أدى موقف جو بايدن الداعم لإسرائيل إلى إشعال مشاعر الغضب والكراهية تجاه واشنطن وليس تل أبيب فقط، فكيف تضر سياسات الرئيس الأمريكي بمصالح بلاده في المنطقة؟
ففي الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل قصفها العشوائي لقطاع غزة، كانت الاستعدادات تجري على قدم وساق استعداداً لوصول الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى دولة الاحتلال، ومنها إلى الأردن لعقد قمة رباعية تجمعه مع الملك عبد الله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وكان مقرراً عقدها الأربعاء 18 أكتوبر/تشرين الأول.
المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي، كان قد قال في مؤتمرٍ صحفي مساء الإثنين، 16 أكتوبر/تشرين الأول، إن بايدن سيركز على "الحاجة الماسة لدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، وكذلك منح الأبرياء القدرة على الخروج منها"، مضيفاً أن الرئيس بايدن سيعقد اجتماعات في تل أبيب وعمّان مع قادة الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية.
زيارة بايدن إلى إسرائيل
ورصد تقرير لشبكة CNN الأمريكية أسباب ودوافع زيارة بايدن إلى إسرائيل وعقده قمة رباعية في العاصمة الأردنية، وهي المرة الأولى التي يزور فيها رئيس أمريكي دولة الاحتلال خلال "حالة الحرب"، مما يشير إلى مدى الحاجة إلى القيام بالزيارة والالتقاء "وجهاً لوجه" مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وفريقه، إضافة إلى لقاء زعماء عرب في المنطقة.
جاء بايدن إلى المنطقة ساعياً إلى إقناع نتنياهو أولاً بالموافقة على اتفاق يقضي بإدخال مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة عبر معبر رفح مقابل خروج الرعايا الأجانب، وخاصة الأمريكيين، من القطاع، وهي المهمة التي فشل وزير خارجيته أنتوني بلينكن في إنجازها بسبب الرفض الإسرائيلي.
وبحسب تقرير لصحيفة فايننشيال تايمز البريطانية، كان جو بايدن يراهن على أن زيارةً سريعةً إلى الشرق الأوسط هذا الأسبوع يمكن أن تساعد في منع توسع الصراع بين إسرائيل وغزة في جميع أنحاء المنطقة، وتخفيف استهداف حليفته إسرائيل للمدنيين في غزة وتهدئة المخاوف في العواصم العربية من توسع نطاق الصراع.
مهمة دبلوماسية محفوفة بالمخاطر والمكافآت المحتملة، إذ قد تربط رحلة بايدن إلى إسرائيل بينه وبين الاجتياح البري المرتقب لقطاع غزة، مما يثير المزيد من الغضب تجاه الولايات المتحدة. وكان بإمكانه في قمةٍ مع الزعماء الإقليميين في عمان، الأردن، أن يؤكد للحلفاء العرب أن الولايات المتحدة تظل ملتزمة بأمنهم أيضاً، وتحافظ على الدفع من أجل السلام الإقليمي الأوسع – وهو الشعار الذي ترفعه الإدارة الأمريكية الحالية دون أن تتخذ أي إجراءات لتحقيقه.
لكن جيش الاحتلال الإسرائيلي استبق وصول بايدن بارتكاب مجزرة هي الأكثر وحشية منذ بدأت الحرب يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وربما تكون واحدة من أسوأ المجازر الإسرائيلية على الإطلاق، عندما تعرض المستشفى الأهلي المعمداني في قطاع غزة لقصف أوقع مئات الشهداء والمصابين.
أشرف القدرة، المتحدث باسم وزارة الصحة الفلسطينية قال، الأربعاء 18 أكتوبر/تشرين الأول، إن المئات استشهدوا، مضيفاً أن عمال الإنقاذ ما زالوا ينتشلون الجثث من تحت الأنقاض. وفي الساعات الأولى بعد القصف الإسرائيلي مساء الثلاثاء 17 أكتوبر/تشرين الأول، كان رئيس الدفاع المدني في قطاع غزة قد أعلن عن استشهاد أكثر من 300 شخص، بينما قدرت مصادر وزارة الصحة عدد الشهداء بأكثر من 500.
لكن مناورة الرئيس الأمريكي تعرضت لخطر النتائج العكسية قبل حتى أن يصل إلى المنطقة، في أعقاب قصف المستشفى المعمداني في قطاع غزة: فأولاً، جاء قرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالانسحاب من الاجتماع المقرر مع بايدن، بعد ذلك، وبينما كان بايدن يغادر إلى تل أبيب على متن طائرة الرئاسة، أعلن البيت الأبيض تأجيل المحطة الثانية من رحلته للقاء العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
وكان من المقرر أصلاً أن يزور بايدن الأردن أيضاً، لكن اجتماعاته مع القادة العرب أُلغِيَت أثناء مغادرته واشنطن، مما كلفه فرصة لإجراء المحادثات وجهاً لوجه، وتلك المحادثات يعتبرها حاسمةً لتجاوز هذه اللحظة المشحونة. الآن محطة بايدن الوحيدة هي إسرائيل، حيث يجتمع مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. جون كيربي، المتحدث باسم الأمن القومي بالبيت الأبيض، قال للصحفيين على متن طائرة الرئاسة إن بايدن "يريد أن يتعرَّف على أبعاد الوضع على الأرض من الإسرائيليين، وسوف يطرح بعض الأسئلة الصعبة". لكن كيربي أضاف قائلاً: "سيسألهم كصديق".
لكن بايدن واصل موقفه المتبني شكلاً ومضموناً للموقف الإسرائيلي وردد روايات الاحتلال بشأن قصف المستشفى كما ردد رواياته بشأن "قتل المقاومة للأطفال" من قبل.
الغضب يشتعل تجاه أمريكا
تناول تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية كيف أثار الموقف الأمريكي غضباً عارماً في الشرق الأوسط، لا يقتصر على إسرائيل فحسب، بل موجه نحو الولايات المتحدة أيضاً باعتبارها القوة العالمية التي أعلنت دعمها الثابت لحليفتها الرئيسية في المنطقة.
وعلى الرغم من أن مشاعر الغضب تجاه أمريكا قد تأججت أكثر بعد قصف المستشفى المعمداني، فإنه حتى قبل ذلك، بدأ العديدون في المنطقة ينظرون إلى ما تقوم به إسرائيل باعتباره مذبحة برعاية أمريكية للمدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر.
فقد قطعت إسرائيل الماء والدواء والكهرباء عن القطاع، وتُواصل استهداف غزة بغارات جوية دموية أسفرت عن رفع حصيلة الشهداء لأكثر من 2,800 قبل مذبحة المستشفى، 70% منهم من الأطفال والنساء.
وينظر العديد من العرب إلى الحكومة الأمريكية على أنها لا تكترث لمعاناة الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي، فضلاً عن كونها شريكةً في تلك المعاناة أيضاً. ولا شك أن التعهدات الأمريكية بالحفاظ على الدعم "الثابت" وتقديم المساعدات الأمنية بلا شروط لإسرائيل قد أججت تلك المشاعر، بالتزامن مع استعداد إسرائيل لاجتياح قطاع غزة برياً.
نبيل فهمي، وزير الخارجية المصري الأسبق، قال للصحيفة الأمريكية: "هناك مشاعر غضب هائلة في العالم العربي، حتى من جانب أولئك الذين لا يدعمون حماس". ثم أردف أن القوى الغربية "أعطت إسرائيل الضوء الأخضر. وستصبح يد الغرب مخضبةً بالدماء مع ازدياد الأوضاع دموية".
ويُمكن القول إن حالة الغضب شديدة للغاية لدرجة أن أصداء عبارة "الموت لأمريكا" عادت لتتردد في أرجاء المنطقة، بما في ذلك الاحتجاجات التي شهدتها البحرين يوم الجمعة 13 أكتوبر/تشرين الأول، رغم كونها حليفة مقربة من الولايات المتحدة، وكانت ضمن الدول التي وقَّعت اتفاقات للتطبيع مع دولة الاحتلال عام 2020.
بينما قال العديد من الفلسطينيين والعرب في مقابلات مع "نيويورك تايمز" إن الخطاب الصادر عن كبار المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين يُعد غير إنساني وداعياً للحرب؛ حيث وصف بايدن هجوم حماس في بداية الحرب بأنه "شر خالص ومحض"، تماهياً مع تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت: "نحن نحارب حيوانات بشرية.. لن يكون هناك حماس بعد اليوم، سوف نقضي على كل شيء".
وخلال رحلاته حول المنطقة في الأسبوع الماضي، لمَّح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى أن إدارة بايدن ستتساهل بشدة مع أي شيء ينجم عما وصفه بأنه "رد إسرائيل العسكري على هجوم حماس"، في إشارة إلى عملية "طوفان الأقصى"، علماً بأن إسرائيل تواصل قصف قطاع غزة المحاصر، بمبانيه ومستشفياته وطواقمه الطبية وأراضيه، فيما يصفه كثير من خبراء القانون بأنه "جرائم حرب"، بحسب القانون الدولي.
فيما قالت ديانا بوتو، فلسطينية الداخل التي عملت كمحامية في المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، إنها لم تتوهم مطلقاً أن الولايات المتحدة ستلعب دوراً مختلفاً في هذا الصراع؛ نظراً لدعمها الثابت لإسرائيل. ومع ذلك، قالت ديانا إنها مصدومة من "رد فعل إدارة بايدن": "أشعر وكأن أحدهم انتزع أحشائي.. هذه الدرجة من التحيز لإسرائيل ترقى لاعتبارها دعماً للإبادة الجماعية".
كيف يضر بايدن بمصالح بلاده في الشرق الأوسط؟
في منطقة الشرق الأوسط الأوسع، لا يرى أغلب الناس إسرائيل على أنها "ضحيةٍ لهجوم غير مبرر"، بل يرونها كقوةٍ محتلة استعمارية ترعاها الولايات المتحدة وتضطهد الفلسطينيين منذ عقود؛ إذ قال خليل الدخيل، المفكر السعودي البارز، إن أكثر ما أحبطه هو أن القوى الغربية "تتبنى الرواية الإسرائيلية للأحداث بشكلٍ أعمى". وأردف: "أنتم تقفون ضد الاحتلال في أوكرانيا -فهل يمكنكم إنكار أن الفلسطينيين يعيشون تحت احتلال؟ لم يطلب منكم أحد أن تذهبوا وتعلنوا الحرب ضد إسرائيل؛ لأنها تحتل فلسطين، بل يطلب منكم الناس أن تتصرفوا بعقلانية وحكمة وتقنعوا حلفيتكم بذلك -أو تعيدوها إلى رشدها".
وفيما بدا أنه تخفيف من حدة تصريحات المسؤولين الأمريكيين في الأيام الأخيرة، أكد هؤلاء أن المدنيين الفلسطينيين لا يجب أن يعانوا بسبب حماس. ويوم الأحد، 15 أكتوبر/تشرين الأول، عيّنت وزارة الخارجية ديفيد ساترفيلد كمبعوث خاص للشؤون الإنسانية من أجل حل أزمة غزة. كما حاول بايدن إثناء إسرائيل عن إعادة احتلال غزة بشكلٍ كامل خلال مقابلةٍ أجراها مع برنامج 60 Minutes على قناة CBS.
وبعد وقتٍ قصير من إقلاع الطائرة الرئاسية متجهةً نحو إسرائيل، أصدر بايدن بياناً حول تفجير المستشفى في غزة قائلاً: "أشعر بالغضب والحزن العميق حيال تفجير المستشفى الأهلي العربي (المعمداني) في غزة، وخسائر الأرواح الفظيعة التي نتجت عنه". وأردف أنه تحدث مع زعماء المنطقة وأمر فريقه للأمن القومي بالنظر فيما حدث. لكن بعد وصوله إلى تل أبيب ولقاء نتنياهو، عاد وتبنى الرواية الإسرائيلية التي لا يصدقها أحد غيره على ما يبدو.
على أية حال، تقول الباحثة غير المقيمة في Middle East Institute حفصة حلاوة إن الضرر الذي أصاب صورة الولايات المتحدة المهترئة في الشرق الأوسط قد وقع بالفعل. وأردفت حفصة: "ليس لدى الأمريكيين أي مكانة أخلاقية في هذه المنطقة".
ومع استعداد إسرائيل لاجتياحها البري على قطاع غزة المكتظ بالسكان، استحضر ضباط الجيش الأمريكي ذكريات معركة الفلوجة بعد عام من الغزو الأمريكي للعراق، وبدأوا في نقل الدروس المستفادة منها إلى نظرائهم الإسرائيليين، بحسب الصحيفة الأمريكية. ويثير هذا دهشة البعض بطبيعة الحال، فالغزو الأمريكي للعراق بني على أكاذيب ثبت لاحقاً أنها وظفت عن عمد لتضليل الرأي العام الأمريكي والغربي، والأمر نفسه يتكرر اليوم فيما تقوم به إسرائيل بحق الفلسطينيين وتدعمه إدارة بايدن.
وقالت حفصة إن الأسبوع الماضي ذكرها بأجواء ما بعد هجمات الـ11 من سبتمبر/أيلول، والتمهيد للغزو الأمريكي للعراق: "إذا شاهدت القنوات الإخبارية لخمس دقائق، فستجد أن ما نشهده حالياً هو إسلاموفوبيا حقيقية ومحضة كالتي شهدناها في 11 سبتمبر/أيلول. وها نحن نستخدم اللغة ذاتها بعد مضي 23 عاماً. لم يتعلم الأمريكيون شيئاً".
وفي العراق، التي لا تزال تعاني من تداعيات الغزو الأمريكي، سيطرت مشاعر الإرهاق على الناس وهم يشاهدون الأحداث تتكشف في فلسطين، كما شعروا بمزيج من الغضب وخيبة الأمل أيضاً؛ إذ قال مؤيد جبير، أستاذ القانون والعلوم السياسية في جامعة الأنبار: "لن تهتم أمريكا لو مات مليون أو مليار عربي ومسلم طالما أن مصالحها لم تتضرر".
وتصاعدت خيبة الأمل من موقف الولايات المتحدة في جميع أرجاء المنطقة، ووصل الأمر ببعض الحكام العرب إلى إلقاء محاضرات على المسؤولين الأمريكيين حول حقوق الإنسان في مشهدٍ غير مألوف، حيث قال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لبلينكن إن إسرائيل يجب أن ترفع حصارها عن غزة، وإن المملكة "ترفض تدمير البنية التحتية والخدمات الأساسية التي تؤثر على حياة المدنيين اليومية".
وفي مصر، قال الرئيس عبد الفتاح السيسي إن اليهود في بلاده لم يتعرضوا للاضطهاد، وأشار إلى أن الولايات المتحدة مصدومة بمقتل الإسرائيليين أكثر من صدمتها بعقودٍ من القمع للفلسطينيين.
وبعد تفجير المستشفى الأهلي العربي في غزة، انهمرت الإدانات من جميع دول العالم العربي. وبادرت تركيا وقطر وإيران لتحميل إسرائيل المسؤولية. بينما سارعت وزارة الخارجية السعودية لإصدار بيان يُحمِّل الجيش الإسرائيلي المسؤولية، ويطالب المجتمع الدولي بأن "يتخلى عن معاييره المزدوجة" ويحاسب إسرائيل.
وفي غزة، قارنت وسام أبو جامع (27 عاماً) بين الاستجابة الغربية للهجوم الروسي على أوكرانيا العام الماضي، وبين غياب الإدانات النسبي لحصار إسرائيل المفروض على غزة. وقالت وسام إن التناقض بين الموقفين "ليس منطقياً".
ثم أردفت وسام، بالتزامن مع دوي أصوات الطائرات الحربية الإسرائيلية فوقها: "لو كان العالم يكترث لأمرنا بما يكفي، لما وصلنا إلى هذا الحال اليوم. في كل دقيقة، هناك عائلة كاملة تُمحى من سجل الوجود".
الخلاصة هنا هي أن موقف بايدن الداعم لإسرائيل يتسبب في الإضرار بمصالح بلاده في المنطقة، في وقت كانت تسعى واشنطن إلى استعادة كفة النفوذ التي مالت بقوة لصالح الصين وروسيا خلال السنوات القليلة الماضية.