"بريطانيا العظمى أصبحت فقيرة، وعلى المواطنين البريطانيين تقبل حقيقة أنهم أصبحوا أفقر"، بهذه الكلمات الجريئة صدم كبير الاقتصاديين في بنك إنجلترا مواطنيه مع تفاقم الأزمة الاقتصادية في بريطانيا، وتسجيل الجنيه الإسترليني قبل أشهر أدنى مستوى له في تاريخه، فيما تراجع حجم بورصة لندن إلى ما وراء بورصة الهند مستعمرتها السابقة.
وفي مطلع العام الحالي، حذر صندوق النقد الدولي من أن بريطانيا من المتوقع أن تكون الدولة الصناعية الكبيرة الوحيدة التي تواجه انكماش الاقتصاد هذا العام، حيث توقع أن ينكمش اقتصادها بنسبة 0.6% هذا العام، حسبما ورد في تقرير لصحيفة the Guardian.
الأزمة الاقتصادية في بريطانيا جعلتها جزيرة محدودة الموارد على هامش أوروبا معرضة للحصار!
ورويداً رويداً يكتشف البريطانيون بعد انفصال بلادهم عن الاتحاد الأوروبي "البريكسيت" أن بلادهم التي كانت يوماً أغنى وأقوى إمبراطورية في التاريخ تبدو مجرد جزيرة صغيرة أو متوسطة الحجم، فقيرة الموارد على أطراف أوروبا، حتى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ومسؤولوه هدد أن هددوا بمحاصرتها وقطع إمدادات الكهرباء والغذاء أثناء الكريسماس.
هذه حقيقة.. بريطانيا تأكل أكثر مما تزرع، إذ تستورد المملكة المتحدة حوالي 46% من إجمالي المواد الغذائية التي تستهلكها، وتعتمد على كل من الواردات وقطاعها الزراعي لإطعام سكانها ودفع النمو الاقتصادي. تعني جغرافيا المملكة المتحدة، ومناخها، وعدد سكانها الأثرياء نسبياً أنها ستظل دائماً مستورداً مهماً للغذاء، خاصةً للمنتجات الطازجة، حسب تقرير للموقع الرسمي لإدارة التجارة الأمريكية.
وتزداد خطورة هذه المشكلة في ضوء أزمات الغذاء العالمية وارتفاع أسعار المحاصيل الزراعية، ووقف تصديرها أحياناً من قبل منتجيها الكبار مثلما حدث في بداية أزمة أوكرانيا.
وتراجع الجنيه الإسترليني قبل أشهر إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ بدء المنافسة بين العملتين قبل 200 عام.
وفي سبتمبر/أيلول 2022، وصل الجنيه الإسترليني إلى أدنى مستوى له في تاريخه مقابل الدولار، منذ بدء المنافسة بين العملتين قبل 200 عام، بعد أن هددت التخفيضات الضريبية وتدابير الإنفاق في الميزانية بتقويض الثقة في اقتصاد المملكة المتحدة، وطرحت تساؤلات آنذاك باحتمال اضطرار بريطانيا العظمى للجوء لصندوق النقد لإنقاذها، واضطرت الأزمة ليز تروس رئيسة الوزراء البريطانية في ذلك الوقت للاستقالة.
واحدة من أعلى معدلات العجز التجاري والتضخم بين الدول المتقدمة مع بطالة تطوعية
ومع ارتفاع أسعار النفط والغاز، فإن بريطانيا تعزز سمعتها كصاحبة واحد من أعلى معدلات العجز التجاري في العالم.
ورغم تعافي الجنيه الإسترليني بعد أزمة العام الماضي، ولكن نار التضخم تكوي البريطانيين، الذين ردوا باحتجاجات وإضرابات لزيادة الأجور، بطريقة تهدد بمزيد من التأزم الاقتصادي.
كما تعاني بريطانيا من انخفاض في التوظيف منذ جائحة كوفيد-19، مدفوعاً بالنمو السريع في الخمول الاقتصادي، وهو مصطلح يستخدمه الإحصائيون لتحديد متى لا يكون البالغون في سن العمل في وظيفة ولا يبحثون عن عمل. من أسباب ذلك، تقاعد العمال الأكبر سناً في وقت مبكر، وكانت هناك مستويات قياسية من المرض على المدى الطويل.
ويمكن أن تكون نسبة البطالة في المملكة المتحدة أعلى بثلاث مرات مما تظهره الأرقام الحكومية الرسمية، وفقاً لمركز الأبحاث التابع لمركز المدن، الذي قال إن أكثر من ثلاثة ملايين بالغ في سن العمل ممن يفيدون بأنهم غير نشطين اقتصادياً يمكن إضافتهم إلى أرقام البطالة الرسمية.
ومع وصول التضخم إلى مستوى يفوق الـ10% (وهو الأعلى منذ أكثر من 30 عاماً وواحد من أعلى المعدلات بين الدول المتقدمة)، يمكن أن تتعرض ميزانيات الأسر للاستنزاف.
"أصبحنا فقراء"
دفع ذلك كبير الاقتصاديين في بنك إنجلترا، هوو بيل، للقول بأن أفراد الشعب البريطاني بحاجة إلى قبول أنهم أفقر، بدلاً من السعي لاستعادة تراجع تاريخي في مستويات المعيشة بعد قفزة في التضخم.
وقال بيل في مقابلة أجراها مؤخراً: "بطريقة ما في المملكة المتحدة، يحتاج المواطن إلى قبول حقيقة أنه أسوأ حالاً، والتوقف عن محاولة الحفاظ على قدرته الشرائية الحقيقية عن طريق رفع الأسعار من خلال تلقي أجور أعلى أو تمرير تكاليف الطاقة إلى العملاء".
وانتقد رد الشركات والعاملين على التضخم برفع الأسعار، لأنه يخلق دوامة متتالية من زيادة الأسعار لن تتوقف، ما يُسهم في بقاء معدل التضخم الرئيسي في المملكة المتحدة عالقاً في خانة العشرات.
كشفت التصريحات عن التحدي الذي يواجهه صانعو السياسات في كبح ضغوط الأسعار. أدى رفع أسعار الفائدة إلى استنفاد القدرة الشرائية للأسر، وقلّص هوامش أرباح الشركات، ما أدى إلى تأجيج الصراع مع العمال الذين يضربون عن العمل للمطالبة بأجور أعلى، حسبما ورد في تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
بينما كرّر التعليق ما قاله المسؤولون التنفيذيون في بنك إنجلترا خلال العام الماضي، كانت كلمات بيل أكثر صراحة في الإشارة إلى أن العمال يجب أن يتحملوا المزيد من العبء. يضع هذا بنك إنجلترا في صراع مع آلاف العاملين في القطاع العام، الغاضبين من الحكومة بسبب قرارها تقييد الأجور.
تم توبيخ حاكم بنك إنجلترا، أندرو بيلي، العام الماضي من قبل نقابات العمال، لتحذيرهم من أنهم بحاجة إلى اعتدال مطالب الأجور. ومؤخراً، في 27 مارس/آذار، قال إن ارتفاع الأسعار "جعلنا أكثر فقراً كدولة".
تعليقات بيلت جاءت بينما كانت اللجنة المكونة من تسعة أعضاء في بنك إنجلترا تدرس رفع سعر الفائدة للمرة الثانية عشرة على التوالي، بعد رفع تكاليف الاقتراض من أقل من 1% إلى 4.25% في العام ونصف العام الماضي.
وتراهن الأسواق على ارتفاعات مستمرة في الأشهر المقبلة، بعد ارتفاع قوي بشكل مفاجئ للتضخم، في مارس/آذار 2023، ما أثار مخاوف من استمرار ضغوط الأسعار.
وفي تأكيده على التوقعات الرسمية لبنك إنجلترا، قال بيل إن بعض الضغوط التي تبقي التضخم مرتفعاً من المرجح أن تتبدد في الأشهر المقبلة، وأن التضخم قد ينخفض إلى ما دون هدف 2% في السنوات القليلة المقبلة.
وقال أيضاً إن بعض عناصر التضخم الذي يضرب المملكة المتحدة هي "عابرة"، ما يعيد إحياء كلمة مثيرة للجدل استخدمها محافظو البنوك المركزية لتأخير زيادات أسعار الفائدة قبل عامين.
وقال: "لقد شهدنا سلسلة من صدمات التضخم التي تأتي واحدة تلو الأخرى". كانت كل من تلك الصدمات عابرة في حد ذاتها، ولكن تم توقيتها بطريقة لا يتبدد فيها التضخم أبداً.
لأننا لا نستورد ما نأكل، ولا نصنع حتى الملابس التي نرتديها
"المملكة المتحدة التي تعد مستورداً صافياً كبيراً للغاز الطبيعي، تواجه موقفاً حرجاً يتمثل في ارتفاع سعر ما تشتريه من بقية العالم كثيراً، مقارنة بسعر ما تبيعه.
بريطانيا مستورد للغاز، والغذاء، والمواد الخام، وكثير من المنتجات الاستهلاكية، ورغم أنها دولة صناعية كبرى، بل هي التي صنعت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، التي غيّرت التاريخ ومكنتها من احتلال العالم، ولكن حجم الصناعة لديها والصادرات الصناعية ليس كبيراً بالنسبة لحجم الاقتصاد، مثل دول كألمانيا واليابان والصين.
بريطانيا لاعب أساسي في صناعة الخدمات، تقدم للعالم الخدمات المالية والمصرفية، تستقبل السياح الأثرياء (كان من بينهم السياح الروس الذين صادرت أموالهم)، وتبيع الأفكار وتستفيد اقتصادياً من الطبيعة العالمية للغة الإنجليزية.
ولكن هذا لا يبدو كافياً.
إذ قال كبير الاقتصاديين ببنك إنجلترا" صادراتنا إلى بقية العالم هي الخدمات في المقام الأول.
ويبدو أن ما حدث أن السلع الصناعية والمواد الخام ارتفعت أسعارها مقارنة بالخدمات التي تبيعها بريطانيا، وهذا جعل حالها أسوأ.
فتّش عن الانفصال عن الاتحاد الأوروبي الذي يهدد وحدة المملكة المتحدة
أسباب عديدة تعزى إليها الأزمة الاقتصادية في بريطانيا، منها مساوئ "بريكست"، التي تتربص باقتصاد المملكة المتحدة، بما في ذلك المشكلات الناجمة عن التحول من عضوية الاتحاد الأوروبي إلى دولة شريكة له، وهو ما يفرض قيوداً وشروطاً جديدة على التجارة والهجرة والإقامة بين الجانبين.
ويزداد تعقيد الأمور في ظل العلاقة الخاصة والحساسة بين جمهورية أيرلندا وأيرلندا الشمالية، التي هي إقليم من المملكة المتحدة، ولكن لديها روابط واتفاقات تفتح الحدود مع أيرلندا المستقلة، تم التوصل إليها بشق الأنفس بعد حرب أهلية انتهت باتفاقات لخلق روابط استثنائية مع جمهورية أيرلندا، لإرضاء سكان إقليم أيرلندا الشمالية الكاثوليك، الذين يعتبرون جزيرة أيرلندا وحدة واحدة لا تتجزأ.
كما شجّع الخروج من الاتحاد الأوروبي الاسكتلنديين على الدعوة لإجراء استفتاء جديد على الانفصال عن المملكة المتحدة، بعد أن نجت الأخيرة بصعوبة في التفكك خلال الاستفتاء على الانفصال عام 2014، الذي صوت فيه الناخبون الاسكتلنديون بنسبة 55.42% للبقاء ضمن بريطانيا.
والآن، يصر الحزب الوطني الاسكتلندي وحزب الخضر على إجراء استفتاء جديد بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، باعتبار أن اسكتلندا هي الإقليم الوحيد في المملكة المتحدة الذي صوت على البقاء داخل الاتحاد.
ماكرون يستغل الموقف لصالح فرنسا ويهدد بقطع الكهرباء عن بريطانيا
كما أن العلاقة الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، لاسيما فرنسا، تمثل مشكلة إضافية.
فبريطانيا باتت وحدها، حيث تمثل الآن طرفاً خارجياً للاتحاد الأوروبي، في وقت يبدو أن بعض قادة الاتحاد الأوروبي ومسؤوليه يريدون معاقبة لندن على خروجها، ولو قليلاً، حتى لا تُكرر دول أخرى المحاولة.
بينما الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، رغم أنه قد يكون سعيداً بخروج منافس بلاده التاريخي من التكتل الأوروبي لينفرد بزعامته مع ألمانيا، ولكنه يحاول حشد الاتحاد برمته خلف فرنسا في أي نزاع مع لندن، وهي نزاعات يطلقها لأسباب انتخابية على الأرجح.
ظهر ذلك واضحاً من قبل في الخلافات حول معالجة الهجرة غير الشرعية وحقوق الصيد، حيث وصل الأمر لتلويح إدارة الرئيس ماكرون بقطع الكهرباء عن المملكة المتحدة، ومنع دخول البضائع الحيوية إليها.
البريكست يكلف لندن 124 مليار دولار كإنتاج مهدر سنوياً
كما يحذر قادة الأعمال من أن الإجراءات الروتينية بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والتكاليف تضر بالتجارة في المملكة المتحدة.
وحدث انخفاض أولي بنسبة 40% في صادرات المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي في الشهر الأول، بعد نهاية الفترة الانتقالية لبريكست.
ورغم تعافي حجم التجارة الإجمالي لبريطانيا، فإن المملكة المتحدة قد تخلفت عن أداء الاقتصادات الكبيرة الأخرى، حسب صحيفة the Guardian.
ويقدر مكتب مسؤولية الميزانية في بريطانيا، وهو هيئة الرقابة المالية الحكومية، أن البريكسيت سيؤدي إلى تراجع 4% من الناتج الاقتصادي المتوقع على المدى الطويل، مقارنةً بما كان عليه لو بقيت المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي.
ويكلف"بريكست" بريطانيا 124 مليار دولار كإنتاج مهدر سنوياً، حسب تحليل لوكالة بلومبرغ، في يناير/كانون الثاني 2023، حيث رسم التحليل صورة قاتمة لاقتصاد المملكة، بعد 3 سنوات من إتمام اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي.
في هذا الإطار، قالت كريستين برادن، الرئيسة التنفيذية لـ"سيتي بنك يوروب" (Citibank Europe)، خلال حلقة نقاش في مؤتمر بلومبرغ للاقتصاد الجديد: "لم تشهد بريطانيا بعد الجزء الأكبر من الفوضى، التي يتوقع أن يلحقها البريكسيت، وخاصة التأثير على الخدمات المالية".
في الوقت نفسه، قال مايكل أوليري، الرئيس التنفيذي للخطوط الجوية الأيرلندي "ريان إير" (Ryanair)، إن الخروج من الاتحاد الأوروبي سيستمر في إحداث "تأثيره السلبي" على الاقتصاد البريطاني على المدى القصير إلى المتوسط، موضحاً أنه يخلق فوضى عالية في مجال الطيران تحديداً.
وبسبب البريكسيت، تهاجر شركات (أو فروع)، بما فيها شركات بريطانية، البلاد بعد أن أصبح الذهاب والإياب من وإلى الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى تأشيرة، حيث أصبح الحصول على تأشيرات للعمال الأوروبيين الآن مكلفاً للغاية، ما يزيد من التكاليف.
بعد أن كانت تهيمن على اقتصاد العالم.. بورصة لندن تتخلف وراء الهندية والفرنسية
في يوم من الأيام كانت بورصة لندن أهم بورصة في العالم، وموّلت حروب بريطانيا وغزواتها، بل كانت توجهها في كثير من الأحيان.
ولكن ها هي باريس تزيح لندن من مكانتها كأكبر بورصة في أوروبا، فيما انخفض رأس المال بالبورصة البريطانية إلى 3 تريليونات في 2023.
فالسوق التاريخية أصبحت في المرتبة السابعة بعد الأمريكية والصينية واليابانية وبورصة هونغ كونغ والهند، ما يشكل اختباراً واقعياً قوياً للمؤسسة التي يمتد تاريخها لأكثر من 200 عام، حسب بلومبرغ.
بدأ تراجع مكانة البورصة قبل "بريكست" بفترة طويلة، حيث أدت جائحة كورونا وأزمة الإنتاجية المتفاقمة لدفع أداء اقتصاد المملكة المتحدة إلى التباطؤ، مقارنةً بالدول المتقدمة الأخرى في مجموعة الدول السبع.
فالشركات البريطانية نقلت إدراجاتها إلى بورصات أخرى مثل "نيويورك"، بعد تراجع رأس المال السوقي وفشل الطروحات، اختفت الإدراجات الجديدة تماماً من بورصة لندن في مطلع 2023، فيما جرى تداول أسهم 3 شركات صغيرة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام، وجمعوا 14 مليون دولار، ما يجعله الفصل الأسوأ في البورصة منذ 2009 على الأقل. وكان ضعف الأداء واضحاً، حتى في إطار التراجع العالمي في الطروحات الأولية.
من الواضح أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أجبر البنوك على تعزيز حضورها في المراكز المالية الأوروبية المنافسة، مثل باريس أو أمستردام أو فرانكفورت. لم يعُد يُنظر إلى بورصة لندن على أنها محل الإدراج المفضل في أوروبا، إذ اختارت بعض الشركات أمستردام، بفضل البيئة التنظيمية الأكثر تشجيعاً.
جذور الأزمة تعود لعقود، وسببها العجز المزمن وإهمال الصناعة والمراهنة على الأجانب
الجنيه الإسترليني كان في انخفاض مستمر على مدى القرن الماضي، بالتزامن مع تآكل مكانته كعملة رئيسية في التجارة العالمية، وتراجع نسب احتياطيات البنك المركزي البريطاني.
ثم وجه التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016 ضربة قاصمة أخرى للجنيه الإسترليني، ما أدى إلى مقارنات احتلت العناوين الرئيسية بين الجنيه الإسترليني وعملات الأسواق الناشئة المحفوفة بالمخاطر.
كما أن الجنيه الإسترليني ضعيف أيضاً بسبب العجز المتزايد باستمرار، الذي جعل البلاد تعتمد على ما وصفه محافظ بنك إنجلترا السابق مارك كارني بأنه "لطف الغرباء"، أو دور المستثمرين الأجانب لسد فجوات التمويل.
وتضخم عجز الحساب الجاري في المملكة المتحدة، وهو مقياس واسع لتدفقات التجارة والدخل (الفارق بين تدفقات النقد الأجنبي من وإلى البلاد)، وصل إلى مستوى قياسي بلغ 8.3% من الناتج المحلي الإجمالي، في الربع الأول من العام الماضي، ويرجع ذلك جزئياً إلى ارتفاع تكلفة واردات الوقود.
بريطانيا تبدد ثروتها التي اكتسبتها عبر استعمار العالم لقرون
قامت مكانة بريطانيا الاقتصادية التي مازالت تسمى عظمى، على ثلاث نقاط: الأولى تقدمها التكنولوجي، حيث سبقت العالم في صنع المحرك البخاري، وغيرها من إنجازات الثورة الصناعية، إضافة لاتباع الأسلوب العلمي في التخطيط، بما في ذلك اختراق الدول والشعوب، تمهيداً لاستعمارها، وجعل نخبها مرتبطة بلندن حتى بعد الاستقلال.
الثانية: قوتها العسكرية التي استندت لخليط من التكنولوجيا المتقدمة، والانضباط والبراغماتية، بما في ذلك تجنيد شعوب البلدان التي تحتلها في جيوشها، مثل أيرلندا والهند، ليموتوا من أجل مصالح التجار البريطانيين.
وأخيراً تجارة واسعة مع العالم، بُنيت عبر قوة أسطولها، وتقدم مؤسساتها المالية بهدف خدمة مدينة لندن، وجعلها مركز التجارة العالمية، بحيث تصبح بريطانيا متجر ومصنع العالم، فتستورد منه المواد الخام وتصنعها وتعيد تصديرها لدول أخرى محققة أرباحاً فاحشة.
ولكن نقاط القوى الثلاث هذه تزعزت، فمازالت بريطانيا دولة صناعية متقدمة، ولكن ليست الأكبر ولا الأكثر تقدماً، فألمانيا تفوق بمراحل عدة في صناعة السيارات على مستوى أوروبا، وأغلب مصانع السيارات العاملة في بريطانيا تابعة لشركات أجنبية، فشركاتها الشهيرة المعروفة بتصنيع سيارات الأثرياء مملوكة للألمان مثل Rolls Royce وبنتلي أو للهنود مثل جاكور ولاندروفر المملوكة لمجموعة TATA.
في صناعة التكنولوجيا مازال لبريطانيا دور، خاصة في التصميم والابتكار، ولكن ثقل الصناعة مازال يتركز في الولايات المتحدة، مع انتقال بعض أجزائها إلى آسيا، وتحديداً في اليابان وكوريا وتايوان والصين.
أما بالنسبة للقوة العسكرية، فمازالت بريطانيا لديها واحد من أقوى جيوش العالم، قد يمكن اعتباره الخامس بعد الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند، وينافس فرنسا.
ولكنه أصبح جيشاً صغيراً حتى لو كان متقدماً وكفئاً، ما جعله مستشاراً جيداً لأمريكا وحلفائها في أحسن الأحوال.
غير أنه لا يستطيع أن يفرض هيمنة لندن الخارجية، إلا إذا كان ذلك تحت جناح جيش الولايات المتحدة التي تبدو بريطانيا كمساعد متوسط الحجم لها، أو أكبر ولاية أمريكية دون التمتع بكل ميزات هذه التبعية لواشنطن التي مازالت مترددة في مجرد إبرام اتفاق للتجارة الحرة مع المملكة المتحدة، حتى بعد أن خرجت الأخيرة من الاتحاد الأوروبي.
ولا يبدو أن بريطانيا تستفيد كثيراً من تبرعها بحمل لواء نشر النفوذ والأيديولوجية الأمريكية، عبر تحريض الغرب على الابتعاد عن الصين.
كما تقود المملكة المتحدة الجبهة الأوروبية الداعمة لأوكرانيا مع قيامها بدور محوري في الحصار الغربي لروسيا، حتى لو تسبب ذلك في فقدان لندن لسمعتها كملاء آمن للأثرياء المترفين سيئي السمعة، بعد أن صادرت أموال المليارديرات الروس، دون وجود دليل على أنهم داعمون لحرب بوتين على أوكرانيا.
يتداخل كل ما سبق مع نخبة سياسية لا تختلف كثيراً في انتهازيتها، عن نخب بريطانيا الاستعمارية القديمة، ولكنها تفتقد الكفاءة التي جعلت المملكة المتحدة تصمد أمام جيوش هتلر، وتجذب بمكر أمريكا لصفها في الحرب العالمية الثانية، مثلما فعل رئيس وزراء بريطانيا الأشهر ونستون تشرشل.
وبعدما أصبحت بريطانيا دولة أوروبية متوسطة القوة والثراء خلال العقود الماضية، لم يتبق لها سوى سمعتها القديمة كمركز للعولمة والرأسمالية المالية العالمية، وهي سمعة ضحت بريطانيا في سبيلها بمقومات التصنيع والإنتاج، ولجأت إلى سياسات ليبرالية لجذب الأموال عبر تخفيض الضرائب، ما جعلها صاحبة واحدة من أكبر الفجوات بين الأغنياء والأثرياء بين الدول الأوروبية الغنية، الأمر الذي أضر طبقاتها الفقيرة.
ولكن الرغبة في الاستمرار كمركز لصناعة الخدمات والسياحة والتجارة لا تتسق مع الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ثاني أكبر كتلة مالية وصناعية في العالم، أو محاولة محاصرة الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، أو اضطهاد الأثرياء الروس، أو معاقبة مدينة لندن للدول العربية النفطية، لأنها ترفض الإباحية الغربية.
وهكذا تدفع بريطانيا ثمن رهاناتها الخاسرة، ورغبتها غير المعقولة في أن تكون منفتحة تجارياً مع الانفصال عن أوروبا وتبعية دون شروط لأمريكا، والعداء دون مكسب يذكر مع الصين وروسيا.
وها هي تستنزف بريطانيا، التي كانت عظمى، رصيدَها القديم الذي جنته من استعمارها لمناطق واسعة من العالم.