"الدولار يساوي 1.5 مليون ليرة تركية، واعتقال مئات الآلاف، ورئيس الجمهورية يقذف حرفياً بـ(كتاب) تجاه رئيس الوزراء". هذا كان حال تركيا بالتسعينيات والثمانينيات في ظل النظام البرلماني المختلط الذي تريد المعارضة التركية إعادته عبر تأسيس كيان يشبه مجلس رئاسي، يضم كثيراً من الأحزاب وبعض الشخصيات التي تسببت في وصول تركيا لهذه المأساة التي وقعت عام 2001.
وأثار مقترح المعارضة التركية إلغاء النظام الرئاسي والعودة للنظام البرلماني قلق كثير من الأتراك؛ بعدما استذكروا عقوداً من الأزمات وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي عاشتها البلاد في ظل هذا النظام.
وأعلن التحالف المعارض في تركيا "الطاولة السداسية"، والذي يتكون من 6 أحزاب، ويقوده حزب الشعب الجمهوري، أنه سيلغي النظام الرئاسي الذي تحولت له تركيا عام 2018.
ولكن المثير للدهشة أنه يتعهد بوضع فترة انتقالية سيكون فيها رؤساء الأحزاب الخمسة الأخرى نواباً لرئيس الجمهورية، وسيتم تعيين وإقالة الوزراء من خلال التشاور مع رؤساء الأحزاب التي يتبع لها الوزراء، وسيستخدم رئيس الجمهورية سلطته التنفيذية خلال المرحلة الانتقالية وفقاً لمبادئ المشاركة والتشاور والإجماع، وهو أمر يستحيل تحقيقه؛ في ظل حقيقة أن الأحزاب المشاركة في التحالف لا يجمع بينها سوى معارضة الرئيس رجب طيب أردوغان، فهي تتنوع بين المكون العلماني واليسار الراديكالي والإسلامي المحافظ وصولاً إلى اليمين شبه المتطرف.
ويذكّر المقترح بمجلس الحكم الانتقالي الذي أسسه الأمريكيون بعد غزوهم للعراق، ولقد علق أردوغان قائلاً "إن الدول لا تدار هكذا".
النظام البرلماني المختلط تسبب في مشاكل خطيرة بعديد من دول العالم
عادةً تنقسم النظم السياسية إلى النظام الرئاسي، وهو نظام تكون فيه السلطات التنفيذية بيد الرئيس والتشريعية في يد البرلمان وضمن ذلك إقرار الميزانية، مثل الولايات المتحدة.
وهناك النظام البرلماني، حيث يكاد يكون دور الرئيس (أو الملك) شرفياً تماماً، ويشكل رئيس الحزب الفائز بالأغلبية في الانتخابات الحكومة ويستمد قوته من سيطرته على حزبه مثل بريطانيا، ولكن في حال إخفاق الحزب الأكبر في نيل الأغلبية، تدخل الدول متاهة من الائتلافات الهشة التي تُخضع رئيس أقوى حزب لمساومات أحزاب صغيرة، كما تتكرر وتيرة انهيار الحكومات الائتلافية بشكل يضر بالاستقرار مثلما حدث في تركيا من قبل وإيطاليا، التي تشكلت فيها نحو 50 حكومة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى مطلع القرن الواحد والعشرين.
وهناك النظام المختلط الذي يوجد به رئيس جمهورية بسلطات ورئيس وزراء بسلطات أخرى، مع وجود مساحة مشتركة غامضة عادة بين بعض سلطاتهما.
أما النظام السابق في تركيا، فيمكن وصفه بنظام برلماني شبه مختلط أو نظام برلماني ذي رأسين، لأن السلطة التنفيذية الأساسية فيه لرئيس الوزراء ولمجلس الوزراء، ولكن رئيس الجمهورية ليس منصباً شرفياً كما هو الحال في النظم البرلمانية الصرفة.
إليك تجارب للنظم البرلمانية ذات الرأسين
تعد تجربة النظام البرلماني ذي الرأسين- أي أن تكون السلطة الرئيسية في يد رئيس الوزراء مع بعض السلطات لرئيس الجمهورية بالتداخل مع تشظي البرلمان بين الأحزاب، (عدم وجود الأغلبية مع حزب أو تحالف متماسك)- وصفة عالمية للائتلافات الهشة، التي تتسم بعدم الاستقرار، والأخطر تنازع الصلاحيات.
فمع اضطرار رؤساء الوزراء إلى تقديم تنازلات للأحزاب لتشكيل أو استمرار الائتلاف البرلمانية في الحكم، يكون ذلك جواز مرور للفساد (أو السكوت عنه في أفضل الأحوال)، ويقترن ذلك عادة بصراعات محتملة بين رئيس الوزراء المستند إلى أغلبيته البرلمانية الهشة عادة، ورئيس الجمهورية المستند إلى بعض السلطات الدستورية وهيبة المنصب وسخط الناس من السياسيين المتنازعين.
في كثير من الدول أدى ذلك إلى انقسامات أو حتى حروب أهلية أو انقلاب رئاسي أو انهيار اقتصادي أو شلل سياسي في أحسن الأحوال.
فجزء من ضعف الأداء الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية كان بسبب الطابع الضعيف لحكوماتها البرلمانية الائتلافية وغياب رئيس قوي؛ وهو ما دفع شارل ديغول الذي قاد قوات فرنسا الحرة إلى إدخال إصلاحات دستورية لتعزيز سلطات الرئيس، ولكن ذلك خلق نظاماً برلمانياً مختلطاً، قد لا توجد به مشكلة إذا كان الرئيس ورئيس الوزراء من حزب واحد أو متقاربين مثل حالة الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون حالياً.
ولكن في حال ما كان رئيس الوزراء من حزب معارض للرئيس تأتي المشاكل.
فلقد شهدت دولة عريقة مثل فرنسا خلافات حادة ومحرجة بين رئيس الجمهورية الديغولي اليميني القوي جاك شيراك ورئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان (الذي نافسه بعد ذلك على الرئاسة).
كما كانت أزمات أوكرانيا منذ استقلالها عن الاتحاد السوفييتي تتفاقم في كثير من الأوقات، بسبب وجود رئيس وزراء بسلطات تنفيذية ومعه دعم برلماني ورئيس جمهورية بسلطات منافسة، وكثيرًا ما كان أحدهما موالياً لروسيا والآخر للغرب. تكرر الأمر في بلدان مثل لبنان والسلطة الفلسطينية (عباس الفتحاوي رئيساً) وإسماعيل هنية المنتمي إلى "حماس" رئيساً للوزراء، لبنان (رفيق الحريري الموالي للسعودية رئيساً للحكومة ضد الرئيس إميل لحود الموالي لسوريا).
وتتبع تونس هذا النمط، حيث تكررت الخلافات بين الرئيس ورئيس الوزراء مراراً، رغم أنه في كثير من الأحيان يكون الأخير من اختيار الرئيس، حدث هذا في عهد الرئيس الراحل قايد السبسي، والرئيس الحالي قيس سعيد الذي اختار بنفسه رئيس الوزراء السابق هشام المشيشي ثم عزله بشكل غير قانوني وحل البرلمان التونسي بالمخالفة للدستور، وأنهى الديمقراطية التونسية وتوشك البلاد على الإفلاس في ظل رفضها شروط صندوق النقد للحصول على قرض، وغياب بدائل.
ورغم أن الدول السابقة أغلبها دول ضعيفة أو منقسمة بطبيعتها أو مخترقة خارجياً، فإن النظام البرلماني ذا الرأسين كان بمثابة قناة شرعية لتأجيج الانقسامات.
النظام السابق بتركيا ساعد على حدوث الانقلاب واحتراب السياسيين في الشوارع
وحتى تركيا، التي تعد من أوائل الدول الدستورية في العالم الإسلامي ولديها مؤسسات قوية ونزعة قومية حادة، عانت كثيراً على مدار عقود من النظام البرلماني المتشظي حزبياً والذي تسوده خلافات ومساومات لا تنتهي بين الأحزاب، والأخطر بين رئيس الوزراء والرؤساء.
تعرضت تركيا لانقلاب عسكري في عام 1971، أطاح بحكومة رئيس الوزراء السابق سليمان ديميريل، وفرض حكومات تكنوقراط دون حل الأحزاب، وبعد عودة الديمقراطية لتركيا عام 1973، وحتى أوائل الثمانينات، حُكمت البلاد بشكل رئيسي من قبل حكومات ائتلافية ضعيفة تعتمد على دعم الأحزاب الصغيرة، بما في ذلك المتطرفون اليمينيون واليساريون، وفقًا لموسوعة Britannica.
رفض هؤلاء المتطرفون الموافقة على أية إجراءات من شأنها كبح جماح عنفهم، وأدخلوا مؤيديهم إلى مؤسسات الدولة. ارتفع عدد القتلى السنوي من العنف السياسي من 34 في عام 1975 إلى نحو 1500 قبل الانقلاب العسكري في سبتمبر/أيلول 1980، حسب Britannica.
في انتخابات عام 1973، شكَّل حزب الشعب الجمهوري واحدة من أغرب حكومات تركيا، حيث أبرم اتفاقاً لتشكيل ائتلاف حكومي مع حزب الإنقاذ الوطني، الذي تأسس في عام 1972 خلفاً للحزب الوطني المحظور بقيادة القيادي الإسلامي البارز نجم الدين أربكان، الذي نجح رغم حظر الأحزاب الدينية.
في انتخابات عام 1977، برز حزب الشعب الجمهوري مرة أخرى كأكبر حزب، متغلباً على حزب العدالة الذي يقوده رئيس الوزراء السابق سليمان ديميريل (رئيس البلاد لاحقاً)، لكن الأحزاب الصغيرة ظلت تحتفظ بتوازن القوى في المجلس، شكَّل ديميريل حكومة ائتلافية غير فعالة، ثم انهارت هذه الحكومة، تلتها عام 1978 حكومة أقل فعالية من قبل تحالف تحت قيادة بولنت أجاويد رئيس حزب الشعب الجمهوري. نما التضخم والبطالة والعجز التجاري والعنف السياسي بسرعة. ضعف الاقتصاد بشكل خطير بسبب ارتفاع أسعار النفط العالمية وانخفاض تحويلات العمال الأتراك في الخارج. استقال أجاويد في عام 1979، وشكل ديميريل حكومة أقلية من حزب العدالة، ولكن تواصل التضخم والبطالة والعجز التجاري والعنف السياسي بسرعة، ليعود الجيش للساحة.
كانت البلاد قد شهدت انقساماً حاداً بين اليمينيين واليساريين وصل للعنف المتبادل في الشوارع.
وتفاقمت الأوضاع جراء الاعتداءات على العلويين في مدينة كهرمان مرعش نهاية عام 1978، والتي أدت إلى مقتل 105 أشخاص.
في 12 سبتمبر/أيلول 1980، نفذت القيادة العليا للجيش التركي بقيادة الجنرال كنعان إيفرين انقلاباً، وهو ثالث تدخل للجيش خلال 20 عاماً.
كان هذا الانقلاب مدعوماً من الولايات المتحدة الأمريكية، التي صرّح مسؤولون فيها عقب الانقلاب قائلين: "نجح أولادنا في ذلك"، حسبما ورد في تقرير لوكالة أنباء تركيا.
زعم الانقلابيون حينئذ أن الانقلاب العسكري يهدف إلى "الحفاظ" على المبادئ الأساسية التي وضعها مصطفى كمال أتاتورك لتركيا والتي تعرف بـ(الفكر الكمالي)، إضافة إلى مواجهة ما سمته "الإرهاب" الشيوعي والديني المتزمت، بحسب البيان العسكري الأول الذي أصدره عقب الانقلاب.
وأعلن الانقلابيون عبر مجلس الأمن إقالة حكومة ديميريل للمرة الثانية وإلغاء البرلمان وتعليق العمل بالدستور واعتقال قادة الأحزاب السياسية اليمينية واليسارية، مع نفي ديميرل وعدد من الشخصيات السياسية منهم أجاويد ونجم الدين أربكان وألب أرسلان توركش والذين منعوا من العمل السياسي 10 سنوات، ثم أعلنوا حالة الطوارئ.
وتم إعدام 50 شخصاً، واعتقال نصف مليون، واختفى كثيرون آخرون خلال ثلاث سنوات من الحكم العسكري، حسب تقرير لموقع دويتش فيليه الألماني.
وتم طرد 30 ألف موظف من أعمالهم، وسحبت الجنسية من 14 ألف مواطن، وقدّر عدد الضحايا المقتولين في ظروف غامضة بـ300 شخص، وآخرون قضوا نحبهم تحت التعذيب، حسب تقرير لموقع "الجزيرة.نت.
الجيش نظم انتخابات واختار الحزبين الفائزين ولكن الشارع فضّل أوزال الرأسمالي المتسامح مع الإسلاميين
قدم إيفرين دستوراً للاستفتاء الشعبي في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1982، وأصبح رسمياً الرئيس السابع للبلاد بعدها بيومين، وسمح بتشكيل الأحزاب السياسية بشرط موافقة مجلس الأمن، حيث كانت هناك سيطرة محكمة على الأحزاب والصحافة والنقابات العمالية.
أُجريت الانتخابات الأولى بموجب الدستور الجديد في عام 1983 وكانت خيبة أمل للجيش، الذي كان يهدف إلى أن يسيطر حزبان- الحزب الوطني الديمقراطي من يمين الوسط (NDP) وحزب يسار الوسط الشعبي (PP)- على البرلمان الجديد.
وبدلاً من ذلك، ظهر حزب الوطن الأم، باعتباره الفائز الواضح، حيث حصل على أكثر من نصف المقاعد، وهو الحزب الذي أسسه عام 1983، تورغوت أوزال (سيصبح رئيساً لاحقاً)، والذي يعد واحداً من أهم الشخصيات في تاريخ تركيا الحديث
ثم تشكل ائتلاف غير متجانس من الجماعات الليبرالية والقومية والديمقراطية الاجتماعية والإسلامية، يدين بنجاحه إلى عدم استعداد الأتراك لقبول وصفة الجيش للحكومة، ولسمعة زعيم الائتلاف تورغوت أوزال الجيدة، الذي أصبح رئيساً للوزراء بينما الجنرال كنعان إيفرين قائد الانقلاب رئيساً للجمهورية.
كانت سلطة أوزال تتعلق بالأساس بالقضايا الاقتصادية، وكان مسؤولاً عن برنامج الاستقرار الناجح الذي تم تنفيذه
وخلال حكمه أظهر أوزال تعاطفاً شديداً مع النشاطات الإسلامية، لكنه نفى وجود حركة إسلامية منظمة في تركيا ليقلل من مخاوف الجيش والأوساط العلمانية.
وازدهر الاقتصاد في عهده وتولى الرئاسة
تحت قيادة أوزال، حققت سياسة تركيا الاقتصادية- القائمة على إزالة قيود الدولة على الاقتصاد، وتشجيع التجارة الخارجية، والاعتماد على مبادئ السوق الحرة- نجاحاً كبيراً، وساعدها انخفاض أسعار النفط العالمية والفرص التي أوجدتها الحرب العراقية الإيرانية وانخفاض معدل التضخم، وكان النمو الاقتصادي قوياً.
ولكن بعد عام 1987، تدهور الوضع الاقتصادي نتيجة الركود العالمي في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات.
نجا أوزال سنة 1988 من محاولة اغتيال في مؤتمر حزبي. وفي عام 1989 أصبح الرئيس التاسع في تاريخ الجمهورية التركية، وظل في هذا المنصب حتى العام 1993 وهو تاريخ وفاته.
خلافات بين الرئيس أوزال ورئيس الوزراء ديميريل
ثم هُزِم حزب الوطن الأم الذي أسسه أوزال في انتخابات عام 1991، وبرز حزب الطريق القويم، الذي كان سليمان ديميرل الشخصية المركزية به.
لم تكن الحكومة الائتلافية بين حزبي أوزال وديميريل ممكنة؛ فشكّل حزب الطريق القويم حكومة ائتلافية مع ثالث أكبر حزب، الحزب الاشتراكي الديمقراطي الاجتماعي.
لكن عدم وجود توافق سياسي جعل من الصعب معالجة المشاكل الاقتصادية والسياسية، إضافة إلى الحرب الكردية المستمرة، كان هناك تجدد للعنف السياسي من قبل اليمين واليسار الراديكاليين.
بعد وفاة أوزال في عام 1993، تم انتخاب ديميريل رئيساً، أصبحت تانسون تشيلر، وهي اقتصادية ليبرالية، أول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في تركيا. شددت تشيلر على سرعة الخصخصة الاقتصادية وتوثيق الروابط مع الاتحاد الأوروبي.
ولكن انهارت حكومتها الائتلافية في سبتمبر/أيلول 1995 عندما انسحب الحزب الديمقراطي الاجتماعي من الحكومة بعد انقسامات داخلية.
أجريت انتخابات في عام 1995 أدت إلى صعود حزب الرفاه الإسلامي بقيادة نجم الدين أربكان، ولكنه أخفق في إيجاد شريك لتشكيل الحكومة.
وفي مارس/آذار 1996، تم تشكيل حكومة ائتلافية تعتمد على حزبي الطريق القويم والوطن الأم مدعومة من يسار الوسط. واتفق رأسا الحكومة مسعود يلمظ وتنسون شيلر، على تقاسم رئاسة الوزراء. ولكن سرعان ما انهارت.
في يونيو/حزيران 1996، شكل حزب الرفاه الإسلامي بقيادة أربكان حكومة ائتلافية لم تدم طويلاً بعد أن عارضها العلمانيون والقوات المسلحة، فيما يمكن تسميته بالانقلاب الرابع، بحلول منتصف عام 1997، خلف يلمظ أربكان مجدداً.
ومع ذلك، بعد عامين، انهار تحالف حزب الوطن الأم جزئياً بسبب الدعم الشعبي الواسع لأربكان. وتسببت التوترات الإضافية في إحداث الفوضى بالحكومة.
ثم تولى السلطة حزب اليسار الديمقراطي بقيادة أجاويد زعيم حزب الشعب السابق
الزلزال يكشف مشكلات النخبة القديمة
في أواخر عام 1999، دمر زلزالٌ غرب البلاد، مخلفاً عشرات الآلاف من القتلى وتدمير آلاف المباني، خاصة في المناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية مثل إسطنبول، وترك آثاراً اقتصادية كبيرة وسط شكاوى كبيرة من إخفاقات في عملية الإنقاذ عكس الزلزال الحالي.
ومهدت كل هذه الأحداث لوقوع أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخ تركيا الحديث وهي أزمة 2001 التي أدت إلى انهيار سوق الأوراق المالية والليرة التركية نتيجة المشاكل السياسية والاقتصادية التي كانت تعاني منها البلاد منذ سنوات.
أسباب أزمة تركيا الاقتصادية المروعة التي وقعت في 2001
قبل الأزمة كانت الحكومة تعاني بالفعل من عجز هائل في الميزانية، وكانت إحدى الطرق لسد العجز بيع كميات ضخمة من السندات عالية الفائدة إلى البنوك التركية. ولكن استمر التضخم (على الأرجح نتيجة التدفق الهائل لرأس المال الأجنبي إلى تركيا) نتيجة لذلك، أصبحت البنوك التركية تعتمد على هذه السندات ذات العائد المرتفع كاستثمار أولي.
ومع استمرار العجز وتراجع جاذبية الأوراق المالية الحكومية، كان البنك المركزي يرفع الفائدة لجذب المستثمرين وخفض التضخم، كما نصح الاقتصاديون الدوليون الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، ولكن ما حدث هو أن التضخم استمر مع تفاقم عبء الدين الحكومي من جراء رفع الفائدة.
الائتلافات الحاكمة تزيد من الأزمة الاقتصادية
أدت الخلافات السياسية وتدخل الجيش إلى صعوبة تشكيل الائتلافات وسرعة انهيارها. إضافة إلى ذلك، كانت هناك مشكلة الفساد التي كان أحد أسبابها في تركيا صعوبة مطاردة الفاسدين، بسبب مصالحهم السياسية التي تؤثر على الأحزاب المشاركة في الائتلافات الحكومية أو لأن لديهم علاقة بالجيش.
وأدى المشهد السياسي غير المستقر إلى خروج العديد من المستثمرين الأجانب من البلاد. كما لاحظ المستثمرون الأجانب الاضطرابات السياسية ومحاولات الحكومة المتعثرة لمعالجة عجز الميزانية، فقاموا بسحب 70 مليار دولار من رأس المال من البلاد في غضون أشهر.
الفائدة تصل إلى 100%
بحلول نهاية عام 1999، تقلص اقتصاد البلاد بنسبة 6.1%، ووصل معدل التضخم (مؤشر أسعار الجملة – TEFE) إلى 70%، ونما عجز الميزانية بشكل كبير مع متوسط المعدل السنوي المركب لفائدة الخزانة 106%، حسب دراسة بعنوان "العوامل التي تسبب الأزمات المالية: حالة تركيا".
في نوفمبر/تشرين الثاني 2000، قدم صندوق النقد الدولي لتركيا قروضاً بقيمة 11.4 مليار دولار، وباعت الحكومة العديد من الصناعات المملوكة للدولة؛ في محاولة لتحقيق التوازن في الميزانية.
كانت هناك بطالة هائلة، ونقص في الأدوية، وشح الائتمان، وبطء الإنتاج وزيادة الضرائب. ولم تسفر جهود الاستقرار حتى عام 2000 عن أي آثار ذات مغزى، وكان يُنظر إلى قرض صندوق النقد الدولي على نطاق واسع على أنه غير كاف.
رئيس الوزراء يزيد الطين بلة ويصل بالفائدة إلى 1000%
في 19 فبراير/شباط 2001، خرج رئيس الوزراء بولنت أجاويد، من لقاء مع الرئيس أحمد نجدت سيزار قائلاً: "هذه أزمة خطيرة، وقد سلط هذا الضوءَ على عدم الاستقرار المالي والسياسي، وأدى إلى مزيد من الذعر في الأسواق".
تراجعت الأسهم ووصل سعر الفائدة إلى 1000% ثم 3000%.
تم استبدال كميات كبيرة من الليرة التركية بالدولار الأمريكي أو اليورو، مما تسبب في خسارة البنك المركزي التركي 5 مليارات دولار من احتياطياته، وانهارت العملة المحلية، إذ بلغ الدولار مليون ونصف ليرة، لتصبح أدنى عملة في العالم في ذلك الوقت.
وتؤكد كثير من الدراسات أنه كان يمكن تجنب هذه الأزمة لولا أخطاء السياسيين ومشكلاتهم، والتشرذم الذي ميز النظام السياسي في البلاد والقائم على حكومات ائتلافية يقودها رئيس وزراء يفترض أنه بسلطات قوية ولكنه مكبل بإرضاء الأحزاب المشاركة في حكومته من ناحية، ورئيس جمهورية ببعض السلطات التي قد تتداخل مع سلطته، وجيش يراقب الحكومة ويوجهها وقد يجبرها على الاستقالة، ولا يتحمل مسؤولية الحكم في الوقت ذاته.
الرئيس ورئيس الوزراء يتقاذفان بالدستور حرفياً، رغم أن كليهما بعيدان عن شبهات الفساد!
"تركيا تعاني مع استمرار القتال الداخلي"، كان هذا عنوان تقرير لصحيفة the Guardian البريطانية في 21 فبراير/شباط 2001، رصد النزاع في الصلاحيات بين الرئيس التركي في ذلك الوقت أحمد نجدت سيزار ورئيس الوزراء بولنت أجاويد، والذي وصل لمشادة بين الرجلين مع إقرار التقرير بأن الرجلين غير فاسدين.
وأشار التقرير إلى أن الخلاف أدى إلى تفاقم الأزمة المالية وسلط الضوء على التحدي الأكبر الذي يواجه البلاد في ذلك الوقت، وهو كيفية التعامل مع شبكة الفساد التي شكلت تركيا لجيل كامل.
في ذلك الوقت، انسحب رئيس الوزراء التركي، بولنت أجاويد، من اجتماع لمجلس الأمن القومي، قائلاً إنه تعرض للإهانة من قبل الرئيس أحمد نجدت سيزار.
كان سيزار يوبخ الحكومة لتحقيقها في مزاعم الفساد ببطء شديد. وبحسب ما ورد قال لرئيس الوزراء: "أنت جالس على الوحل. يمكنني تنظيفه إذا كنت لن تفعل ذلك، لماذا تخافون من تحقيقات الفساد؟".
حسب التقرير تبادل الرجلان نسخة من الدستور ذهاباً وإياباً على طاولة الاجتماع قبل انسحاب السيد أجاويد وأعضاء حكومته، ثم ظهر رئيس وزراء غاضباً على التلفزيون الوطني للحديث عن أزمة سياسية خطيرة.
زعمت تقارير أخرى أن الرئيس ألقى بنسخة من الدستور تجاه رئيس الوزراء.
اعتقدت الأسواق أن الحكومة على وشك الاستقالة. في غضون دقائق انهارت الأسهم وتم بيع عدة مليارات أخرى من احتياطيات النقد الأجنبي للبنك المركزي.
المشادة بين الرجلين سببها خلاف حول الكيفية التي يجب أن يعمل بها نظام الدولة.
فلقد أعاد الرئيس سيزار تنشيط مجلس تفتيش حكومي نادراً ما يستخدم للتحقيق في النهب السياسي للبنوك العامة على مدار العقد الماضي. كان أجاويد قد عين محققين بالفعل، وهو غاضب من أن الرئيس يبدو أنه ينازعه صلاحيته.
ويتمتع كلا الرجلين بسمعة طيبة فيما يتعلق بالنزاهة، ولكن اعتقد أجاويد أن نزاهته قد تعرضت للتشكيك بسبب انتقادات الرئيس، حسب الصحيفة البريطانية
علقت الصحيفة بأنه إذا سمح اجاويد بحملة واسعة النطاق لمكافحة الفساد، فقد يضحي بالاستقرار السياسي اللازم للمضي قدماً في الإصلاحات الاقتصادية
ويقول المشككون إنه ما دام الحرس القديم يحقق في نفسه، فلن يتحقق أي شيء يدوم.
وتقول الصحيفة إنه "بغض النظر عن المسؤول عن الأزمة في ذلك الوقت، كان هناك اعتقاد شائع في تركيا بأن الأمور لا يمكن أن تظل كما هي. لكن تغيير النظام سيكون مهمة ضخمة".
وقال متين مني، صحفي مالي بارز في ذلك الوقت: "لقد أكل الفساد كل شيء. إنه مثل المرض، وتركيا لا تستطيع تحمله بعد الآن".
وتختم الصحيفة تقريرها المنشور في عام 2001، قبل تولي حزب العدالة الحكم بسنة واحدة، بالقول: "يبدو الأتراك أكثر كآبة من أي وقت مضى بشأن مستقبل بلادهم".