قبل أن ينشغل العالم بأزمة أوكرانيا كانت هناك سوريا، حيث وقعت حرب شرسة، كانت تعتبر من قبلُ الصراعَ الأهم في الأعوام الخمسين الماضية، ويبدو أن العالم قد نسي سوريا ومأساة شعبها، رغم أن ما يحدث في أوكرانيا قد بدأ في الأصل في سوريا وهو تكرار للسيناريو السوري بشكل أو بآخر.
مع مقتل أكثر من نصف مليون شخص قبل أن يتوقف العد منذ 7 سنوات، ونزوح ولجوء ما يقرب من ثلثي سكان البلاد، والخراب الذي حلَّ بالاقتصاد والنسيج الاجتماعي، صارت سوريا عبارة عن قشرة ممزقة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
ولكن تعود سوريا للواجهة مع اجتماع قادة تركيا وإيران وروسيا في طهران، أمس الثلاثاء 19 يوليو/تموز، في ظل إعلان تركيا رغبتها في إبعاد التهديد الإرهابي الكردي عن أراضيها، وتنفيذ مشروع لإعادة جزء من اللاجئين السوريين لبلادهم.
روسيا وإيران نجحا في إنقاذ الأسد وتحويل الأغلبية العربية السنية إلى أقلية
كانت روسيا وإيران اللاعبين الرئيسيين في سوريا، حيث دعما نظام الأسد ضد الانتفاضة المطالبة بالديمقراطية، مسببين واحدة من أكبر عمليات التشرد في التاريخ الحديث، واليوم تبدو البلدان في موقف أضعف قليلاً إثر إنشغال روسيا في أزمة أوكرانيا، وحاجة موسكو للتعاون مع أنقرة الممسكة بزمام البحر الأسود عبر المضائق التركية، ودورها كوسيط وحيد في الأزمة الأوكرانية.
كان جزء من المشروع الروسي والإيراني في سوريا، إلى جانب أهدافه الطائفية والسياسية، مرتبطاً بمجموعة من المكافآت؛ كاقتطاع مجالات النفوذ، ونهب الموارد الطبيعية، وإبرام صفقات إعادة الإعمار المربحة، من بين أمور أخرى.
وبينما نجحت طهران وموسكو في إنقاذ الأسد وتدمير معظم قوى المعارضة وتغيير تركيبة البلاد الإثنية والطائفية عبر طرد ملايين من الغالبية العربية السنة الذين يعتقد أنه أصبحوا أقلية في البلاد، أو على الأقل في المناطق الخاضعة للأسد والأكراد، إلا أنهما لم يحققا نجاحاً في الحصول على مغانم اقتصادية أو إعادة دمح نظام الأسد في المجتمع الدولي.
بوتين، الذي فعل أكثر من أي شخص آخر لمساعدة الأسد على البقاء في السلطة، كان يتوقع عودة سريعة للدماء والأموال التي استثمرها منذ عام 2015. جاء تدخله في سوريا باتفاق مع الجنرال الإيراني قاسم سليماني، الذي سافر إلى موسكو ووضع خرائط على مكتب في الكرملين تشرح المأزق الذي واجهه الأسد دون غطاء جوي مهم.
ومع التعبئة التي شنتها روسيا، وإنشاء منطقة حظر طيران وتدمير المعارضة السورية في الشمال، كانت إيران منشغلة بتعزيز وجودها في بلد لطالما كان حليفاً إستراتيجياً، وأصبح بحلول ذلك الوقت فرصة كبيرة لطموحاتها الخاصة.
خلال معظم العقد الماضي، استخدمت إيران وكلاء لها لمحاربة جماعات المعارضة والجهاديين، مع تأمين النفوذ في الوزارات الرئيسية والوصول في جميع أنحاء البلاد. كانت لدى طهران وموسكو الطموحات نفسها في بداية القتال لمنع سقوط دمشق. ومع ذلك، فإن لديهم تصاميم مختلفة للغاية بشأن نوع الدولة التي يجب أن تنبثق من تحت الأنقاض.
تركيا تخشى الأكراد الذين أسسوا دويلة عنصرية تهمش العرب بدعم غربي
من ناحية أخرى، كان أردوغان خصماً رئيسياً للأسد، حيث اختلف معه بعد شهور من الانتفاضة في عام 2011. ومنذ ذلك الحين، تراوح دور تركيا في الحرب من دعم وتسليح جماعات المعارضة إلى محاولة الحد من سيطرة الأكراد على المناطق الشمالية والشمالية الشرقية للبلاد، ذات الأغلبية العربية، والتي أسس فيها الأكراد بموافقة نظام الأسد وروسيا وبدعم غربي مباشر نظاماً عنصرياً تسيطر فيه أقلية من حزب الشعوب الديمقراطية المنبثق من حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً في تركيا والدول الغربية على الأغلبية العربية في المنطقة، مع إعطاء دور شكلي لبعض العناصر العربية المتعاونة مع ما يعرف بقوات سوريا الديمقراطية.
وفي الجريمة التي اشترك فيها الأسد وإيران والغرب وأكراد سوريا، تم طرد ملايين السوريين العرب السنة رحل جزء كبير منهم لتركيا، ولم يتبق في يد المعارضة السورية الرئيسية سوى معقلين في شمال البلاد، يتعرضان لضغط من قبل نظام الأسد وروسيا.
بعد توفير الملاذ لما يقرب من مليوني سوري، تتعرض حكومة أردوغان للضغط في الانتخابات بسبب المشاعر المعادية للاجئين التي تغذيها المعارضة التركية، وتريد أنقرة الآن إعادة العديد من اللاجئين إلى المناطق التي تهدف إلى إخراجها من سيطرة أكراد سوريا، الذين تعود أصول أغلبهم إلى الأكراد الذين هجروا في الثلاثينيات من تركيا لسوريا، وكان أغلبهم لم يكن لديه الجنسية حتى قبل اندلاع الثورة السورية إلى أن عقد القادة الأكراد في سوريا صفقة مع نظام الأسد، تعاونوا بموجبها معه ضد المعارضة السورية، مقابل منحهم الجنسية وإتاحة الفرصة لهم للسيطرة على مناطق واسعة ذات غالبية عربية سنية.
لم تهدف صفقة التواطؤ بين الأسد وأكراد سوريا فقط للقضاء على المعارضة السورية الرئيسية، بل أيضاً تغيير التركيبة الديموغرافية للبلاد بتقليل أعداد السنة العرب الذين كانوا يمثلون الأغلبية السكانية لصالح العلويين الذين ينتمي لهم الأسد والأقليات المتحالفة معه، وكذلك الأقلية الكردية، التي يقدمها الغرب بأنها مظلومة رغم أن قادتها شركاء في أكبر عملية تطهير طائفي وإثني في منطقة الشرق الأوسط تفوق في حجمها ما جرى في نكبة فلسطين 48، إضافة لتعاونهم المعروف مع خصوم الغرب في طهران وموسكو ودمشق.
إيران ترفض خطة أردوغان
قوبلت تهديدات أردوغان بشن توغل ثانٍ في سوريا، لصد حزب العمال الكردستاني وحلفائه من الحدود، بانتقاد شديد من خامنئي قبل بدء قمة الثلاثاء. تمسكت طهران بخطها القائل بأن الأسد هو المحاور الوحيد الصحيح لسوريا، وزعمت أن المحادثات حول الشمال الشرقي الذي يقوده الأكراد يجب أن تشمل دمشق.
وروسيا أيضاً حريصة على تجنب تدخل عسكري تركي آخر -بعد توغل قصير في أكتوبر/تشرين الأول 2019- في المنطقة التي اكتسبت فيها موطئ قدم. وهي حريصة أيضاً على تأكيد نفوذها في شمال غرب سوريا، حيث لا يزال حوالي 4 ملايين شخص، كثير منهم منفي من أماكن أخرى في البلاد، محشورين في محافظة إدلب، التي تشبه الآن أكبر مدينة خيام في العالم.
ظل سكان إدلب تحت رحمة القوى العالمية خلال معظم العقد الماضي، ولكن بشكل متزايد في الآونة الأخيرة؛ حيث حاولت روسيا تقليص النفوذ التركي في المحافظة وإعادة وصاية الأسد إلى ركن حاسم من البلاد لا يزال خارج سيطرته.
في الأسبوع الماضي، استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة؛ لتقليص الإطار الزمني لإمدادات المساعدات عبر الحدود من تركيا إلى مناطق المعارضة من عام إلى 6 أشهر.
جاء التصويت بعد ضغوط شديدة لإنهاء تسليم المساعدات تماماً، وهي خطوة تخشى مجموعات الإغاثة أنها قد تصبح حتمية مع ترسيخ سوريا مع الصراع الذي كان قائماً، بينما تستمر الجهود الدبلوماسية العالمية المنهكة في الصراع مع أوكرانيا.
كما كان الحال في السنوات الخمس الماضية على الأقل، يجري الحديث عن مستقبل سوريا دون وجود الأسد، الذي ذكَّره بوتين بانتظام أنه يظل في قصره الرئاسي فقط بسبب دعمه.
لا يزال السؤال الآن بالنسبة لسوريا مثيراً للقلق أكثر من أي وقت مضى. وقبل القمة، قدم أردوغان استعداده لمنع دخول فنلندا والسويد إلى الناتو إذا لم يحصل على ما يريده في سوريا. إيران أيضاً ليس لديها مصلحة في إضعاف وجودها في بلد يحمل مفتاح توقعات سياستها الخارجية.
محنة أوكرانيا بدأت يوم تُرك السوريون فريسة للأسد وروسيا وإيران
قد ينسى الكثيرون سوريا، لكنها تظل محركاً قوياً للأحداث العالمية، ولكن الأسوأ أن الأغلبية العربية السنية في سوريا تبدو ضحية مزدوجة للمخطط الإيراني لتهميش السنة في المنطقة المدعومة من روسيا، وبسبب دور الغرب، الذي شجع المعارضة السورية في بداية الثورة على محاربة الأسد، ولكنه لم يكتف فقط بالتخلي عنها، بل اليوم يؤيد جهود قادة أكراد سوريا والأسد في تغيير التركيبة السكانية في شمال البلاد.
والنتيجة قسمت سوريا إلى مستعمرتين؛ إحداهما بقيادة كردية بدعم غربي، وأخرى تابعة لإيران وروسيا، بينما المكون الأساسي الأساسي للشعب السوري تاريخياً مشرد في المنافي أو خاضع لحكم تحالف الأقليات، أو محشور في جيبين ملاصقين للحدود التركية.
واليوم تبدو روسيا تحاول تكرار التجربة السورية في أوكرانيا، حيث تسعى للاستيلاء على مناطق في شرق البلاد، وتحويل سكانها لأغلبية روسية، عبر خليط من التهجير والتدمير وإجبار السكان على تقبل الحكم الروسي وجوازات السفر المقدمة من موسكو، وكأن أوكرانيا قُتلت في اليوم ذاته الذي ترك فيه الغرب روسيا وإيران تنفردان بالشعب السوري.