"ادفعوا ثمن هجرة ابنكم يحيى وإلا سنقتله"، عندما سمع الأب هذا التهديد سارع بدفع ثمن هجرة ابنه الذي ذهب لليبيا دون علمه، بحثاً عن طريق لنقله لأوروبا، ولم يكن الأب يعلم أنه سيدفع بنفسه ثمن موت محتمل لابنه الذي كان ضمن ركاب السفينة الغارقة قرب اليونان.
يحيى البالغ من العمر 18 عاماً أحد الأشخاص الذين أدى حظهم العاثر إلى أن يكون على متن قارب الصيد الذي غرق قرب سواحل اليونان، وكان معه عشرات من أبناء قريته المنكوبة، حسبما ورد في تقرير لوكالة Associated Press الأمريكية.
االقارب المخصص للصيد انقلب وغرق في وقت مبكر من صباح الأربعاء 14 يونيو/حزيران 2023، على بعد نحو 50 ميلاً (80 كيلومتراً) من بلدة بيلوس الساحلية بجنوب اليونان، وكان يحمل على متنه ما بين 400 و750 شخصاً مكدسين على متن قارب الصيد الذي يتراوح طوله بين 20 و30 متراً.
وأخرجت السلطات اليونانية 104 ناجين وجثث 78 غريقاً إلى الشاطئ في أعقاب كارثة السفينة الغارقة مباشرة، لكنها لم تعثر على أي شخص آخر منذ ذلك الحين، مع انتهاء عمليات البحث والإنقاذ المكثفة بعد أن تضاءلت الآمال في العثور على ناجين آخرين.
السفينة الغارقة قرب اليونان تحركت من طبرق بليبيا
أبحر قارب الصيد القديم من طبرق في شرقي ليبيا يوم التاسع من يونيو/حزيران. وكان الشاب في طريقه إلى إيطاليا على غرار العديد من شباب قريته الواقعة في دلتا النيل بمصر.
تلقّت صباح عبد ربه آخر خبر عن ابنها يحيى صالح إبان تخطيطه لركوب قارب الهجرة من أراضي ليبيا الممزقة بالصراعات متجهاً إلى أوروبا. وكان ذلك قبل أسبوعين من الآن.
وقالت ربة المنزل المصرية في يوم الأحد، 18 يونيو/حزيران: "لقد توسّلت إليه حتى لا يرحل. لكنه سئم ظروفنا المعيشية الصعبة".
حمل القارب على متنه ما يصل إلى 750 من المهاجرين، وبينهم نساء وأطفال، قبل انقلابه وغرقه قبالة سواحل اليونان في واحد من أعمق أجزاء البحر الأبيض المتوسط.
لم ينجُ سوى 104 من ركاب القارب فقط. بينما انتشلت السلطات اليونانية 81 جثةً حتى يوم الإثنين، 19 يونيو/حزيران، فيما تضاءلت فرص العثور على أي شخصٍ آخر على قيد الحياة. ويبدو أن تحطُّم القارب المذكور يمثل واحدةً من أسوأ الكوارث التي وقعت في البحر المتوسط خلال التاريخ الحديث، مما يثير التساؤلات والغضب حيال طريقة تعامل السلطات الأوروبية مع تدفق المهاجرين.
لا أحد يعرف مصير يحيى
ولا يعرف أقارب يحيى مصير ابنهم بعد، كما هو حال العديد من العائلات الأخرى التي كان أبناؤها على متن السفينة الغارقة قرب اليونان.
وُلِدَ يحيى لعائلة من المزارعين، وكان ترتيبه الثاني من بين أربعة أطفال. وقد غادر المنزل قبل أقل من شهرٍ دون أن يخبر الأسرة بخططه.
وتنحدر الأسرة من قرية أبراش بمحافظة الشرقية الواقعة في دلتا النيل، حيث يسير الجاموس والأبقار والحمير على الطرق الموحلة نفسها التي تسلكها السيارات والدراجات النارية ومركبات التوك توك.
وخاض العديد من شباب ومراهقي القرية تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر صوب ليبيا، أملاً في اجتياز البحر المتوسط والوصول إلى أوروبا. وقد نجح بعضهم في بلوغ إيطاليا لكن العديدين تعرضوا للاعتقال والترحيل، وذلك وفقاً لخمسة من سكان القرية الذين تحدثوا بشرط السرية خوفاً من أن تستهدفهم السلطات.
يشير تقرير الوكالة الأمريكية إلى أن مصر كانت قد أغلقت حدودها البحرية في وجه قوارب الهجرة عقب التحطم المميت لأحدها قبالة سواحل رشيد عام 2016. وتحاول الحكومة بانتظامٍ إثناء الشباب عن الهجرة غير الشرعية، لكن الأزمة الاقتصادية في البلاد شجعت الكثيرين على الرحيل رغم المخاطر.
وفي أعقاب تحطم القارب يوم 14 يونيو/حزيران، اعتقلت السلطات اليونانية تسعة رجال مصريين واتهمتهم بتهريب البشر والمشاركة في مشروع إجرامي.
بينما أصبحت ليبيا نقطة العبور الأبرز بالنسبة للمهاجرين من إفريقيا والشرق الأوسط، الذين يحاولون بدورهم الوصول إلى أوروبا.
هجرة المصريين أصبحت تتم عن طريق ليبيا
ويسافر الراغبون في خوض الرحلة نحو أوروبا مسافة تبلغ آلاف الكيلومترات براً، حتى يصلوا إلى السواحل الليبية. ويستقبلهم المهربون هناك من أجل تكديسهم على متن قوارب غير صالحة للإبحار.
وحملت السفينة الغارقة قرب اليونان عشرات المصريين على متنه وبينهم 35 شخصاً من قرية يحيى، وغالبيتهم من القصر أو الرجال العزاب في أوائل العشرينات من عمرهم. ويقول أقارب الشباب في القرية إن ستة منهم فقط قد نجوا من تحطم القارب.
وفي يوم السبت، 17 يونيو/حزيران، نشرت السفارة المصرية في أثينا قائمةً تضم أسماء 43 مصرياً نجوا من الحادث -وبينهم قُصّر. وضمت القائمة أسماء مهاجرين من القاهرة ومحافظات أخرى في دلتا النيل.
كل عائلة لديها جنازة
قال سامح الجمل، أحد أبناء أبراش: "القرية جريحة. هذه كارثة. فكل عائلة لديها جنازة بسبب كارثة السفينة الغارقة".
وحاول والدا صالح إقناعه بالتخلي عن خططه لخوض الرحلة الخطيرة طوال أكثر من ستة أشهر. لكن إصراره زاد بالتزامن مع تدهور الأوضاع المعيشية لأسرته أكثر. حيث كان يساعد والده في زراعة أرضهم الصغيرة، ويعمل باليومية أحياناً ليكسب ما يعادل 60 دولاراً في الشهر تقريباً بحسب والدته.
وأوضحت صباح: "كان يريد مساعدتنا".
بينما قال والده محمد صالح إن يحيى كان يخطط للسير على خطا غيره من أبناء القرية الذين سافروا من ليبيا إلى أوروبا خلال السنوات الأخيرة، قبل أن يبدأوا في إرسال الأموال إلى وطنهم.
قبل رأس أمه دون أن يخبرها بأنه سيسافر
وخلال إحدى أمسيات منتصف شهر مايو/أيار، ودّع يحيى أمه دون أن يخبرها بوجهته. وقد ظنّت هي أنه سيقضي الأمسية مع أصدقائه. ثم تذكرت ذلك اليوم قائلةً: "لقد قبّل جبهتي وكأنه كان يعلم أنها ستكون آخر مرة يراني فيها".
وبعد يوم واحد، اكتشف والداه أنه قد سافر إلى ليبيا مع ابن عمه وأربعةٍ آخرين. إذ اقترض نحو 50 دولاراً من أحد أبناء القرية لسداد تكلفة الرحلة إلى ليبيا. وسافر الخمسة في البداية إلى مدينة الإسكندرية على ساحل المتوسط، ثم إلى مدينة السلوم الساحلية على الحدود مع ليبيا.
ومن هناك، نجح المتاجرون بالبشر في تهريبهم عبر الحدود.
المهربون أجبروا والده على دفع أكثر من 4 آلاف دولار ثمناً للرحلة وإلا قتلوا ابنه
وسرعان ما تواصل والده وأقاربه مع أقرانهم المصريين الذين يعيشون في ليبيا، وذلك حتى يساعدوهم في التواصل مع المتاجرين بالبشر الذين يعملون بين مصر وليبيا.
وأوضح والده وهو يقاوم دموعه: "لقد توسّلت إليهم حتى يُعيدوا ابني". وقال إنه عرض عليهم دفع 50 ألف جنيه مصري (أكثر من 1.600 دولار) مقابل عودته، لكنهم رفضوا.
وأردف والده: "لقد أخبروني أنه قد (تم تخزينه في انتظار الإبحار)، وطلبوا مني دفع تكلفة الرحلة".
واستسلم والده في النهاية ودفع مبلغاً تجاوزت قيمته الـ4.500 دولار بعد أن اقترض معظمه، وذلك خوفاً من أن يتعرض ابنه للتعذيب أو الموت على يد المهربين في حالة عدم الدفع.
وجلست عائلة يحيى تنتظر طوال الأسبوع الماضي أملاً في سماع أي خبرٍ عن ابنها أو الآخرين. حيث تريد الأسرة معرفة ما إذا كان يحيى من بين الناجين من السفينة الغارقة، أم الضحايا، أم المفقودين.
وأوضحت أمه وهي تغطي وجهها بيديها وتنتحب: "أريد ابني، أريده سواءً كان حياً أو ميتاً".