الديمقراطية في العالم تراجعت بأكثر من النصف وحقوق الإنسان تواجه تحديات غير مسبوقة، والسبب الرئيسي الحرب في أوكرانيا، وهو ما يؤكد أن الحروب هي العدو الأول للديمقراطية، واسألوا أمريكا و"حربها على الإرهاب".
تقرير المؤسسة الدولية للديمقراطية والمساعدة الانتخابية عن عام 2022، الصادر 30 نوفمبر/تشرين الثاني، خلص إلى أن نصف الديمقراطيات في العالم في حالة تراجع، وسط تدهور الحريات المدنية وسيادة القانون، بينما تزداد الحكومات الاستبدادية قمعاً.
رصد تقرير جماعة المراقبة الحكومية الدولية، ومقرها استوكهولم، عدة عوامل وراء هذا التدهور الجديد، المتمثل في قضايا تتراوح بين القيود على حرية التعبير وزيادة عدم الثقة في شرعية الانتخابات، والتي تؤدي إلى تقوض المؤسسات الديمقراطية، أبرزها الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
كيف حال الديمقراطية حول العالم في 2022؟
ذكرت المؤسسة في دراستها لعام 2022 عن حالة الديمقراطية، التي أعدتها بالاعتماد على بيانات تم جمعها منذ عام 1975 أن "العالم يواجه العديد من الأزمات، من تكلفة المعيشة إلى مخاطر المواجهة النووية وتسارع أزمة تغير المناخ. في الوقت نفسه، نرى الديمقراطية العالمية في تراجع. هذا مزيج سام".
صحيح أن الحرب الروسية في أوكرانيا أحد أبرز العوامل، إلا أن هناك عوامل أخرى مثل تفشي التضخم والركود العالمي الذي يلوح في الأفق، وتغير المناخ وجائحة كوفيد-19.
وتبني المؤسسة الدولية للديمقراطية والمساعدة الانتخابية مؤشرات الحالة العالمية للديمقراطية الخاصة بها على أكثر من 100 متغير، بما في ذلك تدابير مثل حرية التعبير، والسلامة الشخصية والأمن الشخصي، بحسب رويترز.
كيفن كاساس زامورا، الأمين العام للمؤسسة التي أعدت التقرير، قال لوكالة فرانس برس: "نرى الآن عوامل غير مواتية إطلاقاً للديموقراطية، زادتها حدّة تبعات الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الوباء والعواقب الاقتصادية للحرب في أوكرانيا".
وذكر التقرير أن عدد الدول التي تشهد "تراجعاً" في الديمقراطية لم يكن بهذا الارتفاع على الإطلاق، ويشمل ذلك بولندا والمجر، وكذلك الولايات المتحدة، مضيفاً أن ما يقرب من نصف الديمقراطيات في أوروبا عانى من التآكل في السنوات الخمس الماضية.
وقالت المؤسسة الدولية للديمقراطية والمساعدة الانتخابية "الحرب العدوانية الروسية في أوكرانيا هزت أوروبا، وأجبرت المنطقة على إعادة التفكير في الاعتبارات الأمنية، والتعامل مع أزمات الغذاء والطاقة الوشيكة".
ومن بين الدول الـ173 التي شملها التقرير، سجلت 52 دولة من الدول المصنفة على أنها ديموقراطية تراجعاً متفاوتاً في نسبته، بينما اتجهت 27 دولة إلى نظام استبداديّ، وهو ما يعني أن ما يزيد على ضعف عدد الدول التي اتجهت إلى الديموقراطية قد وقعت في براثن الأنظمة الاستبدادية بالفعل.
وأضاف التقرير أن الديمقراطية تتعرّض للتهديد على مستوى العالم من التحديات لشرعية نتائج انتخابات موثوق بها، والقيود المفروضة على الحريات والحقوق على الإنترنت، والفساد، وصعود أحزاب اليمين المتطرف.
ماذا عن الديمقراطية في الولايات المتحدة؟
ازداد عدد الديموقراطيات التي تواجه أخطر تقويض، والتي صنفها التقرير في فئة بلدان "في تراجع" من 6 إلى 7 عام 2022، مع إضافة سلفادور إليها، إلى جانب الولايات المتحدة، التي أضيفت منذ العام الماضي، والبرازيل والمجر وبولندا والهند وجزيرة موريشيوس.
ويرى كيفن كاساس زامورا أن وضع الولايات المتحدة على قدر خاص من الخطورة. وحذر التقرير بأن هذا البلد يعاني مشكلات استقطاب سياسي، وخلل في عمل المؤسسات، وتهديدات للحريات المدنية. وقال الأمين العام للمؤسسة لوكالة فرانس برس:"من الواضح الآن أن هذه الحمى لم تنحسر مع انتخاب إدارة جديدة".
ويظهر ذلك خصوصاً في مستويات الاستقطاب الخارجة عن السيطرة ومحاولات "تقويض مصداقية نتائج الانتخابات بدون أي أدلة على وقوع عمليات تزوير"، بحسب كاساس زامورا. وهي إشارة مباشرة إلى ما شهدته أمريكا بعد أن خسر الرئيس السابق دونالد ترامب انتخابات الرئاسة لصالح الرئيس الحالي جو بايدن.
روّج ترامب لنظرية "سرقة الانتخابات"، وتسبب ذلك في اقتحام الآلاف من أنصاره مقر الكونغرس يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021، في محاولة لمنع التصديق على نتائج الانتخابات، وهو ما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات.
وعلى الرغم من عدم نجاح ترامب وفريقه من تقديم أدلة على تلك المزاعم، فإن كثيرين من أتباعه ومن المشرعين الجمهوريين لا يزالون مقتنعين بتلك النظرية حتى اليوم، ومع إعلان ترامب سعيه للفوز بترشيح الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة المقبلة عام 2024، ربما تتكرر نفس المشاهد، وقد تكون أكثر دموية هذه المرة، بحسب تقارير أمريكية.
لكن اللافت في التقرير بشأن الديمقرطية وحقوق الإنسان هذا العام هو أن بارقة الأمل جاءت من القارة السمراء، حيث ظلت إفريقيا صامدة في مواجهة عدم الاستقرار، وشهدت بلدان، منها جامبيا والنيجر وزامبيا تحسناً في جودة الديمقراطية.
ففي آسيا، حيث يعيش 54% فقط من السكان في نظام ديموقراطي، تشتد النزعة الاستبدادية، على عكس القارة الإفريقية التي تبقى "متينة" بوجه انعدام الاستقرار، رغم التحديات الكثيرة التي تواجهها.
أما في أوروبا، فقد عانت نحو نصف الديموقراطيات، أي 17 دولة، من تدهور خلال السنوات الخمس الأخيرة. وشدد التقرير على أن "الديموقراطيات تجتهد لإيجاد توازن فعال في بيئة من انعدام الاستقرار والقلق. ولا تزال النزعة الشعبوية تنتشر في العالم فيما الابتكار والنمو في ركود أو تراجع".
كما أشار إلى "توجهات مقلقة" حتى في الدول التي تتمتع بمستوى متوسط أو مرتفع من المعايير الديموقراطية. وجاء في التقرير أن التقدم شهد في السنوات الخمس الأخيرة ركوداً على صعيد كلّ مؤشرات دراسات المؤسسة، بل عادت بعض هذه المؤشرات إلى مستويات التسعينيات.
لكن لفت التقرير أيضاً إلى أن بعض الشعوب تتجمع لحض حكوماتها على الاستجابة لمطالب القرن الواحد والعشرين، من المطالبة بالحقوق الإنجابية في أميركا اللاتينية إلى حركات الاحتجاجات الشبابية من أجل المناخ في أنحاء متفرقة من العالم.
ونوه كاساس زامورا "أيضاً بدول مثل إيران حيث خرج الناس إلى الشارع للمطالبة بالحرية والمساواة والكرامة"، مضيفاً أن "هناك بعض بصيص الأمل، لكن التوجه العام يبقى قاتماً".
أمريكا.. السبب الأبرز لتراجع حقوق الإنسان
ربما يكون التعليق الأبرز لكاساس زامورا هو أن "الأنظمة الديموقراطية سجلت تدهوراً حقيقياً في العقدين الأخيرين، ويطرح ذلك مسألة ساخنة في عصرنا"، فذلك التعليق يعيد أسباب هذه الأزمة العنيفة إلى جذورها، المتمثلة فيما أسمته الولايات المتحدة "الحرب على الإرهاب"، في أعقاب هجمات سبتمبر/أيلول 2001.
فالحرب التي أطلقتها الولايات المتحدة على "الإرهاب" فتحت الباب على مصراعيه أمام حقبةٍ جديدة تماماً من القمع العابر للحدود، بحسب تقرير سابق عن نفس القضية لصحيفة New York Times الأمريكية. ففي البداية قامت واشنطن بالشراكة مع بعض الدول الأكثر قمعيةً في العالم، برعاية تسليم العشرات من الإرهابيين المُشتَبَه بهم، واستهدفت كثيرين آخرين بضربات الطائرات المُسيَّرة. وأصرَّ الأمريكيون على أن هذه حربٌ عالمية، وبالتالي يتعيَّن تنحية السياسة والمواطنة جانباً فيها.
وضعت الحملة معياراً للحكومات التي تعبر حدود بعضها البعض لاجتثاث الإرهابيين المُفتَرَضين، وهي التسمية التي سرعان ما أصبح الطغاة والحكام المستبدون يطلقونها على نشطاء حقوق الإنسان والمعارضين السياسيين، أو من يختلف معهم بشكل عام.
وهنا تأتي قمة التناقض بين ما تروّج له الإدارات الأمريكية المتعاقبة، منذ جورج بوش الابن حتى جو بايدن، وبين الواقع الفعلي الناتج عن السياسات التي تتبعها واشنطن حول العالم، ويمتد هذا التناقض إلى النظام العالمي نفسه، الذي أرسته أمريكا بعد انتصارها في الحرب الباردة على الاتحاد السوفييتي قبل أكثر من 3 عقود.
فهذا النظام الأمريكي يفترض أنه يقوم على نشر القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ومحاربة النظم الاستبدادية والقمعية، لكن على أرض الواقع تعتبر واشنطن وحربها على الإرهاب وسياساتها الخارجية أحد أبرز عوامل انهيار الديمقراطية حول العالم، بحسب نتائج جميع الدراسات التي أجريت في هذا المجال خلال السنوات الماضية، وصولا إلى تقرير هذا العام.
وكان وصول ترامب إلى البيت بمثابة الدفعة الهائلة لتيار اليمين المتطرف، ليس فقط في الولايات المتحدة، بل في أوروبا وباقي دول العالم الغربي، وها هي القارة العجوز قد أوشكت على السقوط الكامل في قبضة أحفاد هتلر النازي وموسوليني الفاشي، بعد أن صعدت الأحزاب التي تمثل اليمين المتطرف إلى قمة هرم السلطة في كثير من الدول، كانت آخرها إيطاليا.
الخلاصة هنا هي أن اندلاع الحرب يعني تراجع حقوق الإنسان والديمقراطية بشكل عام، وهذا ما حدث منذ غزت أمريكا أفغانستان ثم العراق، وواصلت "الحرب على الإرهاب"، ثم جاءت الحرب الروسية في أوكرانيا لتزيد الطين بلة، كما يقول المثل العربي الشائع.