في خضم الصراعات المسلحة بين الجيوش تتطاير الرصاصات، وتهدر الطائرات وتعلو أصوات القصف فوق كل شيء؛ لكن هناك أسباب أحياناً تجبر الأطراف المتحاربة على ترك أسلحتهم والتفكير في طرق لرفع رايات التوقف عن القتال، قد تتباين هذه الأسباب ما بين هدنة الراحة أو إعادة التجهيز أو حتى الامتثال لقرار سياسي، أو تمهيد غير مباشر للاستسلام من قبل أحد الأطراف.
لكن أحياناً أيضاً تتوقف الحروب لأسباب غريبة، غير معتادة في قلب المعارك الكبرى، ومن بين هذه الأسباب غير الاعتيادية كانت أغرب أسباب توقف الحروب أو إعلان الهُدنات بين الجيوش.
محاربة الذئاب
في الشتاء قارس البرودة عام 1917، أثناء الحرب العالمية الأولى، كان جنود الجيش الروسي يشتبكون مع جنود الجيش الألماني في عدة جبهات متاخمة لحدود الإمبراطورية الروسية، ومن بين هذه المعارك كانت معركة دارت في فبراير\شباط في إحدى الغابات الممتدة داخل مقاطعة ليتوانيا -دولة ليتوانيا الآن-، والتي كانت مغطاة بالجليد المنهمر.
وهذا الشتاء قارس البرودة لم يكن فقط ظرفاً صعباً للقتال، ولكنه تسبب في اختفاء الحيوانات المختلفة في الغابات والتي كانت تشكل طرائد مثالية لواحدة من فصائل الذئاب الروسية الضخمة، وهو ما أدى إلى تضور هذه الذئاب جوعاً وجعلها غاية في الشراسة، وأصبحت بالغة العنف في مهاجمة جثث الجنود الألمان والروس، ثم الأحياء منهم والذين كانوا قد اتخذوا الغابة أرضاً للمعركة، وهو ما دفع الجيشين إلى وقف القتال وإعلان الهدنة لتنظيم حملات للتخلص من الذئاب، قبل أن يستأنفا القتال مرة أخرى.
الاحتفال بالعيد
في قلب أحداث الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في التاريخ من 16 ديسمبر/كانون الأول 1944 وحتى 25 يناير/كانون الثاني 1945 حدثت معركة الثغرة Battle of the Bulge، والتي عرفت أيضاً بهجوم أردين المضاد Ardennes Counteroffensive، وهو هجوم ألماني رئيسي كان هدفه ردع قوات الحلفاء التي هاجمت الأراضي التي سيطرت عليها ألمانيا في بلجيكا وفرنسا.
وفي ليلة عيد الكريسماس وأثناء تباطؤ مسار المعارك الضارية بين الحلفاء والقوات الألمانية بقرب إحدى الغابات المسماة غابة "هيرتجن" الواقعة على الحدود البلجيكية الألمانية، توجهت مجموعة من الجنود الأمريكيين إلى أحد المنازل الذي تقطنه أسرة ألمانية طلباً لبعض المؤن البسيطة، فكان رد فعل الأسرة الألمانية هو الترحيب بالجنود "الأعداء" بشرط توقيف أي قتال احتراماً للأعياد وروح الكريسماس، فوافق الجنود الأمريكيون، وبعد قليل أثبت الأمريكيون حُسن نواياهم عندما جاءت إلى المنزل نفسه مجموعة من الجنود الألمان الذين وافقوا على الطلب نفسه، واجتمع أفراد الجيشين في المنزل للعشاء احتراماً للعيد.
أغرب أسباب توقف الحروب: أغنية تعطل القتال!
أحداث هذه الهدنة الغريبة ذات اللمسة الشاعرية كانت أثناء الحرب الفرنسية البروسية Franco-Prussian War والتي تعرف أيضاً باسم الحرب الفرنسية الألمانية، والتي شهدت نزاعاً بين الإمبراطورية الفرنسية وتحالف الولايات الألمانية بقيادة مملكة بروسيا، واستمر الصراع فيها من يوليو\تموز 1870 إلى 28 يناير\كانون الثاني 1871، وكان سببها بالأساس رغبة الإمبراطورية الفرنسية في استعادة الهيمنة في أوروبا بعد أن خسرتها لصالح الإمبراطورية الروسية 1866 بعد ضم النمسا للتحالف البروسي.
وفي إحدى الليالي التي احتدمت فيها المعارك، وقرب منتصف الليل مع خفوت وتيرة الحرب، قفز جندي فرنسي من خندقه ووقف في موقع مكشوف ورفع عقيرته بالغناء، وكانت الأغنية هي إحدى الترانيم الكنسية التي اشتهرت في أوروبا وعُرفت باسم "أيتها الليلة المقدسة" O Holy Night، وبعد لحظات توتر مخيف، لم يترك أحد من جنود الجبهتين على الإطلاق، وأنصت الجميع لغناء الجندي الفرنسي، وتسبب هذا في توقف القتال لمدة 24 ساعة كاملة، كانت بمثابة هدنة غير مُعلنة امتثل لها الطرفان.
هدنة لوقف ثورة
هذه الهدنة سُجلت في التاريخ أثناء أحداث الحرب العالمية الأولى، وتحديداً بين الطرفين؛ الإمبراطورية العثمانية التي تحالفت مع قوات (المركز) وتكونت من ألمانيا والنمسا والمجر والإمبراطورية العثمانية وبلغاريا؛ والطرف الآخر كان فيلق "الأنزاك" وهو فيلق الجيش الأسترالي والنيوزيلندي والذي كان يحارب بالتحالف مع قوات (الوفاق) المكونة من بريطانيا وفرنسا وصربيا والإمبراطورية الروسية وإيطاليا واليونان والبرتغال ورومانيا والولايات المتحدة.
وفي عام 1918 كانت قد بدأت المناوشات بين فيلق "الأنزاك" في إحدى بقاع الأراضي العربية -الأردن حالياً-، وبعد أن احتدمت المواجهات واقترب الجيش العثماني من استنفاد موارده وذخيرته وبدا على مشارف الهزيمة، تدخلت بعض القوى من قبائل العرب الثائرة على الحكم العثماني (من بين أحداث الثورة العربية الكبرى)، ولكن قادة فيلق الأنزاك أدركوا أن الأمر قد يؤدي إلى إبادة قوات العثمانيين تماماً في حال تكالب الثوار العرب عليهم، فوافق على هدنة لوقف إطلاق النار بينه وبين الجيش العثماني حتى تتمكن القوات العثمانية من لمّ شملها والتعامل مع القبائل العربية.
طبق الحساء الذي أنهى الحرب
الطعام هنا لعب دوراً أساسياً في نهاية الحرب التي اشتعلت بين القوات البروتستانتية والكاثوليكية في سويسرا، أواخر القرن السادس عشر، والتي كانت قد نشبت إثر قيام البروتستانت بإعدام قِس كاثوليكي في مقاطعة ثورجو في مايو/أيار 1528 ورد الكاثوليك بإحراق قس بروتستانتي في مقاطعة بادن.
وفي الأحداث التالية لهذا النزاع زحف الجيشان قرب حدود مقاطعة "تسوغ" واجتمعا للمواجهة المباشرة في إحدى الساحات ولكن بدون أي اقتتال فعلي. وفي أثناء المواجهة السلبية وعناء الزحف، تبادل الطرفان الحديث من أجل التفاوض على عدم إراقة الدماء، واشترك أفراد الجيشين بعد قليل في إعداد قدور الحساء بعد جوع طويل وممتد، وكان هذا بمثابة هدنة غير معلنة بين الطرفين حتى انتهاء حرب "كابيل" الأولى عام 1925، ولكن الأمور لم تستمر هادئة، فعادت الاضطرابات بين البروتستانت والكاثوليك في سويسرا ونشبت حرب "الكابيل" الثانية عام 1531.