احتلال وغزو وانهيار اقتصادي وثورة واغتيالات سياسية والآن تفجير.. ما شهدتُه بلبنان في الـ15 سنة الماضية من حياتي

عدد القراءات
1,947
عربي بوست
تم النشر: 2020/08/08 الساعة 12:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/08 الساعة 12:31 بتوقيت غرينتش

مرَّ يومان، وما زلنا نحصي القتلى، ونرعى الأحياء، ونُنقِّب عمَّن دُفِنوا أحياءً. 

مرَّ يومان، وكلُّ ساعةٍ وكلُّ دقيقةٍ بلا نوم يتخلَّلها صوت الزجاج المُهشَّم، وتحطُّم قطع الزجاج المتصدِّع، وتطايُر الشظايا، وأكوام الزجاج المُحطَّم المتناثرة في أركان الشوارع، المزيد من الزجاج والمزيد من الشظايا في قلوبنا. 

مرَّ يومان، ولم يعتذر أيُّ وزيرٍ أو مسؤولٍ حكومي للشعب اللبناني، لم يكترث أحدٌ منهم بزيارة المستشفيات للقاء الجرحى، أو فحص الأضرار التي لحقت بالأحياء السكنية. 

لقي أكثر من 150 شخصاً حتفهم، ولا يزال هناك 500 آخرون مفقودين، بينما أُصيب 4 آلاف شخص، وأصبح 300 ألف شخص بلا مأوى، لكن لم يستقل أحدٌ، وبدأت لعبة اللوم. من الواضح أنه ما مِن أحدٍ مسؤول عمَّا هو بشكلٍ رئيسي إعلان حربٍ ضد الشعب اللبناني. 

تتركَّز الكثير من التساؤلات حول بداية النار التي أطلقت الانفجار في مرفأ بيروت، يوم الثلاثاء 4 أغسطس/آب. والسؤال الأهم هو: لماذا كان هناك 2750 طناً من نترات الأمونيوم فُرِّغَت في ظروفٍ غريبة من سفينةٍ روسية مُستأجَرة في عام 2014، وتُرِكَت في المستودع لمدة 6 سنوات؟ كانت سلطات الموانئ والقضاء وغيرهم على الأرجح في أعلى المستويات، على علمٍ بهذه القنبلة الموقوتة التي تُرِكَت وسط مدينةٍ يقطنها 2 مليون مواطن. 

مرَّ يومان والغضب الأعمى يتضخَّم. "اليوم نحزن، وغداً نُنظِّف، وبعد غدٍ نشنقهم". كانت هذه إحدى الرسائل من بيروت، في بلدٍ يظلُّ رهينةً لمؤسَّسةٍ سياسيةٍ فاسدة وعصابةٍ من أمراء الحرب منذ أربعة عقود. تنتشر صور المقاصل والمشانق على الشبكات الاجتماعية. الأصدقاء الذين كانوا في السابق يتحدَّثون بلطفٍ ويعزفون الجيتار ويخيطون ملابسهم، أقرَّ أحدهم قائلاً: "لم أفهم قط كيف يمكن لأيِّ إنسانٍ أن يقتل إنساناً آخر، ولكنني اليوم يمكنني أن أقتل، أريد أن أقتلهم". 

كان هذا الحدث المُروِّع أشبه بالزلزال وبغارةٍ جوية في آنٍ واحد، لم يشهد أيٌّ مِنَّا حدثاً مثل هذا في لبنان من قبل قط، لم يشهد أيٌّ مِنَّا هذا الشكل من التدمير الكامل، أو حتى يمكنه أن يدرك حقيقةً مدى ما حلَّ بنا وبمدينتنا الحبيبة، رغم أننا مررنا بأكثر مِمَّا قد يمر بحياةِ أحد. 

إذا كنت في منتصف الأربعينيات من عمرك في لبنان، فأنت قد عشت 15 عاماً من الحرب، وشهدت إسرائيل تغزو بلدك مرتين، وثلاثين عاماً من الاحتلال السوري، وجولاتٍ عديدة من الانهيار الاقتصادي وفقدان العملة قيمتها، وحملتين من القصف الإسرائيلي، وثورة، وموجة من الاغتيالات السياسية التي استهدفت صفوف التقدُّميين، ومنذ نهاية العام الماضي 2019 موجة أخرى من الاحتجاجات المُطالِبة برحيل النخبة السياسية الفاسدة، أمراء الحرب أنفسهم الذين شنوا الحرب، ثم عقدوا السلام حتى يتسنَّى لهم ولأصدقائهم أن يملأوا جيوبهم. 

عجَّلَت الثورة بأزمةٍ مالية واقتصادية، كانت في طور التكوين طوال سنوات، ثم تفاقمت بفعل جائحة فيروس كورونا المُستجد والإغلاق. إلا أننا لا نزال صامدين، بمعجزة، ليس بفضل قادتنا، بل رغماً عنهم، بفضل المبادرات الخاصة، والأشخاص الرائعين الذين يديرون منظمات الإغاثة، والمستشفيات، والعيادات، والمدارس، والجامعات، ذلك النسيج الذي يجعل هذا البلد على ما هو عليه: مكانٌ لمجتمعٍ رائع يوضِّح لماذا، رغم كلِّ هذه الآلام، لا يريد الكثير مِنَّا التخلي عن لبنان. 

إن مقاومتنا نعمةٌ ونقمة معاً، نجد طرقاً للتأقلم، لكن هذا يعني أننا نتحايل على المشكلات، نجد حلولاً لكلِّ شيء، لكن هذا يعني أننا لم نجتث السبب من جذوره، لا نريد أن نموت، لذا فإننا نعيش على أيَّةِ حال، نعيد البناء في كلِّ مرةٍ بأفضل ما في وسعنا، لكننا غير مستعدين للقبول بأننا كنَّا نبني على أسسٍ مُزعزَعة. 

إلى أيِّ مدى يمكن لبلدٍ وشعبٍ أن يتحمَّل؟ هل هذه نقطةٌ انعطافية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإلى أيِّ اتِّجاه؟ تمرُّدٌ شامل وتغييرٌ حقيقي من أجل بدايةٍ جديدة، أم يأسٌ كاملٌ وهزيمة؟ 

في فبراير/شباط 2005، اغتيل رئيس الوزراء رفيق الحريري بمُتفجِّراتٍ بَلَغَ وزنها ألف كيلوغرام فجَّرَت موكبه، وأزهقت 22 روحاً، ودمَّرَت منطقةً شُيِّدَت حديثاً آنذاك على شاطئ البحر في بيروت. اتُّهِمَ أباطرة دمشق في ذلك الحين بهذا الاغتيال، وأدَّت موجة الغضب والاحتجاجات العارمة لأكثر من شهرين إلى إنهاء الاحتلال العسكري السوري الذي امتدَّ إلى 30 عاماً، لكنهم تركوا وراءهم نظاماً مُترسِّخاً مكَّن قادة لبنان من مواصلة نهب البلاد لمصالحهم ومصالح أصدقائهم في دمشق. 

يتضمَّن هذا حزب الله، الذي تنامَت قوته مذاك الحين باعتباره حزباً سياسياً وجماعةً مُسلَّحةً لبنانية. يُوجَّه الكثير من الغضب اليوم صوب حزب الله أيضاً، وهناك تكهُّناتٌ شائعة بأن نترات الأمونيوم كانت ملك الحزب، لاستخدامها في صنع القنابل، أو أن النيران بدأت حين استهدفت غارةٌ جوية إسرائيلية مخبأ أسلحة حزب الله في المرفأ. 

ومع أن الإهمال الإجرامي هو التفسير الأكثر ترجيحاً، يتردَّد الناس حتى الآن في تجاهل النظريات الأخرى تماماً. على أيَّةِ حال، يُعَدُّ حزب الله أيضاً جزءاً من نظام الفساد الذي يُغرِق البلاد. وأولئك الذين يريدون حماية أعناقهم في وجه السخط الشعبي المتنامي قد يحاولون توجيه الغضب حصرياً إلى حزب الله، لكننا لا يجب أن ننسى أن الجماعة لا يمكن أن تظل فاعلةً في لبنان دون تواطؤ مباشرٍ أو غير مباشرٍ من معظم المؤسَّسة السياسية، أولئك الذين يسعدون للغاية بإبرام الصفقات وحماية بعضهم البعض. 

لهذا السبب، كان الشعار الذي سيطَرَ على الاحتجاجات، منذ أكتوبر/تشرين الأول، هو "كلن يعني كلن". ولهذا السبب يبدو أن هذه نقطة تحوُّلٍ ذات شأنٍ مختلف؛ نقطة تحوُّلٍ قد تطيح القيادة، أو على الأقل تغل يد عصابة القادة الفاسدين، وتُنشِئ حكومةً جديدة أو تتمخَّض عن نظامٍ جديد؛ عقدٍ اجتماعيٍّ جديد. 

لا تزال هناك الكثير من الأسئلة دون إجابات عن تفاصيل أحداث يوم الثلاثاء، لكن ما يبدو واضحاً هو أن أولئك الذين سمحوا لذلك بأن يحدث لا يمكن أن يكونوا هم أنفسهم الذين يُحقِّقون فيه، لا بد أن يكون هناك تحقيقٌ دولي لضمان ظهور التفاصيل الكاملة، ليس فقط كيف بدأت النيران واندلاع الانفجار، لكن الأهم هو تحديد كيف ولماذا خُزِّنَت هذه المادة الخطيرة في المرفأ، والسلسلة الكاملة للمسؤولية. 

هذه لحظةٌ تصل فيها الحصانة إلى نهايتها في لبنان. هذه لحظةٌ من أجل العدالة، ليس فقط لأولئك الذين ماتوا في هذه الكارثة، بل لكلِّ أولئك الذين قُتِلوا عبر الأربعة عقود الأخيرة. مرَّ يومان، واللبنانيون يفعلون الآن ما يجيدون فعله دائماً: التنظيف وإعادة البناء. إنهم لا ينتظرون الدولة الغائبة أن تساعدهم، لكنهم ينتظرون العدالة. 

– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

كيّم غطاس
مراسلة وكاتبة لبنانية عملت لسنوات مراسلة لشبكة BBC البريطانية، وهي حالياً زميلة كبيرة بمؤسَّسة كارنيغي للسلام الدولي بالشرق الأوسط.
مراسلة وكاتبة لبنانية عملت لسنوات مراسلة لشبكة BBC البريطانية، وهي حالياً زميلة كبيرة بمؤسَّسة كارنيغي للسلام الدولي بالشرق الأوسط.
تحميل المزيد