هل بدأ الهجوم الأوكراني الذي تخطط له كييف والغرب منذ الشتاء؟ وما فرص نجاح المعركة الكبرى في إجبار روسيا على الانسحاب من الأراضي التي تسيطر عليها؟
ويشن الجيش الأوكراني منذ أسابيع عمليات "تحضيرية" أو تكتيكية بطول جبهة شاسعة تصل إلى 966 كم تقريباً، والهدف بطبيعة الحال هو القضاء على القدرة العسكرية الروسية، كما تستخدم الوحدات الأوكرانية الهجمات بالطائرات دون طيار لتدمير دبابات ومواقع القوات الروسية في مهام ليلية.
ويمثل الهجوم الأوكراني المضاد نقطة مفصلية في الصراع الذي اندلع في فبراير/شباط 2022، وهو في جوهره صراع بين موسكو والغرب بقيادة واشنطن، حيث يرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن محاولات ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو تعتبر تهديداً خطيراً للأمن القومي لبلاده.
هل بدأ الهجوم الأوكراني المضاد فعلاً؟
نشرت صحيفة The Guardian البريطانية تقريراً يرصد تفاصيل ذلك الهجوم الأوكراني المنتظر، والذي بدأ بالفعل ولكن بشكل متحفظ. نعم، بتحفظ. ففي مساء الأحد، 4 يونيو/حزيران، بدا أنَّ الجيش الأوكراني تقدَّم في العديد من الاتجاهات، وخرجت تقارير تفيد بتصعيد كبير في القتال بطول خط الجبهة في منطقتيّ دونيتسك وزابوروجيا.
لكن لم يكن هناك تأكيد من المسؤولين الأوكرانيين بأنَّ الهجوم المضاد –الذي يُخطَّط له منذ أشهر- قد بدأ بالفعل. وتشدد الحكومة الأوكرانية على الحاجة للسرية العملياتية. ونشر وزير الدفاع، أولكسي ريزنيكوف، مقطع فيديو في بداية هذا الأسبوع يُظهِر جنوداً وهم يضعون أصابعهم على أفواههم. وكتب مُعلِّقاً اقتباساً من فرقة Depeche Mode الغنائية يقول: "الكلمات غير ضرورية على الإطلاق. فإنَّها لا تتسبب إلا بالضرر".
ويقول القادة الأوكرانيون إنَّ مصطلح الهجوم المضاد يُستخدَم بشكل مُبالَغ فيه. وتحدَّثوا بدلاً من ذلك عن "حملة عسكرية للربيع والصيف"، تمتد حتى سبتمبر/أيلول المقبل، وربما بعد ذلك. ويبدو أنَّ هذه الحملة دخلت مرحلتها النشطة الجديدة. ومن المبكر للغاية الحكم إن كانت ستنجح أم لا.
وأطلقت القوات الأوكرانية على ما يبدو هجمات استكشافية، في محاولة للعثور على نقاط الضعف واختراق الصفوف الروسية. لكنَّ الهجوم الرئيسي لم يأتِ بعد. ويتمثَّل هدف كييف الاستراتيجي في قطع الممر البري لروسيا في جنوب أوكرانيا. ويعني ذلك فصل المناطق المحتلة من دونباس الشرقية عن مناطق القرم ومنطقتَي زابوروجيا وخيرسون بطول الضفة الغربية لنهر دنيبرو.
أين يدور القتال؟
بحسب مدونين عسكريين روس، شنَّت أوكرانيا هجوماً ليلياً غربي مدينة فوهليدار وقريباً من الحدود الإدارية بين مقاطعتَي دونيتسك وزابوروجيا. وقال ألكسندر خوداكوفسكي، قائد لواء فوستوك الموالي لموسكو، إنَّ الجنود الأوكرانيين حققوا مكاسب حول بلدة فيليكا نوفوسيلكا جنوبي دونيتسك.
وأفاد بأنَّ نحو 10 مركبات مدرعة أوكرانية تتقدم باتجاه قريتَي زولوتا نيفا ونوفودونيتسك، مضيفاً: "كانت أوكرانيا حتى الآن ناجحة". وأشار مدونون آخرون موالون للكرملين إلى أنَّ أوكرانيا أحدثت "خرقاً" بسيطاً في خطوط الجبهة القائمة.
وقال خوداكوفسكي إنَّ وحدات الطائرات دون طيار الروسية رصدت يوم الأحد نحو 30 مركبة مدرعة أوكرانية في منطقة قريبة. لكنَّه قال إنَّه "بسبب محدودية القدرات"، لم يستطع الروس التأكُّد من الوجهة التي يخطط الجنود الأوكرانيون للتقدم صوبها. وكتب على تطبيق تليغرام: "نتيجة لذلك، وصلت القوة الهجومية الأوكرانية… إلى خط الهجوم دون أن يلاحظها أحد تقريباً. ونجح العدو في وضعنا في موقف صعب من خلال تدمير الاتصالات الروسية. والموقف آخذ بالتطور".
وقالت وزارة الدفاع الروسية في موسكو إنَّها أحبطت "هجوماً كبيراً"، وصدَّت تقدماً للواءين أوكرانيين، وأضافت أنَّ المئات من القوات الأوكرانية قُتِلوا، لكن لم يصدر تعليق من كييف على تلك التقارير الروسية.
وفي الوقت نفسه، بدا أنَّ الجنود الأوكرانيين استعادوا مناطق قرب مدينة باخموت، حيث دار القتال لأشهر. وقال يفغيني بريغوجين، قائد مجموعة فاغنر المرتزقة التي قادت الهجوم الروسي، إنَّ القوات الأوكرانية تسيطر الآن على بلدة بيرخيفكا شمالي باخموت. وكانت هناك مؤشرات على أنَّ أوكرانيا تشن هجمات مضادة صغيرة النطاق في مقاطعة زابوروجيا.
وقال مدونون عسكريون روس إنَّ القوات الأوكرانية تسعى للتقدم قرب قرية مالا توكماشكا، الواقعة على بُعد أقل من 32 كم تقريباً جنوب شرقي مدينة هوليايبول التي تسيطر عليها أوكرانيا.
ما مدى قوة الدفاعات الروسية؟
ظل خط الجبهة دون تغيير إلى حد كبير منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2022، حين شنَّت أوكرانيا هجمات مضادة ناجحة أجبرت القوات الروسية على الانسحاب من مدينة خيرسون غرب نهر دنيبرو، وقبلها كانت قد انسحبت أيضاً من مقاطعة خاركيف في الشمال الشرقي.
وتتحصَّن روسيا على طول الجبهة منذ ذلك الحين، ويتمثَّل هدفها في التمسك بالمناطق التي سيطرت عليها العام الماضي في الأسابيع الأولى من الحرب، التي تصفها موسكو بأنها "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفها الغرب بأنها "غزو عدواني غير مبرر".
فوفقاً لوزارة الدفاع البريطانية، أقام المهندسون بعضاً من أكبر التحصينات التي شُوهِدَت في العالم منذ عقود. وتُظهِر صور الأقمار الصناعية خطوطاً ملتوية لخنادق على نمط الحرب العالمية الأولى.
لم تُبنَ التحصينات فقط في جنوب أوكرانيا –وهي منطقة تتألف من الحقول الخضراء والسهوب- بل أيضاً في شبه جزيرة القرم، التي تقول حكومة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إنها تسعى لاستعادتها، وخارج مدينة ماريوبول.
لكن لن يكون اختراق التحصينات الروسية سهلاً على القوات الأوكرانية. فهنالك على الأقل ثلاثة خطوط دفاعية روسية يفصل بينها عدة كيلومترات. وتشمل خنادق مضادة للدبابات باتساع 5 أمتار في عمق 3 أمتار، و"أسنان التنين"، وهي كتل خرسانية هرمية مُصمَّمة لإبطاء تقدم المركبات العسكرية. وقام الروس بتلغيم مكثف لكامل خط الجبهة، ووضعوا ألغاماً عائمة في نهر دنيبرو، لمنع الأوكرانيين من العبور من الضفة الشرقية.
ويمثل النهر نفسه عقبة جغرافية قوية. فقال رومان كوستينكو، وهو قائد أوكراني، الشهر الماضي، مايو/أيار: "الألغام خطر كبير بالنسبة لنا"، مضيفاً أنَّه سيكون من الأسهل على المشاة الأوكرانيين التقدم في الشرق، حيث تملك روسيا عدداً أكبر من القوات لكنَّ عدد الألغام أقل.
وفي هذا السياق، من الصعب تجاهل ما حدث الثلاثاء 6 يونيو/حزيران من تفجير سد نوفا كاخوفكا العملاق على نهر دنيبرو في إقليم خيرسون الجنوبي، والذي تتبادل روسيا وأوكرانيا الاتهامات بشأنه، حيث تقول كييف إن موسكو أقدمت على تفجير السد لعرقلة عبور القوات الأوكرانية النهر ناحية الشرق، في إطار الهجوم المضاد الكبير.
لكن روسيا تتهم أوكرانيا بتفجير السد، إذ حمّل المسؤول الروسي عن إدارة مدينة نوفا كاخوفكا، فلاديمير ليونيف، كييف مسؤولية التفجير، قائلاً إن محطة توليد الطاقة الكهربائية والسد تعرضا لـ"قصف أوكراني"، مشيراً إلى أن الضربات استهدفت بشكل رئيسي "الجزء العلوي من محطة الطاقة الكهرومائية؛ حيث توجد الصمامات، ما أدى إلى هدمها".
المحللون المتعاطفون مع روسيا والمتبنون لرؤيتها بشأن الحرب، يرون أن أوكرانيا هي التي أقدمت على تفجير سد نوفا كاخوفكا كي تداري على فشل هجومها المضاد، الذي بدأ قبل أيام ولم تتمكن من خلاله تحقيق اختراق يُذكر في خطوط الدفاع الروسية، باستثناء بعض التقدم شمال باخموت.
وبحسب هؤلاء، فإن روسيا تسيطر على جسر نوفا كاخوفكا بالفعل منذ بدأت هجومها على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، وحتى بعد أن سحبت قواتها من مدينة خيرسون غرب نهر دنيبرو أواخر العام الماضي، ظلت السيطرة على السد والمحطة الكهرومائية للروس، وبالتالي لا يوجد ما يبرر قيام روسيا الآن بتدمير السد، حيث إن ذلك يعني حرمان شبه جزيرة القرم من موردها الرئيسي من مياه الشرب والزراعة.
أما المتعاطفون مع أوكرانيا، فيرون أن تفجير روسيا للسد في هذا التوقيت هدفه الرئيسي هو عرقلة تقدم القوات الأوكرانية، التي تستعد للهجوم المضاد منذ أشهر طويلة ومسلحة على أكمل وجه بفعل الدعم العسكري الغربي الهائل الذي تسلمته خلال الأشهر الأخيرة.
ما قوة القوات المسلحة الأوكرانية؟
تستعد أوكرانيا وداعموها الغربيون منذ أشهر طويلة لهذا الهجوم المضاد وأعدت قوة عسكرية ضخمة بالفعل، إذ إنه وفقاً لوثائق وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) المسربة، جمعت أوكرانيا أكثر من 12 لواءً حديثي التشكيل، قوامها نحو 60 ألفاً من القوات.
وتفيد تقارير بأنَّ 9 من هذه الألوية مُزوَّدة بدبابات قتال رئيسية مُقدَّمة من حلفاء أوكرانيا الغربيين. وتشمل دبابات Challenger 2 التي أرسلتها لندن، ومدفعية ومدرعات من عيار الناتو. وقدَّمت ألمانيا دبابات Leopard 2 ومركبات مشاة قتالية من طراز Marder. وشُحِنَت مركبات القتال الأمريكية Stryker وCougar، بالعشرات، سراً إلى كييف. وتلقى آلاف الجنود وأطقم الدبابات الأوكرانية تدريبات في المملكة المتحدة ومناطق أخرى استعداداً للهجوم. ولم يكن لدى كثير منهم خبرة عسكرية سابقة.
لكن بعد 15 شهراً من الحرب الشاملة، لا تزال روسيا تملك جيشاً أكبر ومخزوناً أكبر من الصواريخ والذخيرة. وقال تقييم مُسرَّب من البنتاغون في الربيع إنَّ الجيش الأوكراني يواجه "نقصاً كبيراً في تكوين القوة واستمراريتها". وحذَّرت من أنَّ العملية الأوكرانية يمكن أن تؤدي فقط إلى "مكاسب متواضعة على الأرض". وأقنع الرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، الشركاء الغربيين المترددين بتزويد كييف بمقاتلات من طراز F-16.
لكن زيلينسكي نفسه قال الثلاثاء 6 يونيو/حزيران إنه تلقى عرضاً "جاداً وقوياً" من قادة دول على استعداد لتزويد كييف بمقاتلات من طراز إف-16 وإنه ينتظر وضع اللمسات النهائية على اتفاقات مع حلفاء رئيسيين، وهو ما يشير إلى أن تلك الطائرات لن تشارك في الهجوم المضاد الحالي بطبيعة.
وبحسب بيان على موقعه الإلكتروني، أضاف زيلينسكي: "شركاؤنا يعرفون عدد الطائرات التي نحتاجها. يوجد بالفعل تفاهم بشأن العدد مع بعض شركائنا الأوروبيين… إنه عرض جاد وقوي"، وقال زيلينسكي إن كييف تنتظر الآن اتفاقات نهائية مع حلفائها، بما في ذلك "اتفاق مشترك مع الولايات المتحدة".
لكن لم يتضح بعد أي من حلفاء كييف على استعداد لإرسال الطائرات إلى أوكرانيا، وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد أبلغ قادة مجموعة السبع الشهر الماضي أن واشنطن تدعم برامج التدريب المشتركة التي ينظمها الحلفاء للطيارين الأوكرانيين على طائرات إف-16. لكن مستشار الأمن القومي بالبيت الأبيض جيك سوليفان قال إنه لا يوجد قرار نهائي بعد فيما يتعلق بإرسال واشنطن للطائرات.
ولطالما طالب زيلينسكي بتزويد بلاده بطائرات إف-16، ويقول إن استخدام الطيارين الأوكرانيين لها سيكون تأكيداً من العالم على أن "الغزو الروسي" سينتهي بهزيمة، أما روسيا فقد قالت الثلاثاء إنه يمكن تعديل مقاتلات إف-16 أمريكية الصنع لحمل أسلحة نووية وحذرت من أن إمداد كييف بها سيفاقم الصراع.
دميتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، قال الأربعاء 7 يونيو/حزيران إنه من الواضح أن أوكرانيا بدأت هجومها المضاد المتوقع منذ فترة طويلة، وإن على موسكو أن ترد بشن هجوم بعد صد قوات كييف: "يتحدث العدو منذ فترة عن شن هجوم مضاد كبير. ويبدو أنه بدأ بالفعل شيئاً ما… علينا أن نوقف العدو ثم نطلق هجوماً".