهمت تدابير التوازن المؤسسي هذه في تحسين البنية التحتية في جميع أنحاء آسيا. فقد أنشأت الصين "البنكَ الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية" في عام 2015 لتعزيز نفوذها في الإقليم ضمن مبادرة الحزام والطريق. وللرد على ذلك، بدأت الولايات المتحدة في اقتراح مبادرات لتحسين البنية التحتية بدول المنطقة، مثل مشروع شبكة Blue Dot الذي بدأته في عام 2019 مع أستراليا واليابان، وغايته المعلنة تعزيز التمسك بالمعايير الموثوقة للبنية التحتية. وأسَّست واشنطن مبادرة "إعادة بناء عالم أفضل" في عام 2021 مع مجموعة الدول السبع الكبرى، ثم مشروع "الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار" في عام 2022، وكلا المشروعين يسعى إلى توفير بدائل شاملة لمبادرة الحزام والطريق الصينية.

واستفادت الدول النامية استفادة كبيرة من المنافسة الصينية الأمريكية، فقد أعلنت واشنطن في عام 2021 أنها عازمة على استثمار 40 مليون دولار في اقتصادات جنوب شرق آسيا الناشئة، ومساعدتها في جعل إمدادات الطاقة بالمنطقة أنظف، وأكثر كفاءة. ومن المتوقع أن يدرَّ هذا الاستثمار ملياري دولار من التمويل.

تمكنت لاوس كذلك من الحصول على قروض من مبادرة الحزام والطريق، وبدأت خلال عام 2021 في تشييد مشروع ضخم للسكك الحديدية بقيمة 6 مليارات دولار، وهو أكبر مشروع للأشغال العامة في تاريخ البلاد. وتلقت باكستان قبل بضعة أشهر قرضاً بقيمة 10 مليارات دولار من بكين، لتحديث شبكة السكك الحديدية.

شروط الحفاظ على المنافسة في إطار المؤسسات الدولية ومنع انزلاقها لصراع مفتوح

تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين خلال السنوات الماضية، وتصاعد التوتر المحموم بين البلدين في تايوان. لكن توجيه المنافسة الصينية الأمريكية نحو صراع "التوازن المؤسسي" بدلاً من صراع "التفوق العسكري" وبناء التحالفات الدفاعية هو أفضل طريقة لحل الأمور بعيداً عن العواقب الوخيمة.

التوازن المؤسسي يكاد يكون دائماً أكثر سلمية من التوترات العسكرية. فعلى الرغم من أن التوازن المؤسسي قد يثير التوترات الدبلوماسية بين الدول، إلا أن هذه التوترات قلَّما تتحول إلى صراعات عسكرية. ومع ذلك، فإن التوازن المؤسسي لن يكون مفيداً إلا إذا التزمت الدول المشاركة فيه ثلاثة شروط مسبقة لم تُلتزم بالقدر الكافي حتى الآن:

أولاً؛ يجب أن تظل دول التوازن المؤسسي مقيدةً بمنطق الردع النووي. فلا شك في أن التنافس على القوة العسكرية بين الولايات المتحدة والصين سيتواصل، لكن أهم ما في الأمر ألا يتجاوز أي منهما الخط الأحمر لهذا التنافس، وألا يستهين بقدرات غريمه، وألا يخاطر باتباع سياسة التهديد بالسلاح النووي.

المنافسة الصينية الأمريكية
التهديد بالسلاح النووي يمثل اختراقاً للخطوط الحمر في المنافسة بين القوى العظمى، في الصورة طائرة أمريكية من طراز إف 15/رويترز، أرشيفية

ثانياً؛ على البلدين أن يعملا على تعزيز ترابطهما الاقتصادي، وليس إضعافه. فما دامت الولايات المتحدة والصين تعتمد إحداهما على الأخرى، وما دامت الروابط الاقتصادية والعلاقات بين مواطنيهما متواصلة، فإنها ستكون حاجز حماية يحول دون التصعيد العسكري بينهما.

أخيراً؛ لا بد أن يبتعد البلدان عن إضفاء البعد الأيديولوجي على التنافس القائم بينهما. فقد زعم بايدن أن العالم المعاصر يشهد "معركة بين الديمقراطية والاستبداد". أما الحزب الشيوعي الصيني، وعلى الرغم من المعتقدات الأيديولوجية التي ينشرها في الداخل، فإن رئيسه شي لم يصف قط منافسة الصين مع الولايات المتحدة بأنها معركة وجودية لا يمكن التفاهم بين طرفيها. وبذلك فإن الرئيس الصيني أفضل مسلكاً في هذا السياق، وعلى زعماء الولايات المتحدة أن يحذو حذوه، حسب المجلة الأمريكية.

الخلاصة أن التوتر بين أقوى دولتين في العالم أمر لا مفر منه. ولكن إذا تمكنت كلتاهما من التمسك بسياسةِ التوازن المؤسسي، وعدم المغامرة بالانحراف إلى الصراع العسكري، فإن مكاسب المنافسة لعلها تكون أكبر من المخاطر.

تحميل المزيد