تسببت الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو، خلال 100 يوم فقط من تولي المسؤولية، في دفع الأمور إلى حافة الهاوية، داخل الدولة العبرية وفي المنطقة بأكملها، فكيف يمكن أن تهدأ الأوضاع؟
تعيش إسرائيل حالةً من التوتر الداخلي وتظاهرات غير مسبوقة في الأسابيع الماضية، تنذر بوقوع حرب أهلية، على خلفية التعديلات القضائية التي يريد تمريرها نتنياهو وحلفاؤه في الحكومة: إيتمار بن غفير وزير الأمن الداخلي، وبتسلئيل سموتريتش، وزير المالية وياريف ليفين وزير العدل.
كما أن الانتهاكات التي ترتكبها دولة الاحتلال بحق الفلسطينيين، سواء توسيع الاستيطان أو هدم المنازل وتهجير أهلها وصولاً إلى الاعتداءات المتكررة وغير المسبوقة على المسجد الأقصى، دفعت الأمور في المنطقة إلى حافة الهاوية فعلاً لا قولاً.
إسرائيل في قلب العاصفة
وتناول تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية الأوضاع الحالية، في تقريرٍ عنوانه "حكومة نتنياهو تواجه عاصفة من الاضطرابات"، رصد كيف حلَّ عيد الفصح اليهودي على إسرائيل هذا العام والاضطرابات محيطة بها من كل اتجاه، فدولة الاحتلال غارقة في حرب أهلية مدفوعة بالنزاع على هويتها، وهي مقبلة على أزمة دستورية هائلة في مايو/أيار أو يونيو/حزيران. كما تشهد تصعيداً أمنياً مع لبنان وغزة وفي القدس الشرقية المحتلة.
وفي سياق آخر، لم يتلقَّ رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، خلاف المعتاد، دعوة من الرئيس الأمريكي جو بايدن لزيارة البيت الأبيض حتى الآن، واستُقبل رئيس وزراء إسرائيل استقبالاً متواضعاً في أربع عواصم أوروبية كبرى.
لم يستغرق وصول الحكومة، التي توصف بأنها الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، إلى هذا التدهور الداخلي والخارجي إلا 100 يوم تقريباً. لكن هذا ليس بالأمر غير المألوف من القادة في الدول الكاكيستوقراطية (kakistocracy)، التي تكون فيها السلطة بأيدي أسوأ القادة وأضعفهم تأهيلاً، وأكثرهم بعداً عن مبادئ المواطنة.
وتُشابه المئة يوم الأولى من إدارة هذه الحكومة الإسرائيلية ما يُعرف باسم "أيام نابليون المئة"، أي المدة التي بدأت بعودة الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت من المنفى إلى باريس في عام 1815 ثم إلى المنفى مرة أخرى، فقد شهدت هذه المدة القصيرة هزيمة الإمبراطورية في معركة واترلو والحرب النابليونية، ثم استعادة سلالة بوربون العرش في عهد لويس الثامن عشر.
أما الحدث الثاني الشائع -على الأقل بين الأمريكيين- الذي يستدعيه هذا السياق على سبيل المفارقة، فيلخصه المثل القائل إنك ما دمت عجزت عن بلوغ أمر ما في أول 100 يوم لك من السعي إليه، فإن الراجح أنك لن تبلغه أبداً. ويستمد هذا المثل أصله من ذكرى نجاح التدابير التي اتخذها الرئيس الأمريكي فرانكلين دي روزفلت لمكافحة الكساد الكبير عام 1933، وإصداره أكثر من 15 تشريعاً في أول 100 يوم له بالحكم وبرامج الدعم الاقتصادي التي مكنته من تهدئة الذعر في الأسواق المالية.
ربما ظن نتنياهو أنه سيسير في هذه الدورة الانتخابية على خطى روزفلت في أول 100 يوم له بالحكم، لكن الواقع أنه يبدو مع هذه الحكومة واضطراباتها أقرب شبهاً بنسخة من أيام نابليون وما شهدته من هزائم متوالية.
خطة نتنياهو الفاشلة
كانت خطة حكومة نتنياهو تهدف إلى تمكين البرلمان من تجاوز قرارات المحكمة العليا والسيطرة على التعيينات القضائية، لكنها أثارت بعضاً من أكبر الاحتجاجات في إسرائيل، حيث وصف المعارضون الخطوة بأنها تهديد للديمقراطية.
ويتهم المعارضون نتنياهو بأنه يريد تمرير "الانقلاب القضائي" لأسباب شخصية تتعلق بمحاكمته السارية بتهم الفساد والرشوة وخيانة الأمانة، إضافة إلى وجود وزراء في حكومته مثل بن غفير وغيره مدانين من قبلُ بالاحتيال ودعم الإرهاب، لدرجة أنها توصف بحكومة "السوابق".
لكن مع تصعيد المعارضة ووصول الانقسامات إلى صفوف جيش الاحتلال وقياداته، وإقالة وزير الدفاع يوآف غالانت بعد تعبيره علناً عن رفض التعديلات القضائية، اتخذ نتنياهو خطوة إلى الوراء وأعلن عن تأجيل التصويت في الكنيست على تلك التعديلات، دون أن تنجح خطة التأجيل في تهدئة الأمور.
ولم يكن من المعتاد أن تجتمع على إسرائيل كل هذه المشكلات والأحداث بينما تقودها حكومة قليلة الكفاءة، وضعيفة الأداء لوظائفها، ومعادية للديمقراطية، ومتطرفة، ومشوشة كتلك الحكومة التي يقودها نتنياهو ويُجسد عجزها. ولكن كما هو الحال مع الحكومات الكاكيستوقراطية، فإن هذا كله كان متوقعاً، وكان المآل واضحاً منذ البداية، وتحدث كثيرون عن ذلك، لكن أحداً لم يعبأ بحديثهم.
وهكذا، توالت الخسائر الاقتصادية والدبلوماسية والمجتمعية بسبب التشريعات الحكومية المناهضة للديمقراطية، وكان الأمر مسألة وقت قبل أن تتدهور الجبهة الأمنية.
وخلاصة القول هنا أمران، أولاً: أنه كلما كان الانقسام الناتج عن الأزمة الداخلية أكثر حدة أو بدا كذلك، زاد تآكل الردع واستقر التصور العام على ضعف البلاد التي تشهد هذه الأزمة. ثانياً: كلما زادت سياساتك في الضفة الغربية استفزازاً للفلسطينيين، كان ردُّ الفعل عليها أقوى وأشد حدة.
افتخر نتنياهو لسنوات طويلة بفطنته الجيوسياسية وصلابته الأمنية. وسواء كان هو مصدر هذه المبالغات أم المتملقون من حوله أم وسائل الإعلام، فإن كل هذا لم يعد له قيمة في الوقت الحالي. والأمر الثابت والواضح للجميع، أن كل هذه المزاعم تتفكك.
ولمن يريد مزيداً من الأدلة، قدمت الصحيفة العبرية رصداً للواقع الاستراتيجي الذي تسببت فيه حكومة نتنياهو في غضون 100 يوم من وصولها إلى الحكم، وجاء على النحو التالي:
– تشهد العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة توتراً كبيراً وعلى نحو غير مسبوق.
– تمكنت إيران من مراكمة كميات كبيرة من اليورانيوم المخصب على نحو يجعلها أكثر قرباً من إنتاج السلاح النووي من أي وقت مضى، وبالتأكيد منذ الاتفاق النووي لعام 2015 الذي عارضه نتنياهو بشدة، وحثَّ صديقه الحميم دونالد ترامب على الانسحاب منه في 2018.
– بدأت إيران في إمداد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين -وهو صديق حميم آخر لنتنياهو- بالسلاح، واستأنفت العلاقات الدبلوماسية مع السعودية بوساطة صينية. وقد كان نتنياهو يرى التطبيع مع السعودية أمراً ذا أهمية كبيرة على المستوى الدفاعي والعلاقات الخارجية، وأعلن أن التطبيع مع الرياض أحد أهدافه الثلاثة الأولى في دورته الانتخابية.
– تواجه إسرائيل تهديداً من أكثر من جبهة في وقت واحد، سواء من لبنان أو من سوريا، حيث أطلقت صواريخ تجاه الدولة العبرية رداً على الاعتداءات بحق المسجد الأقصى وكذلك الاستهداف المتكرر للأراضي السورية.
والأحد 9 أبريل/نيسان، قال جيش الاحتلال إن طائراته قصفت أهدافاً عسكرية سورية رداً على إطلاق صواريخ خلال الليل باتجاه هضبة الجولان المحتلة، وأفادت وسائل الإعلام الرسمية السورية بوقوع انفجارات في محيط العاصمة دمشق. وقالت إسرائيل إن قواتها واصلت قصف الأراضي السورية بعد إطلاق ستة صواريخ خلال الليل نحو مرتفعات الجولان.
وأضافت إسرائيل أنها شنت هجمات بالمدفعية والطائرات المسيرة لقصف راجمات إطلاق الصواريخ وأعقبت ذلك بتنفيذ ضربات جوية على مجمع للجيش السوري وأنظمة رادار عسكرية ومواقع للمدفعية. وقال الجيش الإسرائيلي في بيان، إنه "يحمل الدولة السورية المسؤولية عن جميع الأنشطة التي تحدث داخل أراضيها، ولن يسمح بأي محاولات لانتهاك السيادة الإسرائيلية".
وقالت وزارة الدفاع السورية إن الدفاعات الجوية تصدت للصواريخ الإسرائيلية "وأسقطت بعضها". وأضافت أن الهجمات أدت إلى وقوع بعض الخسائر المادية دون سقوط قتلى أو مصابين. ودوت صفارات الإنذار في وقت سابق بالقرب من بلدات في مرتفعات الجولان مع إطلاق صواريخ من الأراضي السورية، ولكن لم ترد أنباء عن وقوع أضرار أو إصابات.
هل يكون الحل هو رحيل الائتلاف الحاكم؟
لا شك في أن نتنياهو ليس السبب في هذه المشكلات كلها، لكن نصيبه كبير في المسؤولية عنها، لا سيما أنه هو من عارض الاتفاق النووي الإيراني أشد المعارضة، وحثَّ الولايات المتحدة بعد ذلك على الانسحاب منه دون أي خطة بديلة، ولربما اختلفت الأمور لو لم يفعل ذلك. والأمر نفسه يسرى على نوبة الإجراءات التشريعية المناهضة للديمقراطية التي اتفق مع حكومته على إقرارها رغماً عن أي معارضة.
ولا يمكنك أيضاً إلا لومه إذا نظرت إلى تعيينه مجموعة من المهووسين بالاضطرابات مثل إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، وبتسلئيل سموتريتش، وزير المالية والمسؤول بوزارة الدفاع، ثم إقالته وزير الدفاع يوآف غالانت دون مناقشة أو مراجعة، لأنه صرح بمعارضة التعديلات القضائية الذي بثَّت الانقسام في البلاد.
والحال كذلك، فإن إسرائيل تشهد أزمة سياسية دستورية يحتج على أثرها مئات الآلاف من الإسرائيليين على تشريعات نتنياهو السلطوية كل أسبوع؛ وبيئة أمنية تزداد الاضطرابات فيها من لبنان وغزة والقدس الشرقية والضفة الغربية؛ وإيران أكثر جرأة على الهجوم من جبهات مختلفة؛ أما الولايات المتحدة فيغلب على موقفها الشعور بالخذلان والاستياء من المآزق القانونية التي وضع نتنياهو البلاد فيها. وكل هذه العوامل اجتمعت حتى أوشكت على الدخول بإسرائيل في عاصفة كبرى من الاضطرابات.
لا توجد حكومة أقل استعداداً للتعامل مع أزمات متعددة من الحكومات ضعيفة الكفاءة، ولا يوجد رئيس وزراء أقل قدرة على التعامل مع وضع كهذا من نتنياهو. فهذه الحكومة تشوه صورة إسرائيل (أو الصورة التي تسوقها عن نفسها) دبلوماسياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً، والآن تخوض بالبلاد في خراب أمني غير مسبوق تاريخياً. وكل هذا الخراب يمكن التراجع عنه، وربما يمكن إصلاح الأمور حينئذ، لكن أول خطوة يقتضيها ذلك هي إزاحة نتنياهو من الحكم، بحسب هآرتس.