تُصنَّف ظاهرة الاحتراق الذاتي البشري واحدة من أغرب الظواهر الغامضة التي تشهدها البشرية، والتي تناولها العلم بمحاولات التفسير والأطروحات المختلفة، ولكن على الرغم من هذا يظل الجدل حولها قائماً؛ لأنه لم يتسنَّ للعلماء ذكر أسبابها حتى اليوم، أو التأكد، بشكل قاطع ونهائي، من صحة تفسيرها.
ولعل وجود ما يزيد على 200 حالة مسجلة بشكل مؤكد للاحتراق الذاتي البشري عبر التاريخ الحديث حتى اليوم هو واحد من العقبات التي واجهت العلماء، وكانت عائقاً في دحض الظاهرة، وتفسيرها على أنها أكذوبة أو أسطورة مثلاً؛ بل إن الفحوصات في بعض الحالات كانت مُحيرة وتتنافى مع منطقية أسباب احتراق الأجسام البشرية حتى لأسباب خارجية، مثل ملامسة اللهب أو الاحتراق بالكيماويات، والآن سنتعرف ظاهرة الاحتراق الذاتي البشري، ومحاولات تفسيرها.
ما هو الاحتراق الذاتي البشري؟
الاحتراق الذاتي البشري Spontaneous Human Combustion هو عبارة عن اشتعال النيران في جسد شخص تلقائياً، ودون أي عامل خارجي محدد، مثل ملامسة اللهب أو التعرض للوهج أو المواد الكيميائية أو البرق أو غيره من أسباب الاحتراق، وقد يسبب هذا الاشتعال حروقاً أولية أو بسيطة في الجلد أو قد يتلف أجزاءً بعينها في الجسم، مثل اليدين فقط، أو القدمين فقط، وقد يحترق الجسم بالكامل – في درجة حرارة تصل إلى 1600 درجة مئوية أحياناً، وهي الحالات الأكثر انتشاراً بين تقارير الاحتراق الذاتي البشري، وعادة ما تتضمن التقارير عنه احتمالية كبيرة لاشتعال الجسم من الداخل أولاً، ثم انتشاره إلى خارج الجسم.
ولعل أبرز الأسباب التي تجعل الاحتراق الذاتي البشري ظاهرة محيرة هو أن الأجساد المحترقة المبلغ عنها في هذه الحالات كان حريقاً محدوداً التهم الجسد فقط دون أن يؤثر الحريق أو الحرارة على المكان بأكمله، ولم يمتد الحريق لأي أجزاء مجاورة للجثة، أي أن محيط البقايا أو الجثة دائماً ما يكون سليماً لم يتعرض للحرارة.
أبرز حالات الاحتراق الذاتي
من بين أبرز الحالات الغامضة للاحتراق الذاتي كانت هذه الحالات التي تعود أولاها إلى القرن الثامن عشر، وبعض المصادر ترجح أن هناك العديد من الحالات حول العالم لم تسجَّل رسمياً.
أبرز حالة موثقة للاحتراق الذاتي كانت الوفاة الغامضة للكونتيسة الإيطالية كورنيليا باندي Cornelia Bandi، التي كتب عنها الطبيب الشرعي جافين ثورستون في المجلة الطبية البريطانية عام 1938، والذي نشر بالأساس في دورية علمية قديمة تعرف باسم "التعاملات الفلسفية" عام 1746، وجاء في توصيف وفاتها أنه عثر على جثتها متفحمة في مقعدها، واحترقت ملابسها تماماً، ولكن النيران لم تطل أي شيء يحوطها من أثاث.
حالة أخرى للاحتراق الذاتي سُجلت عام 1966 في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، عندما عثر على البقايا المحترقة للدكتور "ج. ايرفينغ بنتلي" البالغ من العمر 92 عاماً، وكانت جثته على أرض حمام شقته، متفحماً بنسبة الثلثين، ووجدت ساقه منفصلة عن بقية جسده فيما لم يتأثر الدهان على جدار الحمام.
ولكن عندما نتحدث عن الاحتراق الذاتي تأتي أشهر حالة له على الإطلاق اليوم، وهي حالة ماري هاردي ريسير، البالغة من العمر 67 عاماً، فقد سجلت حالتها في في 1 يوليو 1951 بولاية فلوريدا الأمريكية عندما اشتعل جسدها أثناء جلوسها على مقعدها المفضل، وتم أكتشاف الحادث عندما لاحظت جارتها عندما ذهبت لطلب المساعدة منها أن مقبض الباب الخارجي شديد السخونة، وأن جارتها لا تستجيب لطرقاتها، فأبلغت الشرطة التي جاءت لتجد "ماري ريسر" أو بقايا جسدها على شكل دائرة تفحمت يبلغ قطرها 120 سم، وكان ما تبقى من جسدها أجزاء محترقة، أما بطانة المقعد كانت محترقة بالكامل ، وبالفحص عثر على بقايا محترقة بشدة لعظام ظهرها وبقايا جمجمتها التي انكمشت بفعل النيران شديدة الحرارة، وما يقارب 5 كيلوغرامات من الرماد المحترق.
وأكد تقرير الشرطة آنذاك أن الضحية تحولت إلى "كتلة من الدخان" عندما اشتعل رداؤها المصنوع من مادة rayon-acetate شديدة الاشتعال، و"يرجح" أن يكون سبب الاشتعال هو بقايا لفافة تبغ لم تنطفئ؛ ولكن أقر الجميع ممن يعرفون المرأة أنها لا تدخن، وحتى البقايا لم تكن تتضمن أي بقايا تبغ محترق.
الطب الشرعي لاحقاً أفاد بأن تحول الجسم إلى هذا النوع من الرماد يستلزم حرارة تبلغ على الأقل 3000 درجة مئوية، وأنه من المفروض منطقياً أن يؤدي هذا أيضاً إلى احتراق المنزل بأكمله، ولكن الضرر في الغرفة كان ضئيلاً جداً وفي نطاق لا يتجاوز متراً وربع المتر، وكان السقف والحوائط المحيطين بالبقايا متفحمة أو متسخة، ولم يعثر على أي محفزات تُسرع الاشتعال.
وهناك في التاريخ حتى اليوم ما يقرب من 200 حالة مسجلة حول العالم للاحتراق الذاتي الداخلي، والتي تتراوح ما بين احتراق كامل وجزئي للجسم.
التفسير العلمي لظاهرة الاحتراق الذاتي .. هل حُسم الأمر؟
العديد من التفاسير العلمية لهذه الظاهرة انتشرت على مر القرون وتناولتها أبحاث بالتحليل، ولكن هناك افتراض علمي شائع لها هو أنه عادة ما يحدث الاحتراق بسبب "شعلة ضئيلة للغاية من مصدر قريب"، وتبدأ ضئيلة جداً ثم تجد محفزات تساعد على تحولها لحريق كبير، ومن بين هذه المحفزات تفاعل كيميائي جسدي نادر يحدث في حالات ارتفاع نِسب الكحول في الدم بالنسبة لمدمني الكحول، ولكن لاحقاً دحض العلماء هذه الفرضية، ونفوا إمكانية اشتعال الكحول داخل الجسم.
افتراض علمي آخر هو حدوث نوع نادر من تفريغ شحنات الكهرباء الساكنة أو الاستاتيكية Electrostatic Discharge داخل الجسم، وقد يسبب الاشتعال الذاتي، خاصة إذا كانت هناك نسب دهون عالية، فجسم الإنسان يحتوي على شكل من أشكال الطاقة المخزنة في الدهون داخل الجسم، وهي طاقة كافية للحرق الكيميائي للعناصر الغذائية كعملية حيوية طبيعية داخل الجسم، ولكنها في الغالب لا يمكن أن تسبب أي اشتعالات عالية الدرجة مثل حوادث الاحتراق الذاتي.
ومن بين التفاسير المحتملة أيضاً هو تفاعلات كيميائية لنوع معين من الأحماض النووية داخل الأجساد بسبب نقص عنصر ما، أو سوء التغذية، فيتسبب هذا في تفاعلات ذات "طبيعة انفجارية" مولدة للحرارة تحدث في الجهاز الهضمي لجسم الإنسان.
ولكن على الرغم من كل هذه التفاسير العلمية المحتملة، لم يتم حتى اليوم تقديم أي دليل علمي دامغ يحسم الأسباب، ويقدمها للعالم على أنها تفسير طبي علمي متماسك، ولكن ندرة الظاهرة أيضاً هو ما يجعلها حتى اليوم تتأرجح بين الحقيقة والأسطورة.