تفاصيل الصراع بين فاغنر والجيش الروسي من الألف للياء.. وكيف يؤثر على أداء موسكو في أوكرانيا؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/06/06 الساعة 17:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/06/24 الساعة 08:48 بتوقيت غرينتش
يفغيني بريغوزين ، مؤسس شركة فاغتر الروسية للمرتزقة/رويترز

"حثالة وكلاب، هكذا وصف قائد فاغنر قادة الجيش الروسي، بل إنه سبق أن وجه تهديداً مبطناً للكرملين"، فهناك حالة مثيرة للحيرة تتسم بها العلاقة بين شركة فاغنر الروسية للمرتزقة والكرملين والجيش، فما هي أسباب هذا العداء بين فاغنر والجيش الروسي، ولماذا يبدو أن بوتين يتجاهل هذا الخلاف، هل يستفيد منه أم لا يستطيع وقفه؟

فما يحدث في روسيا لا يمكن تصور حدوثه في دولة مهلهلة تنتمي للعالم الثالث.

ففي مطلع مايو/أيار 2032، وصف يفغيني بريغوجين رئيس شركة فاغنر العسكرية الروسية قادة الجيش الروسي بـ"الحثالة والكلاب"، وهو يقف أمام جثث العشرات ممن قال إنهم مقاتلون من مجموعته قُتلوا في الحرب الروسية مع أوكرانيا، واتهم قادة الجيش الروسي بالمسؤولية عن مقتلهم؛ لأنهم لم يرسلوا لهم الدعم والإمدادات اللازمة من موسكو.

أبرز خصوم قائد فاغنر، هم: سيرجي شويغو، وزير الدفاع الروسي، وفاليري جيراسيموف، أعلى جنرال روسي (رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة للاتحاد الروسي)، حسب الإعلام الغربي.

ومؤخراً، قال بريغوجين جهراً عندما أعلن انتصار فاغنر بعد تكلفةٍ كبيرة في باخموت: "شويغو وجيراسيموف حوَّلا الحرب إلى ترفيه شخصي"، وأضاف: "بسبب نزواتهما، مات خمسة أضعاف ما كان من المفترض أن يموت من الرجال. سوف يتحمَّلان المسؤولية عن أفعالهما، والتي تسمى في روسيا جرائم".

لا تُعرَض هذه المقاطع عادةً على التلفزيون الحكومي، ولكنها تُضخَّم بواسطة جحافل من المعلقين القوميين المتطرفين، وكثير من هذه المقاطع يصل إلى مئات الآلاف من الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

الجيش الروسي لجأ إلى فاغنر بعد فشل الهجوم على كييف

وقال بريغوجين إنه لم يُطلب منه المساعدة في أوكرانيا إلا بعد ثلاثة أسابيع من غزو 24 فبراير/شباط 2022، عندما فشلت القوات الروسية في الاستيلاء على كييف و"خرجت العملية العسكرية الخاصة عن الخطة". بعد فترة وجيزة، دخلت وحداته القادمة من إفريقيا المعركة في مقاطعة لوهانسك بشرق أوكرانيا، وحققت سلسلة من عمليات التقدم الكبير. 

وحتى مع قيام فاغنر بتوسيع التجنيد بشكل كبير، وخفض المعايير، فإن القتال الطاحن سرعان ما استنفد إمدادات المتطوعين. كان حل بريغوجين هو الاستفادة من الأعداد الهائلة للمدانين في السجون في روسيا، وتجنيد المجرمين العنيفين بوعدهم بالعفو -وهو شيء لا يستطيع تحقيقه سوى بوتين- إذا بقوا على قيد الحياة لمدة ستة أشهر في أوكرانيا، وبالفعل حققوا التقدم الوحيد لموسكو، منذ نحو عام حيث انتصروا في باخموت بعد معركة دامت شهوراً وصفت بمفرمة لحم.

ذراع موسكو الطويلة التي أسست إمبراطورية بدون تكاليف

أصبحت مجموعة فاغنر الروسية رقماً صعباً في الحرب في أوكرانيا وحول العالم، وباتت أداة التأثير الروسي الأكثر فاعلية والتي لا تبارى بالتحديد في إفريقيا، حيث نشرت قواتها في ليبيا وإفريقيا الوسطى وأبرمت علاقات وثيقة مع ميليشيات أمير الحرب الليبي خليفة حفتر، وقوات الدعم السريع السودانية وتتورط في تهريب الذهب بالمنطقة وتوريد السلاح، لدرجة أن الولايات المتحدة تتهمها بتوريد صواريخ مضادة للطائرات لقوات الدعم التي تحارب الجيش السوداني.

ويبدو أن مجموعة فاغنر أسست لروسيا إمبراطورية في إفريقيا بأرخص التكاليف إن لم تكن، مع تحقيق مكاسب مادية عبر دورها في القارة في حروب القارة ونهب مواردها.

العداء بين فاغنر والجيش الروسي
يفغيني بريغوجين مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين/رويترز

وتزعم الولايات المتحدة أن مرتزقة فاغنر يخططون لتأسيس كونفيدرالية تضم دولاً إفريقية، من ليبيا والسودان حتى وسط إفريقيا، تكون منطقة نفوذ خاضعة لروسيا.

غير أن المثير للدهشة ليس صعود فاغنر ونجاحتها في نشر نفوذ موسكو، ولكن الأمر الغريب أنه منذ دخول قوات فاغنر معركة مدينة باخموت الأوكرانية لم يتوقف قائد المرتزقة المعروف باسم طباخ بوتين عن توجيه السباب لقادة الجيش الروسي، بل اتهمهم بالخيانة، وشكك في قدرتهم على حماية روسيا، في مسلك غريب على دولة عظمى اشتهرت بحكمها المركزي الاستبدادي.

جلبت لروسيا أول انتصار لها في أوكرانيا منذ فترة طويلة

ومؤخراً بدأت مجموعة فاغنر الروسية العسكرية الخاصة، الانسحاب من مدينة باخموت الأوكرانية، بعد السيطرة عليها بشكل كامل، إثر معركة استمرت لأشهر، تمهيداً لتسليمها للجيش الروسي.

ومع انتصار فاغنر المكلف في باخموت، فإن هذا يبدو أنه يعزز من مصداقية انتقادات قائدها بريغوجين لقادة الجيش الروسي، خاصة أن هذا أول انتصار لروسيا في أوكرانيا بعد نحو عام من الجمود أو الهزائم مثل الهزيمة في خاركييف وجنوب شرق أوكرانيا،.

وتشير تقديرات مسؤولي الولايات المتحدة إلى أن مجموعة فاغنر لديها حوالي 50 ألف جندي يقاتلون في أوكرانيا.

وتعرض أكثر من 30 ألفاً من مقاتلي فاغنر، إما للقتل أو الجروح منذ بداية غزو أوكرانيا، بحسب ما نقلت مجلة "بيزنس إنسايدر عن مسؤولين أمريكيين".

واعتمدت فاغنر على إرسال قوات ضعيفة التجهيز في موجات متوالية لإنهاك العدو وإشغاله، لكن هذه الخطة ألحقت بقوات المجموعة خسائر فادحة.

وزعمت مصادر استخبارية غربية أن 90% من الوحدات القتالية التابعة لـ"فاغنر" في أوكرانيا تتكون الآن من سجناء جنَّدتهم المجموعة من السجون والمؤسسات العقابية، وقد ورد أن عملية التجنيد بدأت في فبراير/شباط 2023.

الجيش الروسي لا يكترث بجرحى فاغنر

وصلت خسائر فاغنر إلى ما يقرب من 65% من مجنديها الجدد، كما أنها عانت نقصاً في المقاتلين، ومشكلات لوجستية وأزمات في سلاسل الإمداد، بحسب ما كشفت مصادر لموقع Middle East Eye  البريطاني ، في 28 أبريل/نيسان 2023، حيث قالت إن أحد أسباب الخسائر نقص الإمدادات والدعم من الجيش الروسي.

وقال المصدران، اللذان تحدثا بشرط عدم الكشف عن هويتهما لأسباب أمنية، إن معظم خسائر "فاغنر" نجمت عن افتقارها إلى الأسلحة المتطورة، وعجزها في بعض الأحيان عن الحصول على ما تحتاج إليه من ذخائر بسيطة، مثل طلقات السلاح "كلاشينكوف إيه كيه 47″، في ظل عدم اكتراث القيادة الروسية بهذه المشكلات، فاضطرت الميليشيا إلى البحث عن الأسلحة في دول أخرى.

العداء بين فاغنر والجيش الروسي
وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو/Getty Images

وزعم المصدر الثاني أن يفغيني بريغوجين، رئيس شركة فاغنر، جنَّد المقاتلين بأعداد كبيرة إلى حدٍّ أعجز الفرق الطبية عن الوفاء باحتياجات هؤلاء المقاتلين، أما القيادة الروسية "فكثيراً ما تبدي عدم الاكتراث بطلبات مساعدة الجرحى من قوات فاغنر"، و"معظم قتلى فاغنر سقطوا في جبهة باخموت بشرق أوكرانيا"، التي وصفها المصدر بأنها كانت "مسلخاً" لمقاتلي المجموعة.

وقال إن "فاغنر" توقعت أن تواجه مشكلات لوجستية في الإمداد وغيره، لكنها ظنت أن هذه المشكلات ستكون قصيرة الأمد، وخططت للتغلب عليها بالاعتماد على الإمدادات من قواعدها في مالي وليبيا وسوريا. لكن بمرور الوقت وتطاول أمد الصراع، زادت خسائر القوات الروسية النظامية، فاشتعل النزاع بين "فاغنر" والجيش الروسي على الإمدادات، وتزايدت الاتهامات من بريغوجين بتجاهلِ احتياجات قواته للمساعدة.

المشكلات اللوجستية قتلت من المرتزقة أكثر مما فعل الأوكرانيون

وقال المصدر الثاني إن "المشكلات اللوجستية التي تعانيها فاغنر أسقطت من مقاتليها أكثر مما أسقط الأوكرانيون".

مؤخراً، توسعت فاغنر في تجنيد القوات من خارج وداخل روسيا، حيث اشتكى بريغوجين، مرات عدة في خضم توترات مع وزير الدفاع، من أنه لم يعد قادراً على تجنيد مقاتلين من السجون الروسية.

العداء بين فاغنر والجيش الروسي
قوات فاغنر تعرضت لخسائر كبيرة في معارك مدينة باخموت الأوكرانية/رويترز

وأفادت وكالة "بلومبرغ" الأمريكية بأنَّ مجموعة المرتزقة كانت في طريقها لتقليل تواجدها في أوكرانيا والانتقال بدلاً من ذلك إلى إفريقيا، وتنفذ المجموعة حملة تجنيد مكثفة في مناطق متعددة في جميع أنحاء روسيا – حيث غامرت المركبات التي تحمل علامة فاغنر بالوصول حتى للقرى النائية في مناطق سفيردلوفسك ومورمانسك وإيركوتسك في الأيام الأخيرة، وكذلك منطقة كراسنويارسك في سيبيريا وياكوتيا في الشرق الأقصى.

وفي 13 مارس/آذار 2023، قال بريغوجين: "يجب على مجموعة فاغنر العسكرية الخاصة أن تتحول من مجرد أفضل جيش خاص في العالم قادر على الدفاع عن الدولة إلى جيش ذي أيديولوجية. وهذه الأيديولوجية هي النضال من أجل العدالة".

السجين السابق تحول لأبرز قادة روسيا

يُعد بريغوجين الآن أحد أبرز القادة الروس الذين يقودون الحرب في أوكرانيا، وسُجن بريغوجين سابقاً وقضى تسع سنوات في السجن بتهمة السرقة والسلب في الشوارع في الثمانينيات، وقد خرج من الظل ليأخذ مكانة رفيعة منذ غزو روسيا لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022.

لكن مكانته العامة ونفوذه السياسي وولعه بانتقاد كبار ضباط الجيش وأي شخص آخر في طريقه أثارت غضب البعض في الحكومة الذين يريدون كبح جماحه.

وصلت حدة تصريحات بريغوجين إلى التهديد بسحب قواته من مدينة باخموت، وكان ذلك قبل يوم 10 مايو/أيار الجاري، بسبب الخسائر الفادحة وعدم كفاية إمدادات الذخيرة.

وفُسرت بعضٌ من تصريحاته على أنها انتقاد مباشر لبوتين نفسه، مما أثار تساؤلات تشكك في ولائه.

في انتقاداته ضد القادة العسكريين بالجيش الروسي، قال بريغوجين إنهم يتناولون طعامهم في "أطباق من ذهب"، ويُرسلون أبناءهم وأحفادهم ليقضوا الإجازات في دبي، بينما يموت الجنود في الحرب. وقد تضمن هذا الهجوم إشارة واضحة إلى ابنة شويغو، التي شوهدت منذ مدة قريبة وهي تقضي إجازتها في الإمارات.

العداء بين فاغنر والجيش الروسي
يُعد بريغوجين الآن أحد أبرز القادة الروس الذين يقودون الحرب في أوكرانيا، وقد سُجن سابقاً وقضى تسع سنوات في السجن بتهمة السرقة والسلب في الشوارع في الثمانينيات/رويترز، أرشيفية

ومع أن وزارة الدفاع الروسية قلَّما تعبأ بالرد على الانتقادات العلنية لها، لكن تصريحات بريغوجين هذه تحديداً ردت عليها، وقالت الوزارة إن "المساعي التي تنطوي على رغبة في تفكيك التعاون الوثيق بين فئات القوات الروسية لا تخدم إلا مصالح العدو".

وفي أول مايو/أيار 2023، حذّر يفغيني بريغوجين من أن إطلاق أوكرانيا هجوماً مضاداً قد يمثل "مأساة" لروسيا، كما كرر شكواه من شح الذخيرة لدى مقاتليه.

وسبق أن وجه قائد فاغنر ما اعتبر تهديداً مبطناً للكرملين، ففي مارس/آذار 2023، ظهر  بريغوجين في فيديو مسجل من غرفة مظلمة، ليحذر بنبرة رسمية من العواقب الدموية على روسيا إذا "انسحب" رجاله الآن، وادعى أن الجيش الروسي "سيجبر على ترسيخ الجبهة"، بينما "ينهار القرم"، وأنه ستكون هناك "كوارث أخرى عديدة".

"قواتنا لا تكفي للإطاحة ببوتين!".. هل يخطط لتولي الحكم أم أنه يائس؟

واحد من أغرب تصريحات قائد فاغنر قوله "قواتنا لا تكفي للإطاحة ببوتين"! وذلك في تعليقه على اتهامه بمحاولة تنفيذ انقلاب على الجيش الروسي، تأتي تعليقات بريغوجين بعد اتهامات وجهها إيغور جيركين القائد السابق للمسلحين الانفصاليين في شرق أوكرانيا، إلى مؤسس فاغنر، زعم فيها أن الإهانات التي وجهها بريغوجين إلى كبار المسؤولين الروس في مقاطع فيديو تمتلئ بالبذاءات، تؤشر إلى أنه يخطط للاستيلاء على السلطة.

في الأسابيع الأخيرة، وسَّع بريغوجين قائمة أهدافه من الضباط العسكريين إلى من وصفهم بـ"المهرجين في الميدان القديم" -وهو عنوان إدارة بوتين الرئاسية. 

وقالت تاتيانا ستانوفايا، الباحثة غير المقيمة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إن "هذه التسجيلات إنما تنم عن يأسه"، فهي "محاولة للوصول إلى بوتين بالدعاية، وتخويف السلطات العسكرية من عواقب سياسية".

وقالت وكالة بلومبرغ الأمريكية إن المؤسسة الأمنية والسياسية في روسيا باتت تنظر إلى قائد فاغنر على أنه "تهديد متزايد"، ولذلك فهو يعاني من نقص في القوى العاملة والذخيرة في أوكرانيا، بعد أن مُنع من تجنيد نزلاء السجون الذين يمثلون مصدره الأساسي للتجنيد، وحرم من الإمدادات.

وسبق أن قال ميخائيل خودوركوفسكي، المنشق الروسي البارز والسجين السياسي السابق، إن قادة مجموعة المرتزقة الروسية "فاغنر"، صار لديهم من النفوذ السياسي في الكرملين ما يساوي النفوذ السياسي لوزراء بارزين في نظام الحكم بروسيا، مثل وزير الخارجية سيرغي لافروف، ووزير الدفاع سيرغي شويغو، ولكن الحديث الآن يدور حول التنافس والصراع بين مرتزقة فاغنر والجيش الروسي.

العداء بين فاغنر والجيش الروسي
يفغيني بريغوزين يقف بجانب مقاتلي فاغنر/رويترز

وتزعم وسائل الإعلام الغربية أن بريغوجين تمكّن من جمع مليارات الدولارات من عقود التموين الحكومية على مدار سنوات، وتناوب خلال ذلك على الانضمام إلى دائرة المقربين لبوتين حيناً والخروج منها حيناً آخر. 

لكنه بعد أن بنى جيشه الخاص المعروف بمجموعة فاغنر، سعى إلى انتهاز الفرصة التي أتاحتها له الحرب في أوكرانيا ليبرز بين وجهاء السلطة في البلاد.

جذور العداء بين فاغنر والجيش الروسي تعود للحرب في سوريا

العداء بين فاغنر والجيش الروسي قديم، فانتقادات يفغيني بريغوجين لقادة الجيش، تأتي بناء على مرارات سابقة تصل لشبهات خيانة، حدثت خلال المشاركة الروسية في حرب سوريا، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.

فقد أُنشِئت فاغنر كأداة نفوذ لروسيا يمكن التبرؤ منها وقت الحاجة، وجرت بعض عملياتها الأولى في الأجزاء التي تحتلها روسيا في شرق أوكرانيا في عام 2014، لكنها نمت لتصبح قوة عسكرية كبيرة فقط بعد التدخل الروسي في سوريا في العام التالي. 

 ولكن ظل الجيش الروسي لديه ميل على ما يبدو لتركها تلاقي مصيراً مميتاً في بعض الأحيان دون اكتراث.

وصف كتاب مذكرات صدر مؤخراً لكيريل رومانوفسكي، مراسل الحرب لوكالة أنباء ريا-فان التابعة لبريغوجين، والذي تابع فاغنر حول العالم وتُوفِّيَ بسبب السرطان في يناير/كانون الثاني الماضي، كيف ترك الجيش الروسي قوات فاغنر تقتل في سوريا.

إذ يروي كيف جلس بريغوجين بجانب الجنرال ألكسندر دفورنيكوف قائد القوات الروسية في سوريا في ذلك الوقت، وهو مخمور، وكانا على قمة تل حيث تابعا معركة فاغنر لاستعادة مدينة تدمر من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في عام 2016. 

تكبد رجال فاغنر خسائر فادحة ونفدت ذخيرة المدفعية. وفقاً للكتاب، صرخ بريغوجين في وجه دفورنيكوف: "أيها الوغد، أعطنا ما لا يقل عن 100 قذيفة". 

بعد ذلك نال الجيش الروسي الأوسمة رغم أن فاغنر هي التي اقتحمت المدينة التاريخية.

في مساء يوم 7 فبراير/شباط 2018، بدأت قوات فاغنر هجوماً على منطقة تعرف باسم هاشم، حيث كانت حقولها النفطية تديرها شركة كونوكو في محافظة دير الزور السورية.

رغم وجود اتصال بين وزيري الدفاع الروسي ونظيره الأمريكي آنذاك جيم ماتيس، حسب شهادته الأخير أمام الكونغرس، أمر ماتيس بإبادة القوة المهاجمة. ليقُتل أو يشُوِّه المئات من المرتزقة الروس في غارات أمريكية بواسطة مروحيات هجومية وطائرات مسيَّرة وطائرة حربية من طراز إيه سي-130 وصواريخ هيمارس، فيما ظلت موسكو صامتة. 

وفقاً لكتاب رومانوفسكي، الذي يصف المذبحة بتفاصيل مروعة، كان رجال فاغنر مطمئنين إلى أنهم سيحصلون على الحماية بالطائرات والدفاعات الجوية الروسية. كتب: "لقد تعرضنا للخيانة ببساطة. عندما بدأنا الهجوم، لم نكن نعرف أن الطائرة الوحيدة فوقنا كانت أمريكية، وأن رجال الدفاع الجوي كانوا جميعاً يختبئون تحت تنانير الفتيات". 

فكرة فاغنر تعود لمئات السنين

في حقيقة الأمر، لم يكن بروز فاغنر سوى أحدث تطور ضمن تاريخ طويل شهد اعتماد الروس والسوفييت على القوات غير الرسمية، التي تعود إلى عهد ستالين، كما أن روسيا القيصرية كانت تعتمد على  ميليشيات نظامية شهيرة تسمى القوزاق لعبت دوراً كبيراً في سيطرة روسيا على أوكرانيا وانتصاراتها على الدولة العثمانية وخانية القرم التترية وبولندا، ولها فضل كبير في تدمير جيش نابليون بونابرت العظيم الذي دخل موسكو فوجدها خاوية، ثم انسحب حيث هاجمته قوات القوزاق مدمرة أجزاء كبيرة منه.

ظاهرياً، تَنَاسَب استخدام الشركات العسكرية الخاصة مع نموذج جديد من نماذج حروب القرن الحادي والعشرين. على سبيل المثال، استخدمت الولايات المتحدة المتعاقدين العسكريين في العراق، وحملت فاغنر أوجه تشابه مع شركة الأمن الأمريكية العسكرية الخاصة بلاك ووتر (تعرف الآن باسم أكاديمي).

ولكن بالنسبة لمديرية المخابرات الرئيسية الروسية (GRU)، كانت فاغنر أيضاً امتداداً لتقليد أقدم بكثير يعود إلى عصر الاتحاد السوفييتي، عندما استخدم الكرملين القوات بالوكالة للتدخل في الصراعات في جميع أنحاء العالم. 

لماذا يسكت بوتين عن هذه المهزلة؟

غير أن الحلقة المفقودة في هذا العرض هي السبب وراء تسامح بوتين مع مواقف بريغوجين الجريئة، وأين تكمن مجموعة فاغنر في واقع الأمر بين التسلسل الهرمي للجيش الروسي والاستخبارات الروسية. 

صحيفة The Washington Post الأمريكية لفتت إلى التناقض بين ما يتعرض له المواطنون الروس العاديون من أحكام سجن قاسية بتهمة الإساءة للجيش أو انتقاد الحرب، والسماح لبريغوجين بمهاجمة شويغو وغراسيموف وغيرهما من كبار القادة العسكريين دون أي عقاب على ما يبدو. 

والسبب في ذلك، غالب الأمر، أنه محمي من بوتين، الذي قد يرى أن هذا الشجار يخدم مصالحه في ضمان ألا يكون لأي فصيل منهم القوة اللازمة للانقلاب عليه.

وقد تحدث خبراء كثيرون منذ مدة طويلة عن ملاحظتهم بأن بوتين قرَّر تقسيم جبهات المعركة إلى إقطاعيات تتوزع السيطرة عليها بين وزارة الدفاع ومقاتلي فاغنر التابعين لبريغوجين، والميليشيات الموالية للزعيم الشيشاني رمضان قديروف، وغيرهم.

في غضون ذلك، ترى الباحثة ستانوفايا أنه "ما دام بوتين لديه القوة الكافية والقدرة على حفظ التوازن بين مختلف المجموعات المؤثرة، فإن بريغوجين لن يكون خطيراً". 

العداء بين فاغنر والجيش الروسي
هل يحاول بوتين تقليص سلطة وزير الدفاع وقادة الجيش عبر فاغنر/رويترز

ولذلك يسمح بوتين بظهور الصراع بين مرتزقة فاغنر والجيش الروسي للعلن، لأنه لا يمثل خطورة حتى الآن.

أما إذا ظهرت بوادر ضعف على سيطرة بوتين، فإن ذلك قد يدفع بريغوجين لتحدي السلطة، حتى لو لم يخاطر بتحدي بوتين مباشرة في البداية. فالحرب تغذي وحوشاً يمكن أن يقودها التهور واليأس إلى تحدي الدولة ذاتها.

ويكمن التفسير هنا في علاقة بوتين المعقدة مع الجيش الروسي، ففي السنوات الأولى لحكمه، تمثَّل أحد أكبر التحديات بالنسبة لبوتين في مواصلة السيطرة على الجيش. بالنظر إلى أنه أحد أكبر جيوش العالم في بلد شاسع حيث يحدث كل شيء داخلياً، لدى الجيش تقليد يتمثل في التأكد من أن العالم الخارجي لا يعرف إلا أقل القليل عن أنشطته.

كما أن بوتين يعي تماماً أن الجيش خلال أوقات الحرب يميل إلى كسب مزيد من السلطة داخل الدولة. ويعلم أنه كلما استمرت الحرب تزايدت هذه السلطة، وزادت صعوبة ممارسة سيطرته عليه. ونظراً لأنه يميل للنظر إلى العالم عبر عدسة التهديدات، فإن القوة النسبية للجيش تقلقه، وبطريقة ما أكثر من قلقه من أداء الجيش في أرض المعركة.

ونتيجة لذلك، لجأ بوتين إلى طرق غير تقليدية على نحو متزايد لكبح جماح الجنرالات. على سبيل المثال، بداية من خريف 2022، شجع مراسلي الحرب Voenkors على نشر المشاكل التي تحدث داخل الجيش. لكن الأهم هو الدور الذي تضطلع به مجموعة فاغنر، بوصفها قوةً تحافظ على التوازن بالنسبة للجيش.

تداعيات الصراع فاغنر والجيش الروسي بعيدة المدى

ولكن البعض يرى أن هذا الصراع قد تكون له عواقب وخيمة.

إذ حذر أندريه كوزيريف، وزير الخارجية الروسي السابق، الذي أشار إلى وجود انقسامات مماثلة في النظام النازي خلال الحرب العالمية الثانية. في غضون ذلك، فقد سعد القادة الأوكرانيون بهذا العداء المتأجج. 

قد تكون فاغنر قد انتصرت في باخموت، بدون خسائر للجيش الروسي، ولكن ها هي كييف تتحدث عن تقدمها مجدداً في محيط المدينة، كما أن مثل هذه النزاعات يكون لها تأثير كبير على معنويات الجيوش، وصورة روسيا كدولة قوية متماسكة وبوتين كحاكم مهيب.

تبدو صراعات فاغنر والجيش الروسي أشبه بنزاعات القوى العسكرية الإقطاعية في العصور الوسطى.

ولقد انتهت أغلب الإمبراطوريات ليس بسبب هزائم عسكرية خارجية، ولكن نتيجة الصراعات الداخلية.

كما أنه في أوقات الأزمات الداخلية عادة ما تنقسم مثل هذه القوة المتعادية لينحاز كل طرف إلى أحد الزعامات المتصارعة.

تحميل المزيد