كان أحد الشعارات الأكثر شعبية في الاحتجاجات الإسرائيلية على التعديلات القضائية المثيرة للجدل: "لا نريد أن نصبح بولندا"، فهل فات أوان منع تحول إسرائيل من السير على خطى بولندا؟
وتعيش إسرائيل حالةً من التوتر الداخلي وتظاهرات غير مسبوقة في الأسابيع الماضية، تنذر بوقوع حرب أهلية، على خلفية التعديلات القضائية التي يريد نتنياهو وحلفاؤه في الحكومة إيتمار بن غفير وزير الأمن الداخلي، وبتسلئيل سموتريتش وزير المالية، وياريف ليفين وزير العدل تمريرها.
لكن مع تصعيد المعارضة ووصول الانقسامات إلى صفوف جيش الاحتلال وقياداته، وإقالة وزير الدفاع يوآف غالانت بعد تعبيره علناً عن رفض التعديلات القضائية، اتخذ نتنياهو خطوة إلى الوراء، وأعلن عن تأجيل التصويت في الكنيست على تلك التعديلات.
وكان متوقعاً أن تؤدي الخطوة التصالحية من جانب رئيس الوزراء بتأجيل التعديلات القضائية إلى تهدئة الخواطر ولو قليلاً، لكن لماذا لم تتوقف الاحتجاجات في إسرائيل؟ كلمة السر هي "فقدان الثقة" في نتنياهو وحكومته. هذا هو الرأي السائد في الإعلام الإسرائيلي، وهذا ما عبّرت عنه صحيفة Haaretz في تحليل لها بعنوان "لماذا تتواصل الاحتجاجات في إسرائيل؟ لأنَّ أحداً لم يعد يثق بنتنياهو".
"لا نريد أن نصبح بولندا"
موقع Middle East Eye البريطاني نشر تحليلاً يرصد التشابه الكبير بين ما تشهده إسرائيل هذه الأيام وما شهدته بولندا قبل سنوات، فهل فات أوان محاولات الإسرائيليين الذين يريدون منع تحول بلدهم إلى بولندا؟
كان نائب وزير الخارجية البولندي، باول جابلونسكي، فاجأ الإسرائيليين والبولنديين يوم 27 مارس/آذار، حين قال لمحطة إذاعية بولندية إن حكومته تقدم المشورة لإسرائيل عن كيفية التعامل مع الاحتجاجات على الإصلاحات القضائية الشاملة.
وقال: "الإسرائيليون سألونا عن ذلك. وأنا أقول الحقيقة بصدق، إسرائيل كانت مهتمة بما حدث في بولندا، ونحن مهتمون بمعرفة ما يحدث في إسرائيل".
وبالنظر إلى ردود الفعل في وسائل الإعلام وعلى الإنترنت، فاجأ تصريح جابلونسكي البولنديين أكثر مما فاجأ الإسرائيليين. فللشعب البولندي، كان هذا كشفاً صريحاً من حكومته بأن "النظام القضائي في البلاد فاسد"، على حد تعبير أحدهم على موقع تويتر. أما الإسرائيليون فحصلوا على تأكيد رسمي بما يعرفونه: إسرائيل ستصبح مثل بولندا، وبكل الآثار المترتبة على ذلك.
بولندا.. العودة إلى الاستبداد
في ظرف سنوات قليلة فقط، اقتربت الديمقراطية التي فازت بها بولندا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أكثر فأكثر من الاستبداد، وتحتل الآن المرتبة 49 في مؤشر الحرية، بعد ألبانيا ومنغوليا. وكان السبب الرئيسي في هذا التراجع القيود المفروضة على الحقوق الأساسية.
على أن حزب القانون والعدالة الحاكم (PiS) يرى أنه رفع مستوى الديمقراطية البولندية بإعادة التوازن إلى المشهد الإعلامي، الذي كانت تهيمن عليه في السابق الوسائل الإعلامية ذات الميول الليبرالية، وبتحويل المؤسسات الرئيسية مثل المحكمة الدستورية إلى أجهزة فعالة.
وتستعين الحكومة الإسرائيلية بهذه الحجة نفسها الآن لدعم تعديلاتها القضائية. وحِيَل مثل خفض سن تقاعد القضاة للتخلص من القضاة الأقل امتثالاً، واستبدالهم بقضاة جدد تعيّنهم الحكومة، شبيهة جداً بأسلوب ونوايا التعديلات الإسرائيلية. وكل ذلك ينتج عنه في النهاية تدمير الفصل بين السلطات والسيطرة السياسية على النظام القضائي.
القيم الحاكمة في بولندا وإسرائيل
لم يبدأ هذا التشابه القوي بين إسرائيل وبولندا بالتعديلات القضائية الإسرائيلية الشاملة، لكنه في الواقع تطور تدريجياً منذ أكثر من سبع سنوات، حين وصل حزب القانون والعدالة القومي المحافظ إلى السلطة. وأكد الحزب، بعد أن حل محل الحكومة السابقة العلمانية الليبرالية، التزامه بـ"القيم الكاثوليكية"، وعمل على تعزيز علاقاته بالجناح القومي الراديكالي في الكنيسة البولندية.
ومرة أخرى، يبدو هذا شديد الشبه بالحكومة الإسرائيلية الجديدة، المتمسكة بما تزعم أنها "القيم اليهودية" والتفوق اليهودي. ويتفوق هذا الالتزام على الالتزام بالديمقراطية في كلا البلدين.
ففي البلدين، تبعت التشريعات المحافظة التي لا تحترم الأقليات والنساء هذا الربط بين الدولة والدين. فمثلاً: تخضع النساء البولنديات الآن لقوانين صارمة مناهضة للإجهاض، وفي إسرائيل قد تؤدي التعديلات إلى استبعاد النساء من بعض الأماكن العامة.
وفي بولندا وإسرائيل، تخضع الفنون لرقابة الدولة للحفاظ على الصورة التي تريد كل دولة عرضها، حتى على حساب إعادة كتابة التاريخ. وفي كلتيهما نرى محاولات مستمرة للسيطرة على وسائل الإعلام من خلال الضغط عليها وعلى الصحفيين المعارضين.
وكانت بولندا، التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي عام 2004، تفتخر بريادتها بين الأعضاء الجدد. ولا تزال إسرائيل تفتخر بوصف نفسها بـ"الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".
وعند مواجهتهما أي انتقادات تدعي كلتاهما التحيز والشعور بالإهانة من إساءة فهمهما. في إسرائيل، حيث تُشبَّه التعديلات القضائية بالانقلاب، لا تزال الصور والأحداث المنعكسة عن بولندا تطارد الإسرائيليين والبولنديين، الذين يتابعون إسرائيل الآن عن كثب (وببعض الحسد).
إذ كتب جاسيك أوليجنيك، المتحدث السابق باسم السفارة البولندية في إسرائيل، على فيسبوك: "المجتمع الإسرائيلي يحارب الفاسدين من اليمين المتطرف الذين يحاولون تدمير القضاء وأسس الديمقراطية لحساب مصلحتهم الشخصية. ونحن في بولندا فشلنا في ذلك قبل بضع سنوات".
وكانت أغنيسكا ماجدزياك-ميزيوسكا تشغل منصب سفيرة بولندا لدى إسرائيل بين عامي 2006 و2012. وقدمت بعض النصائح للإسرائيليين بناءً على خبرتها في بولندا. وقالت لموقع Middle East Eye: "لا تستسلموا ولا تسلّموا. حكومتكم تحاول أن تفعل ما فعلته حكومة حزب القانون والعدالة ببولندا".
وأشارت إلى ما ترتب من آثار على تحول وزير العدل البولندي إلى المدعي العام: إقالة أي شخص يعتبرونه خائناً.
وقالت: "حزب القانون والعدالة يتحكم في جميع مؤسسات الدولة، والقانون الجديد يمكّنه من استبدال موظفي الخدمة المدنية الأكفاء بمن هم موالون لهم. هكذا فقدت وظيفتي في وزارة الدفاع".
وقالت أغنيسكا إن استقلال القضاء فكرة مجردة لمعظم البولنديين، لكن العائلات التي يُدفع لها 500 زلوتي (117 دولاراً) شهرياً لكل طفل فائدة ملموسة اشترى بها حزب القانون والعدالة الأصوات.
ووجهت أغنيسكا رسالة للمتظاهرين الإسرائيليين: "أتمنى أن تنتصروا. ففي النهاية ديمقراطيتكم عمرها 75 سنة، أما ديمقراطيتنا فعمرها أقل من 30 عاماً. تحدثوا إلى من لا يزالون غير مهتمين وأروهم كيف ستؤثر هذه التعديلات القضائية على مصير الأشخاص البسطاء بمجرد أن يصبح القضاة معتمدين كلياً على الساسة. أخبروهم كيف سيصبحون عاجزين دون أن يجدوا من يلجأون إليه ليساعدهم. نحن فشلنا في ذلك، على افتراض أن الجميع يفهمون. وكان أكبر خطأ ارتكبناه هو ازدراء المعارضين. فلا تفعلوا ذلك".
مهلة "ملغومة"
كان بنيامين نتنياهو قد أعلن عن تأجيل التصويت على التعديلات القضائية، التي توصف بأنها "انقلاب قضائي"، لمدة شهر تقريباً، لتهدأ قليلاً وبشكل مؤقت الأزمة التي تهدد باندلاع حرب أهلية في إسرائيل، وتعطي رئيس الوزراء فرصة لالتقاط الأنفاس.
وربما يكون قرار تأجيل التعديلات القضائية قد أعطى رئيس وزراء إسرائيل المحنك، وصاحب الخبرة الطويلة هدنة لالتقاط الأنفاس، لكن خيارات نتنياهو ليست متعددة، فإما التراجع نهائياً أو المضي قدماً أو التوصل لحل وسط مع المعارضة.
لكن مئات آلاف الإسرائيليين الذين شاركوا في المسيرات الداعمة للديمقراطية، مساء السبت 1 أبريل/نيسان، أثبتوا أنَّه بالرغم من إعلان بنيامين نتنياهو "تعليق" خطط حكومته لإصلاح القضاء قبل 5 أيام، لا يصدق المحتجون أنَّ رئيس الوزراء وشركاءه بالحكومة الائتلافية تخلوا نهائياً عن فكرة تمرير التعديلات القضائية، التي يصفها المعارضون بأنها "انقلاب قضائي" يهدف إلى إضعاف المحكمة العليا.
فقد خرج المتظاهرون الذين يحتجون منذ أسابيع مرةً أخرى، وازدادت أعدادهم بدافع من الإسرائيليين الذين شاركوا للمرة الأولى، تلهُّفاً ربما للانضمام إلى حراك ناجح. وكما تقول إحدى السيدات اللاتي شاركن في الاحتجاج الداعم للديمقراطية لأول مرة: "أدركتُ أنَّ حفيدتي ستسألني يوماً حول ما إذا كنتُ شاركتُ من أجل حماية حقوقها، وأردتُ أن أتمكَّن من القول إنَّني فعلتُ".
وربما جاءت بعض تحذيراتها متأخرة، إذ أعلن عدة وزراء إسرائيليين بالفعل أنهم يخططون لتجاهل أي حكم قانوني لا يحبونه. ويبدو أن السابقة البولندية وصلت إلى إسرائيل أسرع مما كان متوقعاً.
فبعد ثلاثة أشهر من الاحتجاجات الجماهيرية التي اكتسبت زخماً، أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تأجيل تعديلاته. وهذا ليس خبراً ساراً بالضرورة. فاستناداً إلى السابقة البولندية، قد يكون خبراً غير سار بالمرة.
فعام 2017، بعد فترة طويلة من الصمت عن التعديلات القضائية في بولندا، أعرب الرئيس البولندي أندجي دودا عن عدد من التحفظات. وقال: "أرى أنها لا توفر الإحساس الضروري بالأمن والعدالة".
وفي وقت لاحق من ذلك العام، اعترض دودا على الإصلاحات وبالتالي وضع حداً للاحتجاجات والغضب الشعبيين. لكن الإحساس بالنصر لم يدُم طويلاً. ففي مطلع شتاء ذلك العام، حين كان شعب بولندا منشغلاً بعطلة عيد الميلاد أو يبحث عن ملاذ من البرد، وافقت الحكومة على اثنين من التعديلات الرئيسية. ولم تشهد الشوارع أي احتجاجات.
وعام 2018، وقّع دودا على إجراء يسمح للحكومة فعلياً باختيار رئيس المحكمة العليا المقبل ليصبح قانوناً. ونظم بضعة آلاف من الناس احتجاجات على مستوى بولندا، وعام 2019، أعادت الحكومة تنظيم ثورتها القضائية وأتمّتها، وكان الأوان قد فات.
والخطر نفسه يتربص بمستقبل التعديلات الإسرائيلية، التي يشك كثيرون في أن تعليقها وسيلة لوأد الاحتجاجات. وهذا الاتجاه يؤكده ما نشره وزير العدل ياريف ليفين، العقل المدبر لهذه التعديلات، بعد يوم واحد فقط من إعلان نتنياهو تأجيله للتعديلات إلى مايو/أيار، على مجموعة واتساب تضم مؤيديه: "أشكركم على الدعم. سأبذل قصارى جهدي لتمرير التشريع في الجلسة القادمة للبرلمان، ولنأمل أن يتوقف من يريدون إلحاق الأذى بنا عن ذلك".
ومن المؤكد أن هذا ليس إنهاء للأمر أو حتى تسوية، التي يتفاوض عليها الآن الرئيس إسحاق هرتسوغ، بل تبدو خطوة شبيهة بالنموذج البولندي "فلنأخذ استراحة لنعود بطاقة متجددة ونفعل ما نريده".
وما يثير الريبة أكثر أنه رغم هذا التأجيل، تعهد ليفين نفسه قبل أسابيع فقط بأنه سيرفض أي تأجيل "ولو لدقيقة واحدة". ويحتمل أنه يعرف شيئاً يشتبه فيه الإسرائيليون فقط.
وعليهم أن يتجهوا بأنظارهم إلى بولندا، فليس من قبيل المصادفة أن وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريش أطلق على خطط تعديلاته القضائية "القانون والعدالة"، وهو الاسم نفسه الذي يحمله الحزب الحاكم في بولندا.