لا غالب ولا مغلوب.. كيف تحولت الحرب في أوكرانيا إلى مواجهة “صفرية” بين أمريكا وروسيا؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/07/10 الساعة 13:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/07/10 الساعة 13:22 بتوقيت غرينتش
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي رفقة جنود أوكرانيين - رويترز

"الحرب في أوكرانيا لن تنتهي في الميدان".. الآن وقد أصبحت هذه النتيجة تتردد على ألسنة أغلب المحللين الغربيين، يصبح السؤال: كيف تحولت تلك الحرب الكارثية إلى مواجهة "صفرية" بين روسيا وأمريكا؟

هذا السؤال أصبح الآن يتردد ربما على ألسنة الجميع حول العالم، وليس فقط في أروقة السياسة في موسكو وواشنطن وباقي العواصم الغربية، ففي نهاية المطاف يدفع الجميع ثمناً باهظاً لتلك الحرب، التي اندلعت في فبراير/شباط 2022 ولا تلوح في الأفق نهاية قريبة لها.

ويجتمع قادة الدول الأعضاء في حلف الناتو في عاصمة ليتوانيا، فيلينيوس، التي لا تبتعد كثيراً عن حدود بيلاروسيا، في قمتهم الهادفة بالأساس إلى إظهار التضامن والوحدة والدعم لأوكرانيا في مواجهة ما يصفه الغرب بأنه "غزو روسي عدواني وغير مبرر".

على الجانب الآخر، ترى روسيا أن "عمليتها العسكرية الخاصة" في أوكرانيا مبررة تماماً، في ظل إصرار الحكومة الأوكرانية برئاسة فولوديمير زيلينسكي على الانضمام للحلف العسكري الغربي، وهو ما يعتبره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تهديداً للأمن القومي لموسكو لا يمكن قبوله.

ما الموقف الميداني في أوكرانيا؟

في الوقت الذي يسعى بايدن وزعماء باقي الدول الأعضاء في الناتو إلى إظهار الدعم لكييف وإعطاء زيلينسكي فكرة عما يتعين عليه فعله لنيل عضوية الحلف في المستقبل، لا يبدو أن الوضع الميداني يسير طبقاً لتوقعات بايدن وحلفائه، في ظل عدم تحقيق الهجوم المضاد الأوكراني نتائج كبرى.

وتمثل هذه النقطة تحديداً السبب الأساسي وراء الشعور الغالب حالياً بأن الحرب في أوكرانيا قد أصبحت "معادلة صفرية" لن يتمكن فيها أحد الطرفين من حسم الحرب لصالحه عسكرياً، رغم المساعدات العسكرية غير المسبوقة التي تنهال على كييف من جانب واشنطن وباقي العواصم الغربية، فروسيا في نهاية المطاف تمتلك ثاني أقوى جيوش العالم وترسانة نووية هي الأضخم على الإطلاق.

لكن استمرار الحرب له تداعيات سلبية ضخمة على حلفاء كييف، وبخاصة واشنطن، وبالتالي فإن أحد أهداف بايدن من رحلته إلى أوروبا واجتماعاته في ليتوانيا هو أن يظهر للمواطن الأمريكي أهمية استمرار الدعم لأوكرانيا قبل الانتخابات الرئاسية، حيث كان بعض منافسيه الجمهوريين في السباق لانتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2024 الرئاسية قد عبروا عن شكوكهم إزاء استراتيجيته.

وتؤيد الغالبية العظمى من الأمريكيين توفير أسلحة لأوكرانيا للدفاع عن نفسها في مواجهة روسيا ويعتقدون أن مثل هذه المساعدات تظهر للصين وخصوم الولايات المتحدة الآخرين إصراراً على حماية مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، وفقاً لمسح أجرته رويترز/إبسوس أواخر الشهر الماضي، لكن استطلاعات رأي أخرى تظهر أن هناك نسبة كبيرة من الأمريكيين الذين يعانون من التضخم وارتفاع الأسعار ربما يحملون آراء مختلفة.

وبالعودة إلى الميدان، نجد أنه على الرغم من الظروف الداخلية الصعبة التي تواجهها روسيا، وبخاصة في أعقاب محاولة التمرد الفاشلة التي قام بها يفغيني بريغوجين زعيم مرتزقة فاغنر، إلا أن الواضح أن القوات الأوكرانية لا تحقق مكاسب كبيرة في الميدان، ناهيك عن أن تتمكن من "طرد" القوات الروسية من كامل التراب الأوكراني، كما "يتمنى" الغرب.

وهذا ما أظهره تحليل لهيئة الإذاعة البريطانية BBC، عنوانه "هذه الحرب لن تنتهي في ساحة المعركة"، يرصد تزايد الخسائر في صفوف المشاركين في الهجوم المضاد في أوكرانيا، والسبب متانة وقوة الدفاعات الروسية.

أوكرانيا
صواريخ باتريوت الأمربكية/رويترز

ففي زيارة نادرة إلى هذا الجزء الخاضع لحراسة مشددة بالجبهة الجنوبية، بدأ بعض الجنود والمراقبين في التساؤل عن مدى اختراق الموقع، أو أن الخطوط الدفاعية الروسية، التي بُنيت بإحكام خلال أشهر الشتاء، هي أكثر من مجرد حاجز.

كيريلو بوتراس أحد أفراد مشاة البحرية الأوكرانية الذي أصيبت ساقه اليسرى بلغم روسي في عام 2020، قال لبي بي سي: "بدون المزيد من المساعدة الغربية، أعتقد أننا قد نخسر هذه اللعبة"، مؤكداً أن وجود حقول ألغام روسية واسعة النطاق يمثل عقبة كبيرة، وأضاف: "هؤلاء الروس.. هناك الكثير منهم. ولديهم العديد من المدافع المضادة للدبابات وأنظمة الصواريخ".

ومع ذلك، وبعد شهر واحد من هذا الهجوم المضاد الذي كان يُعد له منذ فترة طويلة، هناك الكثير من الجنود والخبراء الذين لا يوافقون بوتراس الرأي، فهم يرون أن جولة البداية تسير وفقاً للخطة، وأن خط الجبهة الذي يشكل شبه قوس يمتد لأكثر من ألف كيلومتر من ساحل البحر الأسود حتى الحدود الشمالية الشرقية لأوكرانيا مع روسيا، لن يُخترق بنفس السرعة المفاجئة التي حققتها قوات كييف العام الماضي.

"لا غالب ولا مغلوب" في الحرب الكارثية

حقيقة الأمر هنا هي أن هذه النتيجة التي باتت أكثر وضوحاً لا تعتبر مفاجأة بالنسبة للكثيرين من المحللين والخبراء العسكريين الغربيين عموماً والأمريكيين خصوصاً. وكانت مجلة Foreign Affairs الأمريكية قد نشرت تحليلاً مطولاً عنوانه "حرب يستحيل الانتصار فيها"، يرصد تحول المواجهة، التي كان من الممكن جداً تجنبها، إلى معادلة "صفرية" بين موسكو وواشنطن بالتحديد.

فمن الناحية العسكرية، يبدو أن تحقيق انتصار عسكري روسي أصبح مستبعداً في ظل فتح الغرب ترسانته العسكرية وأدواته المساعدة مالياً ولوجستياً واستخباراتياً لمساعدة القوات الأوكرانية في الميدان، دون أن يكون العكس قابلاً للتحقق أيضاً، أي أن تتمكن كييف من تحقيق الانتصار الكامل وإجبار موسكو على الانسحاب إلى خط التماس القائم قبل اندلاع الحرب.

والمتتبع هنا لموقف الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن يرى كيف أن واشنطن لعبت دوراً كبيراً في انفجار الموقف، دون أن يكون لديها استراتيجية محددة لكيفية إطفاء الحريق الأضخم في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

ففي الأشهر الأولى من الصراع، أحجمت واشنطن عن تقديم أسلحة متطورة إلى كييف خشية تحول الصراع إلى مواجهة مباشرة مع موسكو، وهو ما جعل الباب مفتوحاً للتوصل إلى تسوية سلمية تنهي الحرب سريعاً، فانعقدت بالفعل جولات من المفاوضات المباشرة بين أوكرانيا وروسيا، بدأت على الحدود الأوكرانية مع بيلاروسيا، ثم انتقلت إلى أنقرة بوساطة تركية.

وتوصلت كييف وموسكو بالفعل إلى اتفاق سلام كاد أن ينهي الحرب، لكن قادة غربيين أبرزهم بايدن بطبيعة الحال، أقنعوا زيلينسكي بالرفض ومواصلة القتال، واعدين إياه بالمزيد من الدعم العسكري، بحسب تقارير غربية قدمت تفاصيل ما حدث، وكان ذلك في يونيو/حزيران عام 2022.

بوتين
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين / رويترز

منذ ذلك الوقت، بدأ حذر واشنطن في تقديم الدعم لكييف يخفت تدريجياً، وبدأ تدفق الأسلحة المتطورة بأنواعها المختلفة، وهو ما يثير السؤال البديهي بشأن مبررات هذا التغيير الاستراتيجي. فالطبيعي هنا أن تكون إدارة بايدن قد وجدت أن "انتصار أوكرانيا عسكرياً" قد أصبح سيناريو قابلاً للتحقق، ومن ثم تم إغلاق الباب أمام الحلول الدبلوماسية، التي من المؤكد أنها كانت ستقدم بعضاً من التنازلات للجانب الروسي، أقلها اتفاقاً ملزماً بأن تكون أوكرانيا دولة محايدة ومنزوعة السلاح.

لكن، كما يقول تحليل فورين أفيرز، يبدو أن "الغموض الاستراتيجي" في موقف واشنطن كان "صفة حقيقية" في السياسة المتبعة وليس مجرد "خلل مؤقت"، بمعنى آخر هذا ليس غموضاً مقصوداً بقدر ما هو غياب للرؤية الفعلية بشأن الكيفية التي يمكن أن تنتهي بها الحرب.

ويعيدنا هذا التحليل الآن إلى تحليل كان موقع Responsible Statecraft  الأمريكي قد نشره بعد أسبوعين فقط من اندلاع الحرب، يرصد غياب استراتيجية واضحة لدى الولايات المتحدة في التعامل مع أكبر حرب تشهدها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو ما يراه كثير من المحللين "مقامرة مرعبة لإدارة بايدن".

إلى أين تتجه المعادلة الصفرية بين روسيا وأمريكا؟

تنصب التساؤلات الآن حول نقطتين مفصليتين، الأولى تتعلق بنتائج الهجوم الأوكراني المضاد قبل دخول فصل الشتاء وتجمد المعارك، والثانية تتعلق بما قد يقدمه الناتو من مسار لانضمام أوكرانيا.

بالنسبة للنقطة الثانية، يبدو من تصريحات بايدن أنه لن يحدث جديد خلال قمة ليتوانيا، خلال الثلاثاء والأربعاء 11 و12 يوليو/تموز، على الرغم من ضغوط زيلينسكي وتشجيع بريطانيا وأعضاء الحلف من دول شرق أوروبا. إذ أعلن بايدن موقفه، في مقابلة مع CNN قبل توجهه إلى أوروبا، قائلاً إن أوكرانيا "لن تنضم لحلف الناتو قبل أن تنتهي الحرب".

بايدن
الرئيس الأمريكي جو بايدن – رويترز

كما أن عدم اتفاق أعضاء الحلف على اختيار بديل للأمين العام الحالي للحلف، ينس ستولتنبرغ، بسبب أن غالبية المرشحين المحتملين ينتمون لدول من شرق أوروبا، والاتفاق على التمديد للأمين العام الحالي لمدة عام آخر، مؤشر واضح على خشية واشنطن من أن يؤدي وجود أمين عام للناتو ينتمي إلى دولة عضو من شرق أوروبا إلى "مزيد من الاستفزاز" لموسكو.

فدول شرق أوروبا، بولندا وليتوانيا وغيرههما، تدفع بقوة إلى ضم أوكرانيا وإلى أن ينشر الحلف العسكري الغربي أسلحة متطورة، أي صواريخ بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية، على أراضيها بغرض "ردع" روسيا عن التفكير في مهاجمة أي من تلك الدول كما حدث مع أوكرانيا، لكن واشنطن تدرك جيداً أن ذلك قد يجعل الحرب المباشرة مع روسيا أقرب من أي وقت مضى.

الخلاصة هنا هي أن بايدن ربما يبدو وكأنه يحقق ما خطط له منذ البداية من إيقاع بوتين في "فخ أوكرانيا" بهدف إضعاف روسيا إلى الأبد، لكن السؤال هنا هو إلى متى يمكن أن تستمر الحرب؟ وكيف يمكن أن تنتهي إذا كان حسم الأمور عسكرياً لأي من الطرفين لا يبدو وارداً؟ فالعالم كله يدفع ثمناً باهظاً للحرب واستمرارها على هذا النحو، "لا غالب ولا مغلوب"، عبارة عن حريق ضخم لا أحد بعيد عن دخانه وألسنة لهبه.

تحميل المزيد