يحتوي على تفاصيل “مجزرة باريس” وجرائم “منظمة الجيش السري”.. ما الذي سيكشفه بعض أرشيف الاستعمار الفرنسي للجزائر؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/01/10 الساعة 12:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/11/09 الساعة 06:47 بتوقيت غرينتش
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون / رويترز

في خطوة لرأب الصدع وطي صفحة الخلاف مع الجزائر، أعلنت وزيرة الثقافة الفرنسية روزلين باشلو، في الشهر الأخير من السنة الماضية، رفع السرية عن أرشيف "التحقيقات القضائية والأمنية"، التي تمت خلال الثورة التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي.

مصادر مطلعة كشفت لـ"عربي بوست" أن "أهم المواضيع التي سيتضمنها الأرشيف لن تتعلق بالتاريخ العام والكبير، بقدر ما ترتبط بتفاصيل قصص فردية، كتلك المتعلقة بمن اختفوا عقب الحرب؛ وتقدرهم السلطات الجزائرية بألفي ومئتي شخص".

كما يرجَّح أن يحمل الأرشيف إجابات لتساؤلات حول ما يعرف بـ"مجزرة باريس"، التي حدثت في 17 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1961، إضافة إلى محاضر التحقيقات الأمنية وتفاصيل عمليات التفتيش والاستجوابات، وتقارير المحاكمات.

أيضاً، وحسب مصادر "عربي بوست" من المنتظر أن يضم الأرشيف الفرنسي في الجزائر معطيات عن الأفراد المتورطين في إرهاب منظمة الجيش السري L'Organisation de l'Armée secrète OAS، وهي منظمة إرهابية فرنسية أسسها في 11 من فبراير/شباط سنة 1961 جنرالات فرنسا المعارضون للرئيس الفرنسي حينها شارل ديغول، وتضم الموالين لأطروحة الجزائر الفرنسية l'Algérie française، وتؤمن بالاعتماد فقط على العمل المسلح.  

وبحسب تقديرات مؤرخين، تسببت المنظمة في مقتل ما لا يقل عن 2200 شخص في الجزائر ونفذت ما يقرب من 13 ألف انفجار بالعبوات، وارتكبت حوالي 2546 هجوماً فردياً، و510 هجمات جماعية في فرنسا، يقدر العدد الإجمالي للضحايا بـ 71 قتيلاً و394 جريحاً.

محتوى انتقائي

وحسب القرار الفرنسي المتعلق برفع السرية عن جزء من الأرشيف المرتبط بحرب الجزائر، فالأمر يتعلق بالمحفوظات العامة التي تم إنشاؤها في إطار القضايا المتعلقة بالأحداث التي وقعت خلال الثورة التحريرية بين الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1954 و31 ديسمبر/كانون الأول 1966.

أيضاً سيتضمن الأرشيف القضايا المرفوعة أمام المحاكم، وتنفيذ قرارات المحاكم، والوثائق المتعلقة بالتحقيقات التي أجرتها دوائر الضابطة العدلية، والوثائق الموجودة في دار المحفوظات الوطنية ودار المحفوظات الوطنية لأراضي ما وراء البحار، ودار المحفوظات للمحافظات، ودائرة المحفوظات التابعة لمديرية الشرطة ودائرة المحفوظات التابعة لوزارة الجيوش وفي إدارة المحفوظات بوزارة أوروبا والشؤون الخارجية.

في المقابل، استثنى القرار وثائق ذكر أنها لا تزال تحت بند السرية ويمنع الاطلاع عليها، وهي الوثائق المتعلقة بشخص قاصر (تحت السن القانوني)، والوثائق التي من المحتمل أن تعرِّض أصحابها والمتصلين معهم للخطر، ثم الوثائق التي تخص أمن الأشخاص المحددين بالاسم أو الذين يمكن التعرف عليهم بسهولة ممن يشاركون في أنشطة استخباراتية.

هذه الاستثناءات يعتبرها عدد من الباحثين ذريعة الانتقائية التي يمكن أن تطبع نوعية الوثائق المفرج عنها، وطريقة للتهرب من الكشف عن معطيات وأحداث مهمة تشكل صلب مواد أرشيف حرب الجزائر.

في هذا السياق، يرى المؤرخ الجزائري محمد الأمين بلغيث أن الدولة الفرنسية لن تفرج إلا عما قد يشوش على مسار وتضامن مكونات المجتمع الجزائري.

وقال المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" إن اختيار رفع السرية في هذا التوقيت بالذات "هو من أجل إلهاء المجتمع بسرديات جديدة ستكون مادة تلوكها الألسن والأقلام لفترة طويلة، ولنا في ذلك أمثلة من خلال الرسائل والمحاكمات الصورية التي عرفها مسار العدالة في زمن الدولة الفرنسية، خاصة خلال المحاكمات التي أعقبت ثورات القرن التاسع عشر".

وأضاف المتحدث: "أرجح أن نكتشف أن القضاة ورجال الشرطة والدرك الذين صاغوا تلك التقارير، لهم نفس اللغة والأسلوب في تغطية الحقيقة عن العالم وليس عن الجزائريين والمنصفين من الفرنسيين فقط".

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمؤرخ المكلف بالأرشيف الجزائري بنيامين ستورا / أرشيف
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمؤرخ المكلف بالأرشيف الجزائري بنيامين ستورا / أرشيف

عدم تفاؤل

كثيرة هي الأسباب التي تجعل عدداً من الباحثين والمؤرخين غير متفائلين بمحتوى الوثائق المرتقب الإفراج عنها، أولها أن الأمر يتعلق بأرشيف الشرطة والدرك فقط، في حين أُغفل الأرشيف العسكري والإداري، وهو الأهم.

ويعتبر الجيش الفرنسي هو من كان يباشر العمل الميداني في الجزائر، أما عمل الشرطة والدرك فقد كان تكميلياً فقط، وبالتالي فلا تُرجى أي مفاجآت أو معطيات حساسة، ولكن يرتقب الكشف عن معطيات عادية كان ممكناً الحصول عليها وفق تراخيص معينة.

ثاني تلك الأسباب أن تفاصيل التحقيقات القضائية المنتظرة تعني وجود شكاوى، في حين أنه ليس كل ما ارتكب وما اقترف اشتكي ضده، ثم إن من كان يصوغ هذه التحقيقات هو المستعمر، ولم يشارك الضحايا أو جهة محايدة في كتابتها.

من دوافع الارتياب في جدية الخطوة أيضاً تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في شهر مارس/آذار الماضي حول تيسير الوصول إلى الأرشيف للباحثين والمؤرخين، غير أن نص الجريدة الرسمية تضمن استثناءات مرتبطة بالمصلحة العليا للأمة الفرنسية، وهو الأمر الذي يرى فيه مراقبون التفافاً على القرار الشفوي، وتقليصاً لحرية الولوج والتمكن من المحتوى موضوع الأرشيف.

ورغم صدور القرار في الجريدة الرسمية بشكل عام، فإن بعض التفاصيل المهمة لا تزال مجهولة، إذ لا تعرف إلى اليوم تفاصيل مضامين الأرشيف، بل لم يعلن حتى عن الفئات التي سيسمح لها بالاطلاع عليه وعن المسار القانوني الواجب اتباعه للتمكن من ذلك.

ويكبيديا/ اختطاف طائرة زعماء الثورة الجزائرية 1956 / أرشيف
ويكبيديا/ اختطاف طائرة زعماء الثورة الجزائرية 1956 / أرشيف

خطوة جادة أم مناورة سياسية؟

يأتي الإعلان الفرنسي الذي أعقب أزمة عميقة بين البلدين في إطار سياق خاص تسمى حساسية اقتراب الانتخابات الرئاسية المرتقبة في شهر أبريل/نيسان 2022، الأمر الذي يرفع منسوب الشك والارتياب من صدقية الخطوة لدى مراقبين ومهتمين بالملف.

المؤرخ محمد الأمين بلغيث، واحد من هؤلاء، يرى أن الانتخابات الرئاسية الفرنسية استعجلت الإليزيه لرفع السرية عن الأرشيف المتعلق بالفترة التاريخية ما بين نوفمبر/تشرين الثاني 1954 و31 ديسمبر/كانون الأول 1966، إضافة إلى كون الإعلان جاء متزامناً مع زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى الجزائر جان إيف لودريان، تعبيراً عن تجاوز مرحلة شد الأعصاب بين الدولتين.

وأضاف المتحدث في تصريحه لـ"عربي بوست" أن "المسؤولين في قصر المرادية واعون أن ماكرون تجاوز كل الأعراف الدبلوماسية في أكثر من مناسبة، والأنكى هو تكريم (الحركيين) والتعويضات السخية التي قُدمت لهم والاعتذار لهم باسم الدولة الفرنسية، علماً أن الجزائر تعتبرهم خونة الدار، فهم من فتحوا القلعة للعدو، وهذا يعد شتيمة ثانية وتحدياً سافراً، ولهذا قوبلت زيارة المسؤول الفرنسي ببرودة من طرف القائمين على الشأن الجزائري، لأن الجرح عميق ولا يمكن تناسيه".

في المقابل يرى محمد كاكي؛ رئيس جمعية les oranges المعنية بقضايا الذاكرة في منطقة "نانتير" ضواحي العاصمة باريس، أن "المبادرة محمودة تستحق الإشادة، كونها تعتبر تقدماً في مسار الترافع عن قضايا الذاكرة المشتركة بين فرنسا والجزائر، وتُعد تتويجاً واستجابة لجهود الفاعلين في المجال، الذين يطالبون لأكثر من 40 سنة بالاعتراف بجرائم الاستعمار الفرنسي، فهذا يعني أن صوتنا سمع وأن المزيد من الضغط والنضال لا بد أن يؤتي أكله".

وحول محتوى الأرشيف يقر كاكي في حديثه لـ"عربي بوست" بأنه لا ينتظر شيئاً جد حساس أو بالغ الأهمية، بل يرجح أن يُتحفظ على معطيات وتحجب أخرى، يقول: "نعلم جيداً أن التاريخ يكتبه المنتصر، وهذا يعني غياب أي ضمانات لمعرفة صدقية وصحة المعلومات الواردة في هذه الوثائق، ثم إن قراءة هذا الأرشيف يجب أن تكون وفق حس نقدي وعبر نظرة متفحصة، وليس التسليم بمحتواها جملة وتفصيلاً".

من جهة أخرى، لا يستبعد الباحث في قضايا الذاكرة الدوافع السياسية المحتملة خلف هذا الإعلان، بل يؤكد: "هناك مصالح سياسية، خاصة أننا نعرف أن تأثير الكتلة الناخبة الجزائرية في فرنسا معتبر ومهم، لذلك فمن الطبيعي السعي لإرضائها والظفر بأصواتها".

كاكي أضاف أنه من المهم في سياق تحقيق مصالحة الذاكرة خاصة للأجيال المستقبلية اعتماد مواد تاريخية تتناول هذه الحقبة في المناهج والمقررات الدراسية.

بعد إعلان الرئيس ماكرون عن نيته فتح محفوظات حرب الجزائر، لم يستقبل  الأمر بالحماس الذي كان مرجواً، خاصة من لدن الجمعيات الفرنسية المهتمة بموضوع الذاكرة المشتركة، والتي تضم غالباً مقاومين جزائريين أو أولادهم أو حتى مؤرخين فرنسيين  علماً أن هؤلاء هم  المستهدفون بالدرجة الأولى بالقرار..

بلقاسم، رئيس جمعية "أمل" من أجل الذاكرة الجزائرية واحد من أولئك، يقول لـ"عربي بوست" إنه غيرمتحمس لما ستعلن عنه الوثائق، ويرى أن تقرير المؤرخ الفرنسي بنجامان ستورا حول استعمار الجزائر كان فقط لتهدئة التوترات وكذلك يتوقع أن يكون الأرشيف الفرنسي حول حرب الجزائر، يضيف موضحاً: "لن يكون سوى مناورة احتيالية للتمويه في مرحلة حساسة، ولن نجد فيه سوى أحكام قضائية صادرة عن قضاة بموجب القانون المطبق في تلك الفترة".

يضيف بلقاسم: "بل حتى هذا الجزء الضيق من الأرشيف سيتم التعامل معه بانتقائية، فأنا مثلاً لا أنتظر الكشف عن تفاصيل تخص أشخاصاً مثل والدي الذي شارك في حرب الجزائر وتعرض للتعذيب صعقاً بالكهرباء والإغراق في الماء وتوفي بمرض السرطان إثر مضاعفات التجارب النووية التي أجرتها فرنسا في الصحراء الجزائرية، والدي ذاق ألواناً من التعذيب على يد الجيش والشرطة الفرنسيين بعد أن بلغت به سيدة من "الحركيين"، لكن إعلان مثل هذا طبعاً لن يخدم الدولة الفرنسية، ولهذا السبب أشيرَ  إلى استثناءات في القرار، ففي حالة والدي يمكن التذرع بكون تلك السيدة معرضة للخطر في حال نشر المعلومة قصد تجنب الإشارة إلى القصة، ومثل هذا كثير للأسف".

مسار إداري غير واضح

إلى غاية الحادي عشر من ديسمبر/كانون الأول الماضي، كان الاطلاع على مضامين أرشيف حرب الجزائر حكراً على الباحثين والمؤرخين، عبر تقديم طلب فردي خاص لغايات بحثية علمية، اليوم، وبعد دخول القرار حيز التنفيذ عقب صدوره في الجريدة الرسمية، تقول سيلين جويون، رئيسة جمعية أمناء الأرشيف في فرنسا إنه بات متاحاً للجميع، ودون حاجة لإثبات سبب بحثي، الاطلاع على الوثائق موضوع القرار.

لكن، رغم ذلك يتساءل كثيرون ومنهم باحثون ومؤرخون تحدث إليهم "عربي بوست" عن سر غموض المسار الإداري والقانوني الواجب اتباعه لهذه الغاية! إذ لم يوضح القرار الصادر هذا الجانب، كما لم يرد أي تفصيل عامة نحو الأمر.

بريجيت غيغيانو، مساعدة نائب مدير  قسم إدارة المحفوظات والتواصل وتثمين الأرشيف بوزارة الثقافة الفرنسية، أوضحت لـ"عربي بوست" أن على الراغب في الاطلاع على وثائق الأرشيف تحديد المستندات التي يريدها بدقة ثم إرسال طلب للوصول إلى الخدمة التي تحتفظ بالوثائق، بعدها يتم فحص الطلب للنظر في مدى ملاءمته لأمر الإعفاء العام، وعند تسلم الموافقة من الخدمة المعنية، يمكن حينها التوجه إلى عين المكان لمراجعة المستندات المطلوبة، وتضيف: "في الواقع، هذه المحفوظات ليست رقمية، إلا بعض الاستثناءات؛ لذلك يفضل استشارة الإدارة المعنية قبل القيام بأي خطوة".

“لماذا المصادر مجهولة في هذه القصة؟
بموجب إرشادات موقع “عربي بوست”، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر والتي تأكدنا من مصداقيتها، لكننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى.
نحن ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، لكن لدينا قواعد وإجراءات لمعالجة هذه المخاوف، منها أنه يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر، ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة. نحن نتفهم حذر القراء، لكن يجب تفهم أن المصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية، وسلامتها.”

تحميل المزيد