تزداد حدة الغضب في فرنسا اعتراضاً على ارتفاع أسعار الطاقة وتدني الأجور، بسبب الدعم الأوروبي لأوكرانيا واستمرار الحرب الروسية، فهل يدفع الرئيس إيمانويل ماكرون ثمناً باهظاً مع قدوم الشتاء المرعب؟
وبسبب الارتفاع الجنوني في فواتير الطاقة وأسعار السلع الرئيسية، انتفض الشارع الفرنسي في وجه ماكرون، الساعي لتمرير إصلاحات اقتصادية تهدف إلى رفع سن المعاش رغم الظروف القاسية التي تعاني منها بلاده، شأنها شأن باقي دول القارة الأوروبية.
والثلاثاء 18 أكتوبر/تشرين الأول، خرج أكثر من 100 ألف فرنسي إلى الشوارع للمطالبة برفع الأجور لتتناسب مع ارتفاع تكاليف المعيشة، في مؤشر على الاضطرابات السياسية التي تواجه ماكرون والقادة الأوروبيين الآخرين، بينما تستعر الحرب في أوكرانيا ولا يظهر لها نهاية في الأفق، بحسب تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية.
اتساع رقعة الغضب في فرنسا
الاحتجاجات في فرنسا كانت قد بدأت منذ أسابيع بقيادة عمال التكرير في البلاد، وسرعان ما انضم لهم المعلمون وعمال السكك الحديدية وموظفو الرعاية الصحية، ثم بدأت الإضرابات متزامنة مع مسيرات حاشدة في عشرات المدن، مما أدى إلى خنق إمدادات الوقود حول البلاد وتعثر نظام التكرير.
ونفد البنزين أو الديزل من حوالي 28% من محطات الوقود في البلاد. واصطفت طوابير طويلة أمام المحطات التي لا يزال لديها إمدادات الوقود، مع ارتفاع الأسعار بصورة حادة. كانت المسيرات سلمية في الأساس، لكن بعض المحتجين في باريس حطموا نوافذ المحال واشتبكوا مع الشرطة.
تجسد هذه الاضطرابات اختباراً صعباً أمام الدعم الأوروبي لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، إذ كان الأوروبيون يترنحون بالفعل بسبب التضخم الذي دفعته مشاكل سلاسل التوريد والعوامل الأخرى، ثم جاء الهجوم الروسي ضد أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو"، ليفاقم من هذه المعاناة.
وبعد مرور ثمانية أشهر على الصراع، لا تزال غالبية الشعوب في أوروبا تدعم عقوبات الغرب ضد أوكرانيا وتدعم إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا، لكن قادة القارة يخشون من احتمالية أن تقوض الضغوط الاقتصادية هذا الدعم الشعبي الموجه لهذه السياسات، أو الموجه للحكومات التي تدعمها، ولا سيما مع قدوم فصل الشتاء وارتفاع الطلب على الغاز.
إذ تظهر استطلاعات الرأي أن الدعم الشعبي تراجع عما كان عليه منذ بداية الحرب. فوجد استطلاع في فرنسا وألمانيا نشرته المؤسسة الفرنسية للرأي العام (Ifop) هذا الشهر أن 67% من الفرنسيين دعموا العقوبات ضد روسيا، أي أن النسبة هبطت بعد أن كانت 72% في مارس/آذار. بينما تراجع الدعم في ألمانيا من 80% إلى 66%.
الاحتجاجات ليست مقتصرة على فرنسا
في ألمانيا، نظم آلاف الأشخاص احتجاجات في الأسابيع الأخيرة، وطالبوا بوضع حدود قصوى على فواتير الطاقة، وزيادة الدعم المالي للأسر الضعيفة، بجانب إنهاء العقوبات ضد روسيا.
نُظمت أحدث سلسلة من الاحتجاجات، التي وقعت في برلين وبوتسدام ولايبزيغ في الأسبوع الماضي، عن طريق تحالف يتألف من النقابات والمنظمات البيئية تحت شعار "طفح الكيل.. لن نتجمد من أجل تحقيق الأرباح".
لكن المسؤولين والمحللين يعربون عن قلقهم من اختطاف الاحتجاجات عن طريق الجماعات اليمينية المتطرفة واليسارية المتطرفة، التي تسعى لاستغلال الاستياء الشعبي من التباطؤ الاقتصادي الذي يُعزى جانبٌ منه إلى الحرب الاقتصادية مع روسيا.
وفي إيطاليا، تبدو الطبقة السياسية في حالة توتر من احتمالية تصاعد الغضب الشعبي خلال الشتاء إذا فشلوا في كبح ارتفاعات أسعار الطاقة. صحيحٌ أن إيطاليا لم تشهد خروج احتجاجات حاشدة بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، لكن كثيراً من الأفراد والشركات عبروا عن غضبهم من ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء.
كان خفض فواتير الطاقة أحد الموضوعات المركزية في الحملات الانتخابية في إيطاليا خلال سبتمبر/أيلول. وسوف تواجه جورجيا ميلوني، رئيسة وزراء إيطاليا القادمة المحتملة، ضغوطاً من أجل العثور على طريقة لتخفيف المعاناة المالية بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة في الشتاء.
ويبدو كثير من الساسة الإيطاليين محبطين بسبب بطء وتيرة المفاوضات داخل الاتحاد الأوروبي حول طريقة معالجة أزمة تكاليف الطاقة. وكانت إيطاليا تضغط ناحية وضع سقف لأسعار واردات الغاز، لكن ألمانيا ترفض الفكرة حتى الآن.
وفي فرنسا، دخلت النقابات التي تعصف بها الاضطرابات، في أسابيع من الإضرابات في مصافي النفط حول البلاد، وفي الوقت ذاته كانت الحكومة تعد الشعب لاستقبال فصل شتاء يشهد قلة إمدادات الوقود. قال ماكرون أمس الأول الإثنين 17 أكتوبر/تشرين الأول إن الحكومة كانت تفعل أقصى ما بوسعها لإنهاء نقص الوقود في أسرع وقت ممكن.
وأخبر الرئيس الفرنسي الصحفيين خلال حديثه على هامش معرض باريس للسيارات: "أقف مع كل مواطنينا، الذي يكافحون والذين طفح الكيل بهم بسبب هذا الموقف".
تسربت الإضرابات إلى أجزاء أخرى من قطاع الطاقة. فقد أجلت شركة كهرباء فرنسا EDF SA، عملاقة الطاقة النووية، الإصلاحات التي تنفذها في أسطول المفاعلات النووية الخاص بالبلاد، الذي خرج أكثر من نصفه من الخدمة نتيجة اكتشاف تآكل في أنظمة التبريد والصيانة. أجلت الشركة خلال الأيام الأخيرة موعد إعادة تشغيل بعض هذه المفاعلات لما يصل إلى شهر كامل، مما أثار المخاوف من أن فرنسا قد تواجه نقصاً في إمدادات الكهرباء بينما تنخفض درجات الحرارة.
فاقمت الإضرابات أزمة الطاقة التي تواجه فرنسا وأوروبا؛ إذ تهرع القارة من أجل شراء الغاز الطبيعي من مزودين غير روسيا، وتنفق الأموال على الغاز الطبيعي المسال باهظ الثمن، فضلاً عن أن خروج مفاعلات فرنسا النووية من الخدمة ضاعف من الضغوط على أسعار الطاقة حول أوروبا الغربية.
لا يزال الفرنسيون منقسمين حول الإضرابات. ففي استبيان حديث أجرته شركة Elabe للبحوث والاستشارات، أظهر أن 39% من الفرنسيين يدعمون العمال المضربين، فيما يعارض 49% هذا الموقف. ويقول 12% من المشاركين في الاستبيان أنهم غير مبالين.
كيف قد يتصرف ماكرون وسط برلمان منقسم؟
إيزابيل كاليك، الممرضة المساعدة البالغة من العمر 57 عاماً التي شاركت في الاحتجاجات الثلاثاء، قالت لوول ستريت جورنال: "إننا نناضل من أجل الحصول على رواتب لائقة"، وأوضحت أن الحياة في باريس صارت مستحيلة مع زيادة أسعار الغذاء والإيجار، مضيفة: "يجب على الحكومة رفع الأجور، ومواصلة دعم أوكرانيا".
ورصد تقرير لصحيفة The New York Times المعاناة التي يواجهها ماكرون الآن لتهدئة الغضب على ثلاث جبهات: المصانع، والاحتجاجات في الشوارع، والغضب في البرلمان، وذلك قبل أن تتحد هذه الجبهات في صورة اضطراب اجتماعي رئيسي؛ إذ يمكن أن يهدد ذلك خطته، التي تتضمن خطط إصلاح نظام المعاشات التقاعدية المثيرة للخلاف.
آني دالي، معلمة المرحلة الابتدائية البالغة من العمر 55 عاماً، قالت لنيويورك تايمز: "لقد مرت خمس سنوات بينما نواجه تقلصات في نظام الرعاية الاجتماعية الخاص بنا". وكانت آني تشارك في مسيرة صاخبة تضم عديداً من النقابات وتمتد لأميال، وتمضي في طريقها عبر الضفة اليسرى في باريس.
أضافت آني، التي كانت تضع على ملابسها ملصقات تطالب برفع الأجور وتبكير سن المعاش بينما كانت تشير إلى الاحتجاجات: "إننا جميعاً في نفس الكفاح".
اشتكى ملاك الفنادق من إلغاء الحجوزات، وعبروا عن قلقهم من أنهم في حالة استمرار الإضراب أكثر من ذلك، فقد يخسرون مزيداً من الحجوزات خلال عطلة عيد جميع القديسين التي تستمر لأسبوعين في فرنسا، والتي تبدأ نهاية الأسبوع الحالي.
كذلك يصدر المسؤولون الحكوميون في فرنسا رسائل متضاربة حول الإضرابات. فبينما قالت رئيسة الوزراء إليزابيث بورن أمام البرلمان، الثلاثاء، إنه "من غير المقبول أن تواصل أقلية عرقلة البلاد"، أقر وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان في اليوم نفسه بوجود "مشكلة رواتب" في فرنسا ودعا إلى زيادة الأجور.
وقالت الكونفدرالية العامة للشغل (CGT)، ثاني أكبر نقابة في فرنسا، التي تقود الإضرابات، إن أكثر من 150 مظاهرة نُظمت في فرنسا الثلاثاء. وانضم كثير من الساسة اليساريين، مرتدين أوشحتهم ذات الألوان الحمراء والبيضاء والزرقاء، إلى المسيرات في محاولة لتسخير الاضطرابات الاجتماعية لزيادة الضغط على الحكومة.
قالت ألما دوفور، المشرعة المنتمية إلى حزب فرنسا الأبية اليساري: "إضرابٌ، فمسيرةٌ، فاحتجاج. نحتاج إلى مواصلة الزخم"، وذلك بينما كانت تسير في صفوف المحتجين في باريس.
كما انضم العديد من طلاب المدارس الثانوية إلى الاحتجاجات، وكان الطلاب في مدرسة هيلين بوشير الثانوية، شرق العاصمة، يتمترسون خلف علب قمامة خضراء كبيرة ويرفعون لافتات تشجب التغيرات الأخيرة في السياسة التعليمية، ويحذرون من أن حياة الطلاب صارت أخطر، أو يحتجون على عنف الشرطة. وهتف الطلاب صباح الثلاثاء: "معلمون أكثر، وضباط شرطة أقل".
تزامن إضراب الثلاثاء مع جهود حكومة ماكرون هذا الأسبوع للحصول على موافقة البرلمان على الموازنة، إذ إن الانتخابات التشريعية الأخيرة التي عقدت في يونيو/حزيران الماضي، تركت ماكرون بدون الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية الفرنسية، التي تتألف من مجلس الشيوخ والبرلمان الفرنسي الأقوى من الشيوخ.
وهدد المشرعون بالتصويت برفض خطة الإنفاق، فاستخدمت حكومة ماكرون السلطات الدستورية الخاصة من أجل تمريرها بدون التصويت عليها. وبالفعل قررت رئيسة الحكومة، إليزابيث بورن، تفعيل البند الدستوري 49.3 لتمرير الجزء الأول من ميزانية سنة 2023 دون تصويت برلماني. وهو القرار الذي وصفته القوى اليسارية المعارضة في الجمعية الوطنية بـ"غير الديمقراطي"، وطرحت مقترحاً بالتصويت على سحب الثقة من حكومة بورن، وهو ما كان متوقعاً، حيث هددت الجماعات اليسارية واليمينية المتطرفة في البرلمان بالإقدام عليه بالفعل.
وبحسب موقع فرانس 24، اعتبر النواب المساندون للحكومة أن القرار كان اضطرارياً، في ظل رفض المعارضة منذ البداية تمرير أي بند من قانون الميزانية.
لكن إتيان أوليون، عالم الاجتماع في المدرسة العليا متعددة التقنيات Polytechnique والمتخصص في الحياة البرلمانية الفرنسية، قال لصحيفة نيويورك تايمز إن خطر انهيار الحكومة "محدود نسبياً"، لأن معارضة يمين الوسط الرئيسية تبدو غير عازمة على الانضمام، ولأن اليسار واليمين المتطرف غير عازمين على دعم اقتراحات حجب الثقة لكل منهما.