انتخابات تركيا 2023.. كيف أبعدت جولة الإعادة شبح عدم الاستقرار السياسي وأجهضت هجوم الغرب؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/05/16 الساعة 09:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/05/16 الساعة 09:39 بتوقيت غرينتش
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ومنافسه كمال كليجدار أوغلو - رويترز

جولة إعادة تاريخية في انتخابات تركيا الرئاسية 2023 بين الرئيس رجب طيب أردوغان ومنافسه كمال كليجدار أوغلو تقام يوم 28 مايو/أيار، فماذا تعني هذه النتيجة للاستقرار السياسي وهجوم الغرب المستمر قبل انتخابات القرن؟

كان الأتراك قد عاشوا يوماً طويلاً، بدأ الأحد 14 مايو/أيار، منذ بدء التصويت في الساعة 8 صباحاً بالتوقيت المحلي (الخامسة صباحاً بتوقيت غرينتش) في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأهم على الإطلاق في تاريخ تركيا الحديث، ثم بدأت عملية فرز الأصوات، وأعلن رئيس الهيئة العليا للانتخابات التركية، أحمد ينار، أن أردوغان فاز بالمرتبة الأولى بنسبة 49.51% تلاه في المركز الثاني كليجدار أوغلو الذي حصل على 44.88%، ليصعد معه إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، المقررة في 28 مايو/أيار الجاري.

هذه هي المرة الأولى في تاريخ رئاسيات تركيا التي يتأجل الحسم إلى جولة الإعادة، ففي انتخابات 2014، فاز أردوغان بـ51.79%، وفي 2018، رفع نسبة التصويت لصالحه بنسبة 52.38%.، ليحسم الأمور من الجولة الأولى، فماذا يعني ذلك للداخل والخارج؟

هجوم الغرب المستمر على تركيا

الانتخابات التركية هي الأهم على الإطلاق في تاريخ البلاد الحديث منذ تأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923 بإجماع المراقبين والمحللين في الداخل والخارج، وكانت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية قد نشرت تقريراً، مطلع العام الجاري، عنوانه "الانتخابات الأهم في العالم خلال 2023 ستكون في تركيا"، ألقى الضوء على الأسباب والملابسات التي تجعل ذلك السباق الانتخابي بهذه الأهمية، ليس فقط لتركيا، ولكن للعالم أيضاً.

فنتائج الانتخابات التركية سوف يكون لها تأثير مباشر على صياغة الحسابات الجيوسياسية في واشنطن وموسكو، إضافة إلى عواصم في أوروبا والشرق الأوسط ووسط آسيا وإفريقيا أيضاً. ولا شك أن الدور والتأثير التركي في الشؤون الدولية يمثل شهادة على إنجازات أردوغان خلال عقدين من وجوده على رأس السلطة في البلاد، ورغم ذلك فإن سعي المعارضة التركية للإطاحة بالرئيس صادف هوى الغرب بشكل لافت، وانعكس ذلك في التغطية الغربية الإعلامية للانتخابات.

واتخذ الهجوم الغربي المستمر على تركيا ساتراً عنوانه "الخوف على الديمقراطية"، تركز على مزاعم تتعلق بانفراد الرئيس التركي أردوغان بالسلطة وكأنها دولة بلا مؤسسات أو كأن "الديمقراطية" هي الغرض من وراء ذلك الهجوم، وازدادت شراسة تلك الهجمات الغربية قبيل الانتخابات التركية.

وتبنت وسائل إعلامية غربية كبرى موقفاً معادياً من أردوغان وحزب العدالة والتنمية بشكل معلن، فالصحف البريطانية والألمانية والفرنسية رفعت شعار "إسقاط أردوغان" دون خجل أو مراعاة لأبسط قواعد العمل الإعلامي، في انعكاس واضح لأمنية الغرب في التخلص من الرئيس التركي وحزبه الحاكم لأسباب تخص علاقتهم به ومصالحهم التي يرونها باتت مهددة في ظل وجوده.

مجلة الإيكونوميست البريطانية نشرت عنواناً رئيسياً على صفحتها الأولى يقول: "ليسقط أردوغان من أجل تحقيق الحرية والخلاص من الخوف"، ونشرت مجلة دير شبيغل الألمانية على غلاف صفحتها الأولى هي الأخرى صورة للرئيس رجب طيب أردوغان جالساً على كرسي هلاله مكسور، وكتبت بالخط العريض: "أردوغان، الفوضى أم الانقسام في حال خسارته للرئاسيات؟".

تركيا
Yeni Şafak/ مسنة تركية 112 عامًا تدلي بصوتها في الانتخابات التركية

مجلة لوبوينت الفرنسية، التي تعاملت مع الانتخابات التركية كما لو أنها شأن داخلي في فرنسا الغارقة في أزماتها المتعددة، نشرت مقالاً طويلاً لصحفي بها يعتبر نفسه خبيراً في الشأن التركي، وضع له عنوان "أردوغان، بوتين آخر"، واصفاً الرئيس التركي.

لكن بدأت الانتخابات وسارت في أجواء ديمقراطية بامتياز، بشهادة المراقبين الغربيين أنفسهم، الذين أشادوا بكفاءة عمل اللجنة العليا للانتخابات وبالإقبال، الذي اعتبره يان بيترسون، رئيس بعثة المراقبين الأوروبيين، بأنه مؤشر واضح على "الروح الديمقراطية القوية".

والموقف نفسه عبر عنه نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، فيدانت باتيل، بقوله إن تركيا "تتمتع بتقليد ديمقراطي عريق"، مضيفاً: "نواصل متابعة الانتخابات في تركيا وبشكل عام نهنئ الشعب التركي على مشاركته (الواسعة بالانتخابات)، كما نهنئ البرلمان الجديد، سنعمل مع الفائز (بالرئاسيات)".

وأكد باتيل للصحفيين في واشنطن أن "تركيا تتمتع بتقليد ديمقراطي عريق يدعو للافتخار، ونحن على ثقة من أن السلطات التركية ستكمل المرحلة التالية من الانتخابات الرئاسية وفقاً لقوانين البلاد والتزامات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وتحالفات الناتو".

وفي السياق ذاته، تغير تماماً محور التغطية الإعلامية الغربية من التباكي المزعوم على الديمقراطية، إلى الهجوم الحاد على المعارضة وأدائها الضعيف، مع الإشادة بديمقراطية تركيا والإقبال غير المسبوق على التصويت، والذي اقترب من حاجز 90% ممن لهم حق التصويت.

دعم الاستقرار السياسي

النقطة الأخرى الهامة التي نتجت عن هذا السباق الانتخابي الشرس والمتقارب، رغم الأفضلية الواضحة لأردوغان على كليجدار أوغلو مرشح المعارضة، هي الانعكاس على حالة الاستقرار السياسي في البلاد بعد أن وضع غالبية الأتراك ثقتهم في التحالف الحاكم، الذي حصد الأغلبية البرلمانية، رغم توقعات المعارضة وأمنيات الغرب بأن يفقد حزب العدالة والتنمية وباقي أحزاب تحالف الجمهور الحاكم الأغلبية البرلمانية.

وعلى الرغم من أن الأسبوعين الفاصلين بين الجولة الأولى وجولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية سيشهدان سعي كل طرف إلى إقناع الناخبين بالتصويت لمرشحه يوم 28 مايو/أيار، إلا أن الأجواء العامة نفسها باتت أكثر استقراراً بالفعل مما كانت عليه الأمور قبل الجولة الأولى.

فحديث المعارضة والغرب عن "افتقاد الديمقراطية"، كما قال كليجدار أوغلو لمناصريه، لم يعد ورقة يمكن توظيفها لإقناع البعض بعد أن وصلت الأمور إلى جولة الإعادة، علماً بأنه في الانتخابات الرئاسية السابقة لم تشهد تركيا فوزاً ساحقاً للرئيس أردوغان أو مزاعم بالتلاعب من الأساس، لكن سلاح التضليل والمزاعم بشأن الخوف على الديمقراطية كان الذريعة الأبرز هذه المرة، وعلى الأرجح ستكون تلك المزاعم هي الغائب الأبرز في جولة الإعادة الحاسمة.

ولا شك أن موقف الرئيس أردوغان بات أقوى كثيراً من موقف منافسه قبيل جولة الإعادة، فالنسبة التي حصل عليها كل منهما في الجولة الأولى مؤشر لافت في هذا السياق.

فالوضع الاقتصادي المتأزم في تركيا والزلازل المدمرة التي ضربت البلاد في فبراير/شباط الماضي وحصول كليجدار أوغلو على تأييد "الطاولة السداسية" واحتشاد المعارضة خلفه جعلته يبدو مُفعماً بالثقة قبل الانتخابات الرئاسية متوقعاً فوزه بها من الجولة الأولى.

لكن آماله تبددت بعد أن أظهرت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية تقدم أردوغان، بصورة تجعل من الصعب على مرشح المعارضة تحقيق النصر في جولة الإعادة، بإجماع المعارضين لأردوغان في الداخل والخارج.

انتخابات تركيا 2023
فرز الأصوات في الانتخابات التركية 2023/ رويترز

والآن يأمل كليجدار أوغلو للفوز بالانتخابات في الحصول على تأييد سنان أوغان، المرشح القومي الذي حل في المركز الثالث بعد حصوله على 5.2% من الأصوات، لكن أوغان قال إنه لن يدعمه في جولة الإعادة إلا إذا وافق على عدم تقديم تنازلات لحزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد الذي أيد كليجدار رغم أنه ليس جزءاً من تحالف المعارضة.

لكن المنتقدين لمرشح المعارضة، وحتى البعض داخل حزبه والأحزاب المتحالفة معه، يرون أنه يفتقر إلى قدرة الرئيس أردوغان على الحشد، ولا يمتلك رؤية واضحة لما يريد أن تكون عليه تركيا إذا ما فاز.

فكليجدار أوغلو سعى إلى حشد مختلف الأطياف في تحالف يضم قوميين وإسلاميين وعلمانيين وليبراليين؛ مما أثار التساؤلات بشأن ما إذا كان بإمكانه الحفاظ على مثل هذا التحالف في حالة الفوز في الانتخابات.

كيف انتصر الأتراك في جميع الأحوال؟

النظرة الشاملة لكل ما يحيط بالعملية الانتخابية في تركيا تشير بوضوح إلى أن الفائز الأكبر في هذه الانتخابات هم الأتراك أنفسهم، بغض النظر عن النتيجة النهائية لجولة الإعادة الرئاسية.

فمن جهة، تعبر المشاركة القياسية في الانتخابات، في الداخل والخارج، عن اقتناع الأتراك جميعا بأهمية كل صوت في تقرير مصير البلاد، وهو المغزى الرئيسي وربما الوحيد من العملية الديمقراطية برمتها، وبالتالي فإن الحديث عن وجود انقسام داخل المجتمع التركي، بحسب تركيز الغرب إعلامياً، هو حق يُراد به باطل.

فالخلاف في الرأي لا يفسد الديقراطية بل يغذيها ويقويها، على عكس ما شهدته واشنطن، على سبيل المثال، عندما رفض الرئيس السابق دونالد ترامب الاعتراف بهزيمته في انتخابات 2020 وما أدى إليه ذلك من اقتحام أنصاره للكونغرس في محاولة لمنع التصديق على فوز منافسه جو بايدن، الرئيس الحالي.

سنان أوغان تركيا
المرشح الرئاسي سنان أوغان/ رويترز

وما تشهده فرنسا حالياً من احتجاجات عنيفة ورفض لخطة الرئيس إيمانويل ماكرون بشأن رفع سن المعاش وإصراره عليها رغم عدم حصوله على النسبة البرلمانية لتمرير المشروع ولجوئه إلى "مرسوم رئاسي"، دليل آخر على ازدواجية المعايير الغربية؛ إذ لم يتهم أحد ماكرون بالتلاعب بالديمقراطية أو فرنسا بأنها منقسمة.

الأجواء في تركيا مختلفة تماماً، فهناك مرشحان للرئاسة يستعدان لجولة الإعادة في أجواء سلمية تماماً ويسعى كل منهما لإقناع الأتراك بالتصويت له، ويتوقف الأمر هنا على برامج كل منهما ووعوده ومدى القدرة على إقناع الناخب بمدى قدرة المرشح ومعسكره في الوفاء بتلك الوعود.

فما سيقرره الناخبون الأتراك لن يتعلق فقط بمن سيحكم البلاد، لكن بكيفية الحكم أيضاً، والمسار الاقتصادي الذي ستسلكه تركيا، ودورها في تخفيف حدة الصراعات العالمية والإقليمية، مثل الحرب في أوكرانيا، والاضطرابات في الشرق الأوسط، ويمكن القول هنا إن الأغلبية قالت كلمتها بالفعل من خلال الانتخابات البرلمانية، التي جاءت في صالح المسار الحالي الذي يقوده الرئيس أردوغان.

الخلاصة هنا هي أن جولة الإعادة التاريخية في الانتخابات الرئاسية تعتبر نتيجة إيجابية لجميع الأطراف التركية، رغم أنها مثلت صدمة للغرب وأربكت حساباته، وبالتالي يبدو القادم أفضل للأتراك، بغض النظر عن الفائز بالرئاسة يوم 28 مايو/أيار.

تحميل المزيد