حذَّر وزير الأمن الداخلي الأمريكي مجدداً، من خطورة الانقسام السياسي في بلاده، وأن ذلك قد يؤدي إلى خروج الأمور عن السيطرة، فهل تواجه الولايات المتحدة احتمالات "حرب أهلية"، أم أن الأمور مجرد سجال سياسي؟
تحذيرات أليخاندرو مايوركاس، مساء الأربعاء 30 نوفمبر/تشرين الثاني، تزامنت مع إصدار وزارته نشرة دورية خاصة بالإرهاب الداخلي، هي السابعة منذ يناير/كانون الثاني 2021، خلصت إلى أن الولايات المتحدة "تواصل مواجهة بيئة تهديد خطيرة"، وأن "التوترات السياسية المرتفعة" في البلاد "يمكن أن تسهم" في احتشاد الأفراد للقيام بأعمال عنف.
وعلى الرغم من أن هذه التحذيرات ليست جديدة في حد ذاتها، إذ كان اقتحام أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب للكونغرس 6 يناير/كانون الثاني 2021،ةأخطر انعكاس فعلي للانقسام والاستقطاب الحاد في البلاد، إلا أن المؤشرات على استمرار الاستقطاب والانقسام في التعمق والتجذر تمثل جرس إنذار حقيقي يهدد السلم الداخلي في القوة العظمى.
من هم الذين يتهمهم وزير الداخلية الأمريكي؟
قالت وزارة الأمن الداخلي في نشرتها بشأن الإرهاب، إن المعتدين المنفردين والجماعات الصغيرة، "التي تحركها دوافع ذات معتقدات أيديولوجية و/ أو مظالم شخصية تواصل كونها خطراً داهماً ومميتاً بالنسبة للوطن".
كما حذّرت النشرة من أن المسؤولين في إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن يتوقعون تصاعداً في التهديدات خلال الأشهر المقبلة، مشيرة إلى أن الجهات التي تمثل تهديداً "يمكن أن تستغل عدة أحداث مقبلة لارتكاب أعمال عنف"، بحسب تقرير لشبكة Foxnews الأمريكية.
"تستهدف هذه التهديدات التجمعات العامة، والمؤسسات الدينية، ومجتمع المثليين جنسياً، والمدارس، والأقليات العرقية والدينية، والمرافق والموظفين الحكوميين، والبنية التحتية للولايات المتحدة، ووسائل الإعلام، ومن يُعتقد أنهم يعارضون أفكاراً معينة"، بحسب بيان الوزارة.
وأضاف البيان أن "العديد من الهجمات الأخيرة والمؤامرات والتهديدات بالعنف تظهر الطبيعة المتغيرة والمعقدة والمستمرة لبيئة التهديد في الولايات المتحدة. العناصر التي تمثل تهديداً حشدت أنفسها للعنف مؤخراً، متذرعة بعوامل مثل ردود الفعل على أحداث جارية، والتمسك بالأيديولوجيات المتطرفة العنيفة، وقال بعض المتورطين في تنفيذ اعتداءات إنهم استلهموا عملياتهم من هجمات سابقة لمنفذين آخرين".
وركزت نشرة وزارة الأمن الداخلي على "العنف السياسي" على وجه التحديد، مشيرة إلى أن العنف المحيط بانتخابات التجديد النصفي في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 تم تحييده، لكن المسؤولين ظلوا يقظين، لأن التوترات السياسية بالبلاد قد تسهم في حشد الأفراد للعنف بناءً على مظالم شخصية.
وفي هذا السياق، كان تحقيق استقصائي نُشر مطلع العام الجاري، قد رصد وجود عشرات الملايين من الأمريكيين المدججين بالسلاح والذين يؤمنون بأن ترامب كان الفائز في الانتخابات الماضية وأن بايدن "سرقها"، وخلص التحقيق إلى أن هؤلاء يستعدون منذ الآن لانتخابات 2024، وفي حال ترشَّح ترامب وخسرها "لن يسمحوا بتكرار ما حدث مرة ثانية".
التحقيق، الذي نشرته مجلة Newsweek بعنوان "ملايين الأمريكيين غاضبون ومسلحون استعداداً للسيطرة على البلاد في حال خسارة ترامب عام 2024″، والذي رصد كيف أن الجماعات اليمينية المتطرفة المسلحة من أنصار ترامب ليسوا التهديدَ الأخطر الذي تواجهه البلاد.
تحقيق المجلة كشف عن ظاهرة الارتفاع القياسي في شراء الأسلحة النارية، إذ شهد عام 2020 شراء نحو 17 مليون أمريكي 40 مليون قطعة سلاح، بينما شهد عام 2021 في نصفه الأول شراء أكثر من 20 مليون سلاح ناري آخر. وبحسب الأنماط التاريخية لمن يقتنون الأسلحة، تنتمي الأغلبية الساحقة من هؤلاء إلى البيض المنتمين للمناطق الحضرية في الولايات الجنوبية وينتمون للحزب الجمهوري، باختصارٍ القاعدة الانتخابية الرئيسية لدونالد ترامب.
ما علاقة السجال السياسي الأمريكي بوزير "الداخلية" تحديداً؟
تأتي هذه التحذيرات من جانب وزارة الأمن الداخلي متزامنة مع تعرض وزيرها مايوركاس لحملة شرسة من جانب الحزب الجمهوري، تطالب باستقالة الوزير وإلا تعرض لإجراءات العزل في مجلس النواب، بمجرد أن يتولى الجمهوريون رئاسة المجلس مطلع العام المقبل.
الحزب الجمهوري انتزع الأغلبية في مجلس النواب، إحدى الغرفتين التشريعيتين في الكونغرس، خلال الانتخابات النصفية الأخيرة، بعد أن حصد الجمهوريون بالفعل 220 مقعداً من إجمالي 435 مقعداً، مقابل 213 فقط للديمقراطيين، مع وجود مقعدين لا تزال عملية فرز الأصوات لم تحسمهما بعد.
ومن المتوقع أن يصبح كيفين مكارثي، زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب الحالي، الذي تترأسه الديمقراطية نانسي بيلوسي، رئيساً للمجلس مع اكتمال نصابه وبدء جلسات الدورة الجديدة في يناير/كانون الثاني المقبل. ويشن مكارثي حملة شرسة ضد مايوركاس، مطالباً إياه بتقديم استقالته وإلا فسيواجه محاكمة في مجلس النواب لعزله من منصبه ومحاكمته أيضاً، على خلفية أزمة تدفق المهاجرين عبر الحدود الجنوبية.
وقال مكارثي قبل أيام، إنه عندما يتولى الجمهوريون رئاسة مجلس النواب سوف "يحققون في كل أمر وكل تصرف وكل فشل"؛ لتحديد ما إذا كانوا سيبدأون إجراءات العزل بحق وزير الأمن الداخلي: "ربما لا تتعافى بلادنا أبداً من إهمال الوزير مايوركاس في واجباته، لهذا أطالب الوزير بتقديم استقالته"، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
مايوركاس ديمقراطي ومكارثي جمهوري، وبالتالي فإن تحذيرات الأول من وجود تهديد أمني خطير قد يؤدي إلى اقتتال داخلي في البلاد موجهة بالأساس إلى الجمهوريين المصدقين لنظرية سرقة نتيجة الانتخابات الماضية من ترامب، وهو ما يروج له بالفعل كثير من المشرعين وقيادات الحزب الجمهوري.
كانت الأيام القليلة الماضية قد شهدت صدور الحكم بحق زعماء جماعة "حماة القسم Oath Keepers" اليمينية المتطرفة في أحداث اقتحام الكونغرس يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021 لمنع التصديق على فوز بايدن وخسارة ترامب. الاتهام الموجه لهؤلاء أكد أن ما حدث في ذلك اليوم، من جانبهم، لم يكن عفوياً، بل "كان مؤامرة مخططاً لها من قبل وباستفاضة وباستخدام تشكيلات شبه عسكرية هدفها قلب نظام الحكم في البلاد".
"حماة القسم" هم إحدى المجموعات اليمينية المتطرفة المسلحة بشدة، وهناك أيضاً جماعات أخرى مثل "براود بويز Proud Boys"، الذين كان ترامب قد رفض إدانتهم، بل أمرهم "بالاستعداد" أثناء المناظرة التلفزيونية الوحيدة التي جمعته بجو بايدن قبيل الانتخابات الرئاسية عام 2020.
لكن زعماء الحزب الجمهوري يصرون على أن الديمقراطيين بقيادة جو بايدن يروجون لأحداث "فردية قام بها متطرفون" على أنها نظرية مؤامرة بغرض بث الرعب في قلوب الأمريكيين وتحقيق أهداف سياسية، دون أن تكون هناك مؤشرات حقيقية على وجود خطر حقيقي بإمكانية اندلاع اقتتال داخلي، ويستشهدون بمرور الانتخابات النصفية الأخيرة بشكل طبيعي وتقبُّل "الجميع" لنتائجها.
هل تواجه أمريكا فعلاً خطر "الحرب الأهلية"؟
من الصعب الجزم بإجابة قاطعة لهذا السؤال بطبيعة الحال، لكن القراءة الموضوعية للمشهد الداخلي الحالي في الولايات المتحدة ربما تساعد في توضيح الصورة أكثر. فالانقسام والاستقطاب ليس سياسياً فقط ولم يعد مرتبطاً بالانتخابات وسعي الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري للفوز بالرئاسة أو الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ كما كانت الحال منذ إرساء قواعد الديمقراطية الأمريكية.
السجال السياسي والانقسام وحتى الاستقطاب أمر طبيعي وتواجهه جميع الأنظمة الديمقراطية حول العالم بطبيعة الحال، لكن ما حدث في الولايات المتحدة منذ ظهور دونالد ترامب على الساحة السياسية خلال الانتخابات الرئاسية عام 2016، أمر يتخطى السجال السياسي بكثير.
فترامب، ومنذ اللحظة الأولى، قدم نفسه للأمريكيين بصفته رافضاً للمؤسسة الحاكمة بشكل عام، والتي يشير إليها بواشنطن العاصمة وما يجري فيها من سعي دائم للحفاظ على "الدولة العميقة" والذي يخدم السياسيين وأصحاب الثروة على حساب أغلبية المواطنين الأمريكيين "المطحونين" والمرهقين بالضرائب والأعباء التي يفرضها عليهم النظام ويتدخل ذلك النظام أيضاً في حياتهم الشخصية ويحرمهم من الحريات التي ينص عليها الدستور.
هذا الخطاب الشعبوي المغلف بصبغة دينية مسيحية ونظرة عنصرية تضع الرجل الأبيض في مرتبة أعلى من الآخرين جميعاً، وجد أذناً صاغية لدى عشرات الملايين من الشباب والرجال البيض المعادين للأقليات والمهاجرين، وهكذا فاز ترامب بالرئاسة رغم أن جميع استطلاعات الرأي كانت تعطي التقدم لمنافسته هيلاري كلينتون.
تسببت فترة رئاسة ترامب في إعطاء دفعة غير مسبوقة لليمين المتطرف، ليس فقط في أمريكا بل حول العالم، لكن الأخطر هو أن الرئيس السابق سنّ سُنة خطيرة تتمثل في التشكيك بجميع مؤسسات الدولة؛ من وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي إلى الهيئات الانتخابية، وصولاً حتى إلى قيادات الجيش الذين لا يدينون له بالولاء.
وعلى الرغم من أن ترامب خسر الانتخابات الماضية أمام بايدن، فإنه لم يعترف قط بتلك الخسارة، والأمر نفسه ينطبق على قسم كبير من الناخبين الأمريكيين، ومع عودة ترامب القوية للمشهد وإعلانه مؤخراً سعيه للفوز بترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة 2024، يصبح احتمال تكرار سيناريو أحداث اقتحام الكونغرس وارداً، في حال ترشح ترامب وخسر مرة أخرى.
لكن هذا "العنف السياسي"، على خطورته الداهمة، لا يمثل كل أشكال العنف الداخلي في الويات المتحدة، فالانقسام المجتمعي بشأن قضية الإجهاض، بعد إلغاء المحكمة العليا بالبلاد الحق في الإجهاض، بات يمثل إحدى أبرز القضايا الاستقطابية بالولايات المتحدة.
وكانت هذه النقطة حاضرة في نشرة الإرهاب الداخلي الأخيرة لوزارة الأمن الداخلي، حيث تعرض أكثر من 100 مركز لخدمات الحمل، ومنظمات معارضة للإجهاض، وكنائس للهجوم وبعضها تعرض للهجوم أكثر من مرة منذ تسريب مسوّدة رأي المحكمة العليا بشأن إلغاء الحق الدستوري في الإجهاض في 2 مايو/أيار الماضي.
هناك أيضاً قضية المثلية الجنسية، التي يعارضها المحافظون المنتمون أيضاً للجمهوريين، وشهدت أيضاً نوادٍ للمثليين وتجمعات لهم حوادث عنف متكررة، كان أحدثها إطلاق نار في أحد تلك النوادي قُتل وأصيب خلاله العشرات، فضلاً عن حوادث إطلاق النار العشوائي التي تشهدها البلاد بصورة يومية، وأحياناً تقع أكثر من حادثة إطلاق نار في اليوم الواحد.
الولايات المتحدة تتصدر العالم بفارق ضخم عمن يليها في قائمة انتشار السلاح بأيدي المواطنين، وقضية حيازة الأسلحة النارية بأنواعها المختلفة والقاتلة قضية مفتوحة ومستمرة، ورغم الدماء التي تسيل طوال الوقت، لا تزال حيازة السلاح قائمة وتعكس سطوة أصحاب المصلحة في استمرارها.
هذه العوامل وغيرها، خاصةً عامل العنصرية بطبيعة الحال، ترسم صورة قاتمة للغاية بالنسبة للدولة العظمى التي تهيمن على النظام العالمي، لكن ذلك لا يجزم بأن خطر اندلاع الحرب الأهلية مؤكد، وربما تكون نتائج انتخابات التجديد النصفي الأخيرة قد حملت مؤشراً إيجابياً يتمثل في خسارة كثير من المرشحين الجمهوريين المدعومين من ترامب، والمجاهرين بنظرية "سرقة الانتخابات" والمشككين في نزاهة النظام الانتخابي.
الخلاصة هنا هي أن الولايات المتحدة تمر بحالة من الانقسام الداخلي تنذر بتحولها إلى حرب أهلية، خصوصاً إذا ما ترشح ترامب وخسر ورفض الاعتراف بالهزيمة، كما هو متوقع بطبيعة الحال، لكن يظل هذا السيناريو واحداً من الاحتمالات وليس الاحتمال الوحيد.