يتردد مصطلح اقتصاد الحرب على لسان مسؤولين أوروبيين بسبب الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فماذا يعني هذا المصطلح "المرعب"؟ وهل أوروبا قادرة فعلاً على تطبيقه؟
كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أول من دعا أوروبا إلى التطبيق الفوري لاقتصاد زمن الحرب، لكنَّ مسؤولين آخرين في الاتحاد الأوروبي كرروا نفس الرسالة مؤخراً.
كان ماكرون قد تحدث عن المصطلح في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، في معرض خطاب له عن الحرب في أوكرانيا، وقال: "عندما يعود السلام إلى أوكرانيا، سيتعين علينا استخلاص جميع العواقب، أي بناء هيكل أمني جديد وإطار عمل متجدد للاستقرار والحد من التسلح.. هناك أيضاً مخاطر المستقبل، بما في ذلك الاستخدام الواسع النطاق للطائرات بدون طيار، والتقليل من أهمية الصواريخ، والذكاء الاصطناعي".
وأوضح الرئيس الفرنسي قائلاً إنه "يجب أن نتكيف مع السياقات الجديدة وأن نضع أنفسنا في وضع اقتصاد الحرب.. في سياق صراع شديد الحدة يهمنا بشكل مباشر، إنه تعبئة اقتصادية وصناعية حقيقية يجب أن نفكر فيها بالفعل"، مضيفاً: "الأمر نفسه ينطبق على بنيتنا التحتية وشبكاتنا التي يجب علينا حمايتها، ونحن نشهد ذلك حالياً مع أوكرانيا"، بحسب تقرير لصحيفة لو باريزيان.
ماذا يعني اقتصاد زمن الحرب؟
اقتصاد الحرب مصطلح يعني قيام الدولة بهيكلة قدرتها الإنتاجية والتوزيعية ككل خلال اشتراكها في صراع مسلح، ويتم ذلك من خلال تعديلات جذرية على قدرتها الإنتاجية الاستهلاكية بطريقة توجه أغلب تلك القدرات نحو تلبية احتياجات المجهود العسكري.
وأبرز مثال على تطبيق اقتصاد الحرب جاء خلال الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد عام 1942 عندما أصبحت أمريكا طرفاً مباشراً في تلك الحرب في أعقاب تدمير أسطولها في بيرل هاربر من جانب اليابان.
وحتى تتمكن الدولة من تطبيق اقتصاد زمن الحرب، يتم تطبيق قوانين استثنائية تسمح للحكومات بوضع يدها على جميع موارد البلاد وإلزام الشركات والمصانع الخاصة بإدخال تغييرات رئيسية لتحقيق الأهداف الخاصة بضمان تحقيق النصر في الحرب، كما تقررها الحكومة والقيادات العسكرية بطبيعة الحال. ويمتد هذا التغيير إلى الضرائب بأنواعها وكيفية توزيع إنفاقها في الموازنة العامة للبلاد، بحسب تقرير لموقع إنفستوبيديا.
وفي هذا السياق يأتي الحديث عن ضرورة تطبيق اقتصاد الحرب في أوروبا مع استمرار تداعيات الحرب في أوكرانيا، والحديث عن عمليات استحواذ وضوابط على الأسعار والحاجة للتسلح.
ولا شك أن هذا الحديث، الذي برز على السطح في الآونة الأخيرة بشأن "اقتصاد الحرب" أو "اقتصاد زمن الحرب"، يعيد إلى الأذهان حقبة زمنية مظلمة من تاريخ القارة العجوز، حيث كانت أولوية الاقتصاد والإنتاج الصناعي بشكل كامل لصالح المجهود الحربي.
ومنذ مارس/آذار الماضي، بدأ تيري بريتون، مفوّض الاتحاد الأوروبي، في استدعاء هذا المصطلح بين الفنية والأخرى، حيث يسعى إلى زيادة وتيرة تنفيذ قرارات الاتحاد الأوروبي لزيادة تصنيع الذخيرة والأسلحة سواء لتسليح أوكرانيا أو إعادة ملء ترسانة الأسلحة في الدول الأوروبية.
كان الاتحاد الأوروبي قد تعهد بتوفير مليون قذيفة لأوكرانيا خلال عام 2023، لكن صحيفة The New York Times الأمريكية نشرت تقريراً يرصد الصعوبة البالغة التي تواجه الالتزام بهذا الوعد، طالما أن القارة العجوز لا تطبق اقتصاد زمن الحرب. فمنذ بداية الحرب في أوكرانيا، تعمل الأذرع الآلية العملاقة والسخانات عالية التقنية على قدمٍ وساقٍ في واحد من أكبر مصانع الذخيرة في أوروبا؛ من أجل إنتاج قذائف المدفعية عيار 155 ملم التي تشتد الحاجة إليها.
وإذا سارت الأمور وفقاً لما خطط لها، سوف تنتج الشركة الأم لهذا المصنع، وهي شركة Nammo، ما يصل إلى 200 ألف قذيفة سنوياً بحلول عام 2028، أي 20 ضعف حجم الإنتاج قبل الحرب. لكن هذه الكمية لن تقترب حتى من عتبة الكفاية -ولن تصير كافية في أي وقت قريب- في حين أن القوات الأوكرانية تقول إنها تحتاج إلى 250 ألف قذيفة في المتوسط من قذائف عيار 155 ملم كل شهر، للتصدي للتقدم الروسي. وفي واقع الأمر، يبقى الإنتاج الإجمالي المشترك للـ 11 مصنعاً التي تصنع هذه القذائف في أوروبا، أقل بكثير من الوفاء بالاحتياجات الماسّة لأوكرانيا.
هل يمكن أن تطبق أوروبا اقتصاد الحرب؟
كان بريتون قد قام بعدة جولات داخل عدد من مصانع ومنشآت تصنيع الأسلحة في جميع أنحاء التكتل الأوروبي؛ حيث سمع تذمراً حيال عدم إبرام عقود طويلة الأجل رغم قرارات الاتحاد الأوروبي الرامية إلى زيادة التمويل وتقليل قيود المشتريات المشتركة، إلا أنه يعتقد أن العملية تسير ببطء شديد. وتحدث بريتون عن ذلك على نحو صريح في مؤتمر صحفي أول يونيو/حزيران، قائلاً: "عملية التأخير لا تتماشى مع احتياجاتنا العاجلة، لذلك أقول بشكل واضح إنه يتعين دفع القاعدة الصناعية ونقلها إلى اقتصاد زمن الحرب إذا سمحت لي بوصفها بهذه العبارة".
ويقول خبراء إن بريتون يبدو أنه لم يتشاور مع جميع أعضاء الاتحاد الأوروبي للسماح له بالتحدث بهذا الشكل عن "ضرورة الانتقال إلى اقتصاد زمن الحرب".
ومن المتوقع أن تكون دول أوروبية تشعر بالحساسية تجاه هذا المصطلح خاصة ألمانيا حيث يرى سفيرها في بولندا توماس باغر أن نهج بريتون غير مثمر. وقال الدبلوماسي الألماني في مؤتمر في إستونيا في وقت سابق من هذا الشهر: "لن يكون هناك رد إيجابي على مصطلح اقتصاد الحرب في ألمانيا. انها ليست الطريقة الصحيحة لحشد الجهود".
إدوارد لوكاس، الزميل في مركز تحليل السياسة الأوروبية، اعتبر رد فعل باغر متوقعاً، قائلاً إن "كل دولة تمتلك تفسيرات خاصة لهذا المصطلح"، وأضاف لشبكة DW الألمانية: "اقتصاد الحرب بشكله الحقيقي يعني تفقد رجال مسلحون المصانع والسيطرة عليها وتحويل إنتاجها إلى انتاج المزيد من الأسلحة. لا أعتقد أن أي شخص في أوروبا يقترح ذلك، رغم أن روسيا قد اتخذت بالفعل بعض الخطوات في هذا المسار".
وأشار لوكاس إلى أن هذا المصطلح يرتبط في ألمانيا "بسيطرة النازية على الاقتصاد مع ما نجم عن ذلك من معاناة كبيرة وإساءة معاملة العمال واستبعادهم. الأمر يشبه القول بأن هناك حاجة إلى رفع وتيرة المزارع في الولايات المتحدة، فلن يكون ذلك دليلاً فوراً على الإنتاجية؛ بل سيكون علامة على أحلك فترة في التاريخ الأمريكي وهي فترة بناء المستوطنات خلال الاستعمار الأوروبي للأمريكتين. لا أعتقد حل المشكلة الراهنة يكمن في إطلاق مثل هذه الشعارات؛ إذ يمكن حل الأزمة من خلال إجراء مفاوضات جادة واتخاذ قرارات تنظيمية مالية صعبة تؤدي إلى النتيجة المرجوة".
هل هناك إجماع أوروبي بشأن حرب أوكرانيا؟
بن تاليس، الخبير في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية، قال للشبكة الألمانية إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تحدث في السابق عن "اقتصاد الحرب"، لكن دون اتخاذ إجراءات دراماتيكية بموجب هذا المصطلح، مضيفاً: "سيخلق هذا الكثير من التداعيات وسينجم عنه سيطرة كبيرة من الدولة على الاقتصاد وقد يعني ذلك تقنين أنواع مختلفة الأمر الذي من شأنه أن يرسل إشارة خطيرة للشعوب الأوروبية، لكن لا أعتقد أن الجيل الحالي من السياسيين في أوروبا الغربية على استعداد للقيام بهذا الأمر".
لكن خبراء يقولون إنه من الضروري بعث رسالة عاجلة إذا أراد الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي "الناتو" البدء في إطلاق آلية تصنيع الأسلحة. وفي هذا السياق، قالت ناتالي توتشي، مديرة معهد الشؤون الدولية في إيطاليا، إنها تتفهم السبب وراء قيام بعض مسؤولي الاتحاد الأوروبي بالحديث عن مصطلح "اقتصاد الحرب"، مضيفة "أنهم في حاجة إلى سد فجوة كبيرة حيال تصور التهديدات التي تواجه أوروبا بهدف إقناع الدول الأعضاء التي تقع على مسافة بعيدة عن خط المواجهة، بأنه يتعين عليها إنفاق المزيد على الصناعات الدفاعية لتسليح أوكرانيا بدلاً من إنفاق الأموال [على القضايا المحلية]".
من جانبه، قال وزير دفاع أستونيا هانو بيفكور إن بلاده ليست في حاجة إلى إعلان "اقتصاد الحرب" حيث إنها كرست أكثر من 1٪ من ناتجها المحلي الإجمالي لمساعدة أوكرانيا. وقال لدي دبليو: "لسنا في حاجة إلى التحدث عن ذلك على وجه الخصوص؛ إذ نرى التهديد ونقول إن كل فرد في أوروبا يجب أن يدرك حقيقة مفادها أن روسيا تمثل تهديداً وجودياً".
ويتفق في هذا الرأي المؤرخ العسكري سلومير دبسكي الذي يدير المعهد البولندي للشؤون الدولية، مؤكداً أنه لا يرى أن إعلان "اقتصاد الحرب ضروري على الأقل في الوقت الراهن". وسخر من أن بعض السياسيين الحاليين لا يدركون معنى "اقتصاد الحرب"، مضيفاً: "في عام 1942، كانت الولايات المتحدة قادرة على إنتاج سفن كبيرة في فترة لا تتجاوز 14 يوماً بدلاً من عامين. هذا معنى اقتصاد الحرب، لكننا لم نصل حتى الآن إلى هذه المرحلة وليس هناك حاجة لدفع اقتصادنا إلى ذلك النموذج. بدلاً من التخلي عن هذا المصطلح، يتعين على الساسة الشروع في شرح ماذا يعني "اقتصاد الحرب"؟
وأضاف دبسكي: "أوكرانيا تقاتل من أجل حريتنا جميعاً ولا أعتقد أن أصداء هذه الرسالة قد وصلت إلى كافة دول أوروبا الغربية. الأوكرانيون يحولون دون تعرضنا للاعتداء. إذا رأينا الأمر على هذا النحو، فعندئذ يجب أن يكون هذا هو صراعنا الذي يجب أن ننتصر فيه. أعتقد أنه من الصواب البدء في تهيئة أذهان الناس لقبول ذلك".
لكن السفير الألماني في بولندا توماس باغر لا يؤيد هذا المقترح، قائلاً: "المهم هو أننا لا نأخذ التفسيرات المختلفة لما يمثله "التهديد الوجودي" كمنطلق للقول بأنَّ هناك آخرين ما زالوا لا يدركون هذا الخطر"، وأضاف: "وجهة نظرى تتمثل في أننا ندرك التهديد، لكن علينا أن نفهم أن تعلمنا دروساً قاسية ومختلفة من التاريخ والجغرافيا".