العنصرية التي يتعرض لها فينيسيوس جونيور لا تختلف كثيراً عما يتعرض له اللاعبون المسلمون في أوروبا، فما علاقة اليمين المتطرف بما تشهده الملاعب الأوروبية من استمرار لتلك الظاهرة التي يدينها الجميع، ولو بالكلام فقط؟
هناك من يرون أن كرة القدم مجرد لعبة وأن ما تشهده الملاعب من شغب أو هتافات أو تصرفات عنصرية أمر طبيعي مرتبط بالتعصب الكروي لنادٍ يشجعه وينتمي إليه، ومن هذا المنطلق يتعاملون مع ما تعرض له لاعب ريال مدريد البرازيلي الجنسية ذي البشرة السمراء. فهم يلقون باللوم على اللاعب نفسه ويتهمونه بأنه يتعمد "استفزاز" المنافسين، جمهوراً ولاعبين، وهو ما يعرّضه لتلك التصرفات والهتافات العنصرية.
وحتى ما يتعرض له اللاعبون المسلمون في الملاعب الأوروبية، خاصة في فرنسا، يراه البعض أموراً "عادية" مرتبطة بطبيعة كرة القدم وسلطات إدارات الأندية التي يلعب فيها هؤلاء اللاعبون، ولا داعي لتحميل الأمر أكثر مما يحتمل.
ماذا يقول بول بوغبا؟
لكن بول بوغبا، لاعب المنتخب الفرنسي ونادي يوفنتوس الإيطالي، له وجهة نظر مختلفة تماماً؛ إذ يرى أن ما تعرض له فينيسيوس جونيور "ليس المرة الأولى ولن تكون الأخيرة".
ونشر اللاعب الفرنسي، أسمر البشرة أيضاً والذي كان هدفاً للهتافات والتصرفات العنصرية هو الآخر، منشوراً على حسابه في إنستغرام، قال فيه: "يجب ألا ندع ذلك يمر مرة أخرى، لدينا الكثير من الأمثلة، وأعتقد أنّنا جميعاً نتفق اليوم على أنه لم يتغيّر شيء منذ ذلك الحين".
ووصف بوغبا "الموز، أصوات الحيوانات، الأغاني ضدنا؟" بأنها "مرض عقلي"، مضيفا: "أعتقد أننا جميعاً نتفق على أن الإعلانات والشعارات لن تغير هؤلاء الناس".
واختتم منشوره قائلاً: "إذا تعلمت شيئاً واحداً هذا العام، فهو أنه عندما يكون لدى شخص ما قلب أسود، فلا شيء ولا أحد يستطيع تغيير ذلك. إذا كانت المؤسسات لا تريد إيجاد حل حقيقي، فلنحاول أن نفعل ذلك بأنفسنا، لأنفسنا، الدعم الكامل لفينيسيوس جونيور".
تحمل رسالة بوغبا عدداً من الحقائق، أولاها أن العنصرية في الملاعب الأوروبية ليست ظاهرة دخيلة، وثانيتها أن المؤسسات لا تريد إيجاد حل حقيقي لتلك الظاهرة المقيتة والخطيرة، وهنا يكمُن مربط الفرس، كما يقول المثل العربي الشهير.
إذ كشفت دراسة، أعدها باحثون من المركز الأوروبي لمراقبة العنصرية وكراهية الأجانب، عن أن جماعات اليمين المتطرف في القارة العجوز تستخدم ملاعب كرة القدم لنشر أفكارها ومبادئها العنصرية بين الجماهير الأوروبية بشكل منظم ومستمر، مستغلة الشغف بالساحرة المستديرة من جهة والإنترنت من جهة أخرى، ليس فقط لنشر تلك الأفكار والترويج لها بين الجماهير، خاصة المراهقين والشباب منهم، ولكن أيضاً لاستقطاب أعضاء جدد ينضمون لتلك الجماعات والتنظيم.
ما هو تاريخ نشر تلك الدراسة البحثية؟ أبريل/نيسان 2002! أي قبل أكثر من 21 عاماً، فلماذا إذن تفاقمت العنصرية في الملاعب الأوروبية حتى أصبحت ظاهرة يرى ضحاياها من اللاعبين الأجانب، وبصفة خاصة ذوو البشرة السمراء، أنها لن تتوقف؟
صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية نشرت ملخصاً لدراسة بحثية أخرى تتناول العنصرية في الملاعب الأوروبية، بعنوان "قياس تكلفة الاعتداءات العنصرية في كرة القدم". من أعدوا تلك الدراسة، التي نشرت عام 2021، هم ثلاثة من أساتذة الاقتصاد الإيطاليين في جامعة كوبنهاغن، وهم في الوقت نفسه من عشاق كرة القدم ويحضرون المباريات في الملاعب، سواء في إيطاليا أو البطولات القارية للاتحاد الأوروبي.
كان من أبرز ما خلُصت إليه الدراسة هو أن مستوى أداء اللاعبين في الدوري الإيطالي الممتاز (سيريا إيه) هبط خلال جائحة كورونا؛ حيث كانت المباريات تلعب بدون جمهور، باستثناء مستويات اللاعبين الأفارقة أو الذين يحملون جنسيات أخرى لكنهم من أصحاب البشرة السمراء، في مؤشر واضح على تأثير الهتافات العنصرية على أداء هؤلاء اللاعبين.
لماذا تسببت قضية فينيسيوس في تلك الضجة؟
دعونا نلقِ نظرة سريعة على تفاصيل ما تعرض له ذلك اللاعب البرازيلي الشاب، الشهير بفيني؛ حيث إن تعرضه للتصرفات والهتافات العنصرية خلال مباراة فريقه الأخيرة أمام فالنسيا في الدوري الإسباني لم تكن سوى حلقة في سلسلة ممتدة على مدار الموسم، الذي أوشك على الانتهاء.
فمنذ بداية الموسم الجاري، تعرض لاعب ريال مدريد لهتافات وتصرفات عنصرية بشكل شبه مستمر خلال أغلب مباريات فريقه على ملاعب المنافسين في الدوري الإسباني الممتاز (لا ليغا)، دون أن يفرض الاتحاد الإسباني أو رابطة الدوري (المسؤولة عن تنظيم مسابقة الدوري) عقوبات على الجماهير أو الأندية.
ووصلت الأمور إلى ذروتها خلال لقاء فالنسيا؛ حيث أوقف الحكم اللقاء لمدة اقتربت من عشر دقائق خلال الشوط الثاني، بسبب الهتافات العنصرية الجماعية من جماهير الفريق المضيف، لكنه استأنف المباراة لتشهد مشادة بين لاعب ريال مدريد وعدد من لاعبي فالنسيا، قام خلالها أحدهم بخنق اللاعب البرازيلي من الخلف قبل أن يتمكن الأخير من تخليص نفسه والاعتداء بالضرب على اللاعب فأشهر الحكم البطاقة الحمراء في وجه مهاجم ريال مدريد.
الإعادة التليفزيونية لواقعة الخنق وللهتافات العنصرية المستمرة ضد اللاعب أثارت عاصفة من الجدل، بين رسائل داعمة من نجوم كرة القدم داخل وخارج إسبانيا، حتى رئيس البرازيل، لولا دا سيلفا، وإطفاء أنوار تمثال المسيح الشهير في البرازيل تضامناً مع فيني، وهنا بدأ التحرك من جانب السلطات الإسبانية.
فاحتجزت الشرطة الإسبانية، الثلاثاء 23 مايو/أيار (بعد يومين من المباراة) سبعة أشخاص على صلة بواقعتين عنصريتين ضد فينيسيوس جونيور، بينما طالبت رابطة الدوري الإسباني بإجراء تغيير على القانون الإسباني لمنحها سلطة أكبر لمكافحة العنصرية في الملاعب.
وأكد كارلو أنشيلوتي، مدرب ريال مدريد، دعمه للاعبه، واعتبر أن اللوائح الحالية في التعامل مع العنصرية في الرياضة باتت عتيقة، مؤكداً أنه سيفكر في الخروج مع لاعبيه من أي مباراة إذا تكررت الإساءات.
وقدمت شركة بوما الراعية لنادي فالنسيا والدوري الإسباني الدعم إلى فينيسيوس جونيور، وقالت الشركة لرويترز في بيان "في بوما لا نتسامح مع العنصرية. ندين التمييز بكل أشكاله ونقف بشدة مع فينيسيوس ومجتمع كرة القدم الذي أدان الأحداث".
كما أعرب بنك (سانتاندير) الإسباني، الذي ينتهي عقد رعايته للدوري الإسباني هذا الموسم، عن رفضه لما حدث. وقال البنك في بيان "يرفض سانتاندير بشدة كل أنواع العنصرية والتمييز بغض النظر عمن يفعلها".
وفتحت الشرطة تحقيقاً في ارتكاب جريمة كراهية بعد العثور على دمية معلقة ترتدي رقم 20 الخاص باللاعب فينيسيوس عند جسر أمام مقر تدريبات ريال مدريد وبجوارها لافتة عملاقة طولها 16 متراً باللونين الأحمر والأبيض الشهيرين للغريم أتليتيكو مدريد كُتب عليها "مدريد تكره ريال"، في يناير/كانون الثاني الماضي قبل مباراة الجارين في كأس الملك. تحركت الشرطة بعد نحو 4 أشهر من الواقعة!
كما أكدت الشرطة على تويتر أنها ألقت القبض على ثلاثة أشخاص في فالنسيا على صلة بمباراة بلنسية أمام ريال مدريد، وقالت إنها احتجزت أربعة في مدريد منهم ثلاثة من "رابطة جماهير متعصبة لفريق من مدريد" والذين تم الإبلاغ عنهم سابقاً أثناء المباريات بسبب "خطورتهم الكبيرة" للمساعدة في الحد من العنف وأعمال الشغب خلال المباريات.
جاءت الاعتقالات بعد يوم واحد من قول لويس روبياليس، رئيس الاتحاد الإسباني، إن الكرة الإسبانية تعانى من مشكلة تتعلق بالعنصرية، وذلك عقب شكوى من ريال بتعرض لاعبه فينيسيوس لجريمة كراهية.
وتتعرض رابطة لا ليغا لضغوط متزايدة للتصدي للعنصرية خاصة بعد حصول فينيسيوس على دعم هائل من الرئيس البرازيلي ورئيس الاتحاد الدولي (الفيفا) والعديد من نجوم الرياضة؛ مثل كيليان مبابي مهاجم فرنسا، وريو فرديناند مدافع إنجلترا السابق، ولويس هاميلتون الفائز سابقاً ببطولة العالم فورمولا 1 للسيارات.
وردت الرابطة وقالت في بيان الثلاثاء إنها تشعر "بالعجز" للتصدي للعنصرية، في ظل أن القانون الإسباني يجعل سلطاتها مقتصرة على الكشف والإبلاغ عن الوقائع العنصرية، وحثت الرابطة على تعديل القانون بحيث يمكن إلغاء مباريات ومنع جماهير من دخول الملاعب في حال وجود تصرفات عنصرية. وعددت الرابطة مجموعة من الوقائع ضد اللاعبين السود، منها تسع وقائع ضد فينيسيوس، لم تصل إلى المحاكمة بسبب عدم كفاية الأدلة، وطالبت بتغيير القانون حتى تملك السلطة في التصدي للعنصرية.
وقالت الرابطة: "تشعر رابطة الدوري الإسباني بإحباط شديد بسبب الافتقار لفرض عقوبات وإدانات من الهيئات الانضباطية الرياضية والإدارات العامة والهيئات القضائية التي تستقبل الشكاوى".
صعود اليمين المتطرف في أوروبا
في ظل الضجة العالمية التي أثارتها قضية فينيسيوس جونيور في إسبانيا واللاعبين المسلمين في فرنسا خلال الفترة الحالية، السؤال البديهي الذي يتبادر إلى الذهن الآن هو: إذا كان المركز الأوروبي لمراقبة العنصرية وكراهية الأجانب قد رصد ظاهرة استغلال جماعات اليمين المتطرف لجمهور وملاعب كرة القدم لنشر أفكاره العنصرية منذ أكثر من عقدين من الزمان، فلماذا لم تتحرك أوروبا لمكافحة تلك الظاهرة وتركتها حتى توحّشت بهذا الشكل؟
محاولة الإجابة عن هذا السؤال البديهي تأخذنا بعيداً عن ملاعب كرة القدم لتحط بنا في مقار الأحزاب اليمينية المتطرفة في القارة العجوز، حيث اكتسبت تلك الأحزاب شعبية متصاعدة وضعت بعضها في سدة الحكم بالفعل في كثير من الدول الأوروبية، بينما يوجد البعض الآخر في صفوف المعارضة، انتظاراً لدوره في القبض على السلطة هو الآخر.
ففي إيطاليا، فاز تحالف اليمين المتطرف، الذي تقوده جورجينا ميلوني، بالانتخابات الأخيرة، لتصبح السياسية اليمينية كارهة المهاجرين والأجانب رئيسة للوزراء، وفي السويد، حقق تيار اليمين المتطرف صعوداً مفاجئاً في الانتخابات البرلمانية في أغسطس/آب الماضي، ليصبح حزب الديمقراطيين القومي اليميني المتطرف ثاني أكبر حزب سياسي في البلاد بعد الحزب الديمقراطي الاجتماعي.
وولد حزب الديمقراطيين القومي المعارض للهجرة من رحم الحركة النازية الجديدة في ثمانينيات القرن الماضي. وبعد أن ظل لفترة طويلة حزباً هامشياً منبوذاً، دخل البرلمان بعد فوزه بنسبة 5.7% من الأصوات عام 2010، ثم ارتفعت النسبة إلى 17.5% عام 2018، وتخطت نسبته هذه المرة 20%..
وفي المجر، ينتمي رئيس الوزراء فيكتور أوربان لليمين المتطرف الشعبوي، وله تصريحات عنصرية "فجة" حول فكرة "خلط الأعراق" وانتقاده للاختلاط بين الأوروبيين وغير الأوروبيين: "نحن على استعداد للاختلاط مع بعضنا، لكننا لا نريد أن نصبح شعوباً مختلطة الأعراق".
وفي ألمانيا، صعد حزب البديل من أجل ألمانيا المنتمي للتيار نفسه ليصبح رقماً صعباً في الانتخابات الألمانية؛ إذ حل ثالثاً في الانتخابات قبل السابقة، قبل أن يتراجع في الانتخابات الأخيرة إلى المركز الخامس.
أما فرنسا، فقد كادت زعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبان، أن تصل لقصر الإليزيه في الانتخابات الرئاسية في أبريل/نيسان 2022 قبل أن تخسر أمام الرئيس إيمانويل ماكرون، ثم حقق تكتلها اليميني نتيجة تاريخية في الانتخابات البرلمانية في يونيو/حزيران الماضي، بعد أن فاز بأكثر من 100 مقعد للمرة الأولى في التاريخ الفرنسي.
لكن صعود تيار اليمين المتطرف الشعبوي في البلدان الأوروبية لا يتوقف عند حدود إيطاليا والمجر وفرنسا وألمانيا وهولندا؛ إذ هناك دول أخرى مرشحة للسقوط في قبضة ذلك التيار السياسي، أبرزها رومانيا والنمسا وإسبانيا، وهو ما يمثل تغييراً نمطياً في الأفكار والآراء السياسية، له انعكاسات خطيرة على الأوضاع في القارة الأوروبية والعالم أيضاً.
الخلاصة هنا هي أن سقوط أوروبا في قبضة اليمين المتطرف هو التفسير الأعم والأشمل لظاهرة العنصرية في ملاعب كرة القدم الأوروبية، التي لم تعد مجرد تصرفات تندرج تحت عنوان "شغب الملاعب"، بل هي سياسة عامة أصبحت تحكم القارة التي لا يكف سياسيوها عن ترديد شعارات "حقوق الإنسان وحرية التعبير واحترام الآخر"!