موقف غامض تتخذه القوى المدنية السودانية خاصة ائتلاف الحرية والتغيير من الحرب الضروس التي اندلعت بين الجيش السوداني وبين قوات الدعم السريع، فما هو حقيقة موقف هذا الائتلاف الذي يعد نفسه قائداً للثورة من الصراع الحالي، وما خياراته، والأهم ما مصير العملية السياسية في السودان إذا تحول الصراع لحرب أهلية طويلة.
وعقب اندلاع المواجهات، دعا ائتلاف الحرية والتغيير، السبت، الجيش والدعم السريع إلى وقف المواجهات العسكرية والعودة لطاولة التفاوض لحل القضايا العالقة.
وقالت الحرية والتغيير في بيان فور اندلاع القتال بين الطرفين، إننا ندعو قيادتي الجيش والدعم السريع لتحكيم صوت الحكمة ووقف المواجهات العسكرية فوراً والعودة لطاولات التفاوض
وأشارت إلى أن القضايا العالقة لا يمكن حلها عبر الحرب، حيث إن الخيار الأفضل للبلاد يتطلب معالجتها سلمياً عبر الحلول السياسية، (وتتضمن القضايا العالقة مسائل تتعلق بالسيطرة والقيادة وسنوات دمج الدعم السريع في الجيش).
وتحاول قوى ائتلاف الحرية والتغيير التوسط لوقف الصراع، حيث أعلنت اليوم الثلاثاء، أنها كثفت التواصل مع الآلية الثلاثية والرباعية في دعم مبادرتهم الرامية للوصول لهدنة إنسانية لمدة 24 ساعة، وتواصلنا مع قيادة القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع حاثين إياهم على قبول هذا المقترح، وهو ما أثمر عن مواقف إيجابية صدرت من قبلهما تم إعلانها ولا يزال النقاش متواصلاً حول أحكام هذه الهدنة وخلق آليات تكفل نجاحها.
حميدتي والبرهان تحالفا ضد القوى الثورية
منذ بداية الثورة السودانية كان من الواضح أن رئيس مجلس السيادة قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي" قائد قوات الدعم السريع حليفين في مواجهة قوى ائتلاف الحرية والتغيير، بدءاً من دور حميدتي في وصول البرهان للسلطة عبر إقصاء وزير الدفاع عوض بن عوف، وصولاً لدور قوات الدعم السريع في مذبحة القيادة العامة للجيش السوداني التي أدت لفض الاعتصام الذي كان يطالب بتسليم السلطة للقوى المدنية، وهي المذبحة التي وقعت في الثالث من يونيو/حزيران 2019، وأدت لمقتل ما بين من مئة أو أكثر إلى 250 شخصاً، حسب تقديرات متفاوتة، فيما تفيد الشهادات أن المتورط الرئيسي فيها قوات الدعم السريع وسط حديث عن ارتكابها عمليات قمع واغتصاب وإخفاء للجثث.
كما تحالف البرهان وحميدتي في عملية تمديد أمد اتفاق تسليم السلطة للمدنيين الذي أدى إلى الإطاحة بموعد تسليم السلطة لعضو مدني من مجلس السيادة ليصبح رئيساً للمجلس (كان يفترض أن يتم التسليم في في مايو/أيار 2021).
ثم تعاون البرهان وحميدتي في أكتوبر/تشرين الأول 2021 للإطاحة برئيس الوزراء الانتقالي عبد الله حمدوك الذي كان ينظر له كممثل لما يعرف بالقوى المدنية.
ولكن حميدتي الآن يتقرب من ائتلاف قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي
ولكن مؤخراً حدث تقارب بين حميدتي وبين فصيل رئيسي من القوى المدنية يعرف باسم ائتلاف الحرية والتغيير- المجلس المركزي، الذي يحاول الانفراد بتمثيل القوى المدنية مقصياً عدداً من الأحزاب والقوى الأخرى، كذلك الحركات الإقليمية المسلحة التي وقعت اتفاقات مع السلطة المركزية(باتت تعرف باسم حركات الكفاح المسلح).
مقابل ذلك هناك تقارب بين فصيل آخر يدعى ائتلاف الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية (يعتقد أنه مدعوم من مصر) وبين البرهان.
وبدا ذلك واضحاً عندما وقع ائتلاف الحرية والتغيير- المجلس المركزي اتفاقاً إطارياً جديداً في ديسمبر/كانون الأول 2022 لتسليم السلطة لهياكل تشكلها القوى المدنية وبصورة أقل العسكريين (بدون انتخابات).
ولكن البرهان رفض تنفيذ الاتفاق بدعوى ضرورة توسيع نطاق القوى المدنية المشاركة في الاتفاق (وهو نفس مطلب ائتلاف الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية).
وكان لافتاً أنه لأول مرة، انحاز حميدتي لمطالب ائتلاف الحرية والتغيير- المجلس المركزي، ورفضه توسيع الاتفاق، ولكن حميدتي أضاف مطلبه الخاص بتمديد الجدول الزمني لدمج قوات الدعم السريع في الجيش إلى 10 سنوات بدلاً من عامين، كما تريد القوات المسلحة، في مؤشر على خوف حميدتي، من فقدان السيطرة على قوات الدعم السريع التي تمثل أداة النفوذ الرئيسية التي يمتلكها.
وفي هذا الخصوص، أكد البرهان أنه وقع على الاتفاق الإطاري (5 ديسمبر/كانون الأول 2022)؛ لأنه يحقق مبدأ الدمج للدعم السريع في الجيش، وإنْ لم يتحقق ذلك فلن يمضي في الاتفاق للأمام.
والواقع أن عملية دمج الدعم السريع تحظى بإجماع وسط الجيش السوداني، بل تعتبر قضية أمن قومي لها الأولوية. كما طالب الجيش أيضاً بجعل شركات قوات الدعم السريع تابعة لوزارة المالية وتخضع للإجراءات الحكومية المعروفة، واشترط أن يكون هو من يحدد تحركات وانتشار قوات الدعم وفق عملية الدمج، وهو ما رفضته قيادة الدعم السريع.
كما تحدد الورقة التي طرحها الجيش ضوابط ومعايير قبول التحاق ضباط قوات الدعم السريع، وتسرح من تم تعيينهم بعد سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، وتقنين صلاحيات الدعم السريع، العسكرية والاقتصادية والسياسية.
كما تتعارض وجهات نظر البرهان وحميدتي بشأن مراجعة وتطوير العقيدة العسكرية ونأي المؤسسة العسكرية عن التدخل في السياسة.
اللافت أن أغلب مطالب الجيش في هذا الملف تبدو منطقية وأكثر اتساقاً مع مطلب بناء دولة مدنية طبيعية الذي يفترض أنه هدف ائتلاف قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي.
انقلاب في المحاور.. قائد الميليشيات السابق يقدم نفسه كزعيم يدافع عن الديمقراطية
طموحات وتحالفات حميدتي أقلقت قيادة الجيش على ما يبدو.
فلقد أظهر حميدتي الذي كان رجل البشير المفضل، تطلعات سياسية واسعة بالشروع في تكوين تحالف يعتمد على أعيان القبائل وزعماء الطرق الصوفية وقوى الحرية والتغيير ورسم صورة لنفسه كمناصر للثورة وحكم المدنيين.
وقد رأت قيادة الجيش، وعلى رأسهم البرهان، في هيمنة حميدتي على السلطة في المستقبل تهديداً أمنياً، بل رأوا في طموحه السياسي تمهيداً للتمرد إن لم يتم دمج قواته في الجيش بشكل سريع، ، حسبما ورد في تقرير لمركز "ترندز" للدراسات والاستشارات.
وتأكيداً لذلك، أكد الجيش السوداني أن الأطماع الشخصية لقيادة الدعم السريع هي التي قادت لتفجير الصراع.
وكان أحد مؤشرات التقارب بين حميدتي، وبين قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي هو اعتراف "حميدتي"، بخطأ الإجراءات التي اتخذها الجيش السوداني في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، بإقالة حمدوك وإلغاء وثيقة تسليم السلطة الأساسية التي أبرمت في عام 2019 بين العسكريين والائتلاف عقب سقوط البشير.
المجلس المركزي يحاول الانفراد بتمثيل القوى الثورية
ومنذ انطلاق العملية السياسية الحالية، غابت عنها قوى بارزة ممثلة في "قوى الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية".
كما رفضت الاتفاق قوى يمكن اعتبارها أكثر ثورية من فصيل المجلس المركزي لائتلاف الحرية والتغيير ولعبت دوراً مهماً في الاحتجاجات ضد البشير، مثل (الحزب الشيوعي وتجمع المهنيين ولجان المقاومة)، حيث أنها لم توقع على الاتفاق الإطاري وظلت تقاطع مراحل العملية برمتها.
وتمثل "الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية" التحالف الأكبر الرافض للتوقيع النهائي، بحجة "الإقصاء" الذي يُمارس ضدها من قبل المكون المدني الأبرز في الاتفاق وهي قوى "الحرية والتغيير – المجلس المركزي" (الائتلاف الحاكم سابقاً).
الحركات المسلحة وأحزاب سياسية تؤسس ائتلافاً مناهضاً للمجلس المركزي وتبدو أقرب للبرهان
وتأسس تحالف "الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية" في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 من حركات مسلحة موقعة على اتفاق سلام جوبا للسلام في أكتوبر/تشرين الأول 2020 أبرزها حركتي "تحرير السودان" بقيادة مني أركو مناوي و"العدل والمساواة" بقيادة جبريل إبراهيم (كلاهما من دارفور).
كما تضم الكتلة الديمقراطية مجموعات أخرى، بينها "الحزب الاتحادي الأصل" بقيادة جعفر الميرغني، و"المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة" وهو كيان أهلي بشرقي السودان بقيادة محمد الأمين تِرِك.
وجاء تأسيس هذا التكتل بعد انحياز قائد الدعم السريع إلى تحالف قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي؛ مما باعد مواقف جبريل ومناوي السياسية عن حميدتي، فلجأ لتأسيس الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية، التي ينظر لها أنها قريبة للبرهان.
ورغم معارضتها للعملية السياسية، ظلت "الكتلة الديمقراطية" منخرطة في حوارات مع الآلية الثلاثية للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) بغرض تقريب وجهات النظر وتوقيعها على الاتفاق النهائي.
وتدعو "الكتلة الديمقراطية" لتوسيع قاعدة المشاركة في الاتفاق الإطاري، وهو ما ترفضه القوى المدنية الموقعة عليه، بحجة أنها محاولة لإغراق العملية السياسية بإدخال قوى "لا علاقة لها بالانتقال الديمقراطي" ولم تكن جزءاً من الإطاحة بالنظام السابق بل دعمت "انقلاب" البرهان.
خطاب المجلس المركزي أقرب لحميدتي وبعض أعضائه يطالبون بجعل الدعم نواة للجيش الوطني!
يبدو خطاب ائتلاف قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي أقرب لحميدتي، فهو يبدو محايداً في الصراع ويتعامل مع الجيش وقوات الدعم باعتبارهما طرفين متساويين وليس جيشاً رسمياً وقوات ذات جذور ميليشياوية خرجت عن سيطرة الجيش، إضافة لتجاهله لوجود مؤشرات قوية على أن قوات الدعم هي التي بدأت بالحرب، كما يبدو واضحاً من تصريحات حميدتي نفسه الذي اعترف بأنه بادر بمهاجمة المطارات لتدمير طائرات الجيش الحربية لمنع استخدامها ضد قوات الدعم.
وغضب الجيش السوداني من بعض قوى الحرية والتغيير-المجلس المركزي التي نادت بأن تكون قوات الدعم السريع نواة للجيش الوطني بعد إعادة إصلاحه، ومحاولتها استخدام حميدتي رافعة للاستئثار بالسلطة، حسبما قال الباحث في قضية دارفور إدريس آدم في تصريح لـ"الجزيرة.نت".
كلاهما سيئ.. ولكن أي الخيارين أفضل للقوى المدنية حكم الجيش أم الدعم السريع؟
ويبدو هذا الانحياز غير السافر لحميدتي وقوات الدعم السريع مقابل البرهان والجيش، غريباً، فقد يكون مفهوماً قلق ائتلاف الحرية والتغيير- المجلس المركزي من تحول البرهان لمستبد عسكري جديد مثل البشير.
ولكن ألا يجب على الائتلاف القلق أيضاً من سيطرة قائد ميليشيات سابق على الحكم، عبر الاعتماد على ميليشيات إقليمية قبلية غير نظامية قيادتها عائلية بحتية، حيث إن معظم مقاتلي الدعم السريع من القبائل العربية في دارفور والذين يعتقد أنهم من مقاتلي الجنجاويد السابقين المتهمين بارتكاب جرائم حرب بدارفور، كما أن قيادة الدعم بالكامل في يد عائلة حميدتي.
وهذا يعني أنه لو انفرد حميدتي بالسلطة، وتحولت قوات الدعم لنواة الجيش الوطني أننا أمام حكم عشائري ضيق القاعدة، عكس خطر الحكم العسكري الاستبدادي المفترض الذي سيستند للجيش الذي يظل على كل عيوبه ممثلاً لكل مناطق وطبقات السودان، وبالتالي سيكون هناك حدود لإمكانية استخدام ضباطه وجنود لقمع أية احتجاجات عكس الدعم السريع التي ولاؤها الأساسي لقائدها حميدتي وعشائرها، وخاصة أنه يسيطر عليها شعور بمظلومية الغرب السوداني، التي يحاول حميدتي أن يركز عليها.
والسؤال: ألا تخشى القوى المدنية إنقلاب حميدتي عليها، كما فعل مع الرئيس السابق عمر البشير الذي وصفه ذات مرة بـ"حمايتي"، أو كما يفعل الآن مع البرهان.
أسباب قلق الحرية والتغيير من البرهان أكثر من حميدتي.. بعضها مرتبط بمصر
جزء من توجس إن لم يكن عداء قوى ائتلاف الحرية والتغيير، للبرهان والجيش نابع على الأرجح من تحالفه المفترض مع مصر (مقابل إعجاب هذه القوى السابق برئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد).
وينبع هذا الموقف السلبي لقوى ائتلاف الحرية والتغيير من القاهرة من عاملين، الطابع العسكري للحكم الحالي في مصر والذي يجعل أعضاء القوى المدنية، يفترضون (وافتراضهم قد يكون حقيقياً) أن القاهرة تدفع لحكم عسكري في السودان وتعادي قيام ديمقراطية سودانية، وكذلك خوفهم من تكرار السيناريو المصري في السودان.
ولكن من جهة أخرى، هذا العداء الكامن نابع من أن كثيراً من أعضاء قوى ائتلاف الحرية والتغيير لهم جذور يسارية، واليسار السوداني (عكس اليسار في أغلب الدول العربية الأخرى) بعض فصائله لديها عداء للعروبة؛ لأنها تتبنى وجهات نظر متطرفة ترى في العرب غزاة للسودان، كما كان يقول جون جارنج زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان التي قادت انفصال الجنوب.
كما أن بعض مكونات قوى ائتلاف الحرية والتغيير، تعيد اجترار بعض الذكريات السلبية للحكم المصري للسودان في عهد الأسرة العلوية، وكذلك في فترة الحكم الثنائي البريطاني المصري (الحقيقة أنه كان حكماً بريطانياً استعمارياً لمصر والسودان بجنود البلدين).
إضافة لسيطرة الهواجس من الإسلاميين عليهم بشكل مطلق
والأهم تبدو قوى ائتلاف الحرية والتغيير مسكونة بهواجسها الأيديولوجية من الإسلاميين والنظام السابق، بشكل يجعل تقييماتها بعيدة عن الواقع وهو الأمر الذي يستغله حميدتي جيداً.
ففي ذروة هذه الحرب الضروس، اتهمت قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، فلول نظام حزب المؤتمر الوطني المنحل، بقيادة المخطط الحالي للوقيعة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لتدمير العملية السياسية الجارية حالياً.
وهو أمر يبدو مثيراً للاستغراب في ظل الحقيقة المعروفة بأن القتال نشب بسبب تعارض طموحات البرهان وحميدتي في تولي السلطة، وجود قوتين متوازيتين في البلاد، جيش رسمي وقوات الدعم لكل منهما قيادة منفصلة.
كما أن الإسلاميين حتى ولو لهم وجود واضح بما في ذلك داخل مؤسسات الدولة ومنها الجيش، إلا أنه ليس لديهم قوة عسكرية منفصلة، كما أنه حتى لو كان ضباط الجيش بعضهم من الإسلاميين، فليس هناك أي مؤشرات على أنهم يلعبون دوراً قيادياً أو يكونون كتلة مؤثرة أو منفصلة.
ويخدم خطاب المجلس المركزي هذا، دعاية حميدتي الذي يصف البرهان بالإسلامي المتطرف، ويقدم نفسه (وهو الزعيم ذو الجذور الميليشياوية القبلية مرتكبة جرائم حرب) كمقاتل ليبرالي يدعو للديمقراطية والحداثة!.
الائتلاف رفض إجراء انتخابات مما عزز سيطرة البرهان وحميدتي على السلطة
يبدو ائتلاف الحرية والتغيير، حبيساً داخل جذوره الأيدولوجية اليسارية، والتي جعلته منذ البداية يرفض إجراء انتخابات فور سقوط البشير كما اقترح الجيش؛ لأنه يخشى من فوز الإسلاميين.
ويريد في المقابل أن يمنحه الجيش السلطة دون انتخابات ليسيطر على الحكم ويستأصل الإسلاميين ويعمل على صياغة دولة يسيطر عليها، وهو يستند في ذلك لقدرته على حشد الجماهير في شوارع الخرطوم ومدن السودان الكبرى.
وبالطبع تناسى أعضاء الائتلاف أنهم يعطون بهذا المسار المطول، والمعقد، فرصة للعسكريين لتعزيز سيطرتهم على السلطة عبر المماطلة في تسليم الحكم (وهو ما حدث بالفعل).
كما أن محاولة الائتلاف الحصول على السلطة من الجيش بدون انتخابات، تعني أنه سيبقى دوماً أسير لما سيقدمه العسكريون ولمناوراتهم والآن خلافاتهم.
الأهم أن اللجوء للاتفاقات مع العسكريين عبر ضغوط الشارع أو الدعم الخارجي، وليس الانتخابات يعطي الفرصة لكثير من القوى الأخرى للمطالبة بنصيبها من السلطة بطرق مشابهة، مثل القوى السياسية الأخرى إضافة للقوى القبلية والمسلحة الإقليمية، وهو ما حدث مراراً بالفعل خلال السنوات الماضية.
مفارقة السودان الجديدة.. الحركات المسلحة تبدو الوسيط الأكثر مصداقية بين الجيش والدعم
إحدى مفارقات الوضع السوداني أن الحركات المسلحة المتمردة السابقة تبدو الوسيط الأكثر مصداقية بين الجيش وقوات الدعم السريع، وهما القوتان اللتان طالما حاربتا الحركات المسلحة التي كانت بدورها تتهم الجيش والدعم بارتكاب جرائم بحقهما.
بينما لا يثق الجيش على ما يبدو في وساطة قوى ائتلاف الحرية والتغيير- المجلس المركزي، تحديداً، ويرى الباحث في قضية دارفور إدريس آدم في تصريح لـ"الجزيرة.نت" أن ثمة تناقضات غريبة في وساطة الحركات المسلحة؛ فهي التي حاربت الجيش والدعم السريع في إقليم دارفور لسنوات طويلة، بينما كان البرهان قائداً عسكرياً في الإقليم وحميدتي مقاتلاً إلى جانبه.
ويقول آدم إن جهود القوى المدنية الموقعة على الاتفاق الإطاري لم تجد قبولاً من الجيش؛ لغضبه من مواقف قوى الحرية والتغيير-المجلس المركزي، ومحاولتها استخدام حميدتي رافعة للاستئثار بالسلطة.
كما تراجعت حظوظ جهود زعيم حزب الأمة فضل الله برمة ناصر -أكبر تنظيمات قوى الحرية- لوجوده ضمن التحالف (مع المجلس المركزي)، رغم مواقف ناصر المؤيدة للجيش بحكم انتمائه للمؤسسة العسكرية، بحسب آدم.
ويعتقد مراقبون أن قادة الحركات المسلحة يحظون بتقدير لدى طرفي الأزمة لأسباب عدة منها تقارب مواقفهم مع البرهان في توسيع العملية السياسية لتشمل غالبية القوى السياسية، عدا حزب المؤتمر الوطني المحظور الحاكم سابقاً، وعدم الإقصاء والتهميش واحترام المؤسسة العسكرية، وتنفيذ اتفاق جوبا للسلام الذي ينص على دمج وحدات الدعم السريع والحركات المسلحة في القوات النظامية.
كما يحظى قادة الحركات المسلحة بتقدير مماثل لدى حميدتي الذي وقّع معهم اتفاق جوبا للسلام، وكان يسعى إلى التقارب معهم بحكم انحدار مناوي وجبريل من إقليم دارفور، مسقط رأس حميدتي.
غير أن انحياز قائد الدعم السريع إلى تحالف قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي باعد مواقفهم السياسية، حيث أسس جبريل ومناوي قوى الحرية والتغيير-الكتلة الديمقراطية.
وتشعر الحركات المسلحة بدورها بالغبن؛ لأن الاتفاق الإطار الأخير، استبعدها من كعكة السلطة.
وفي هذا الإطار، أكد رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، د. محمد مصطفى، لوكالة "سبوتنيك" الروسية، الإثنين الماضي، أن هذا الانفجار حدث بسبب عدم التوفيق من قبل الآلية الثلاثية بقيادة المبعوث الأممي للسودان فولكر بيرتس، والذي استعجل الاتفاق الإطاري دون مراعاة لإحداث توافق أوسع حوله، بضم لجان المقاومة وكتلة التغيير الجذري وتحالف الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية).
وأشار مصطفى إلى أن الإقدام على التفريق بين شطري المكون العسكري (القوات المسلحة والدعم السريع)، وإدراجهما كمكونين للتوقيع على الاتفاق الإطاري بعد التقارب الواضح بين قائد قوات الدعم السريع مع الحرية والتغيير المجلس المركزي دفع الأوضاع إلى مرحلة الانفجار التي حذر منها الكثيرون.
مستقبل العملية السياسية في ظل الصراع بين الجيش السوداني والدعم
من المؤكد أن العملية السياسية التي كانت متعثرة أصلاً سوف تتضرر بشدة جراء القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع، وستؤدي إلى خلق تحالفات جديدة وتغيير في موازين القوى.
وتوقع الأستاذ الجامعي والمحلل السياسي عمر الطيب أن المعارك الجارية ستضع العملية السياسية في "ثلاجة" أن يفرض البرهان حالة الطوارئ في البلاد، وتشكيل حكومة تصريف أعمال برئيس وزراء مدني ويكلفها بإجراء الانتخابات في فترة لا تتجاوز 18 شهراً، لافتاً إلى أن قوى الحرية والتغيير-المجلس المركزي سترفض ذلك، في حين ستؤيدها أطراف سياسية أخرى، مما يدخل البلاد في حالة التجاذب والصراع واستمرار حالة اللاستقرار، حسبما نقل عنه تقرير لموقع "الغد".
ويتوقع الخبير الأمني سالم عز الدين أن يحسم الجيش المواجهات العسكرية في الخرطوم لتفوقه العسكري، لكن ستتحول قوات الدعم السريع إلى دارفور التي ينشر فيها عشرات الآلاف من المقاتلين وتجنيد قوات إضافية وتسليحها عبر حدود البلاد الغربية مع ليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى، خصوصاً أن لديها تعاوناً مع دول إقليمية وروسيا، مما يعيد إقليم دارفور إلى مربع الحرب.
وقد يتحول الإقليم لمعقل لحميدتي خارج سيطرة السلطة المركزية، وهو أمر قد يدفع القوى الانفصالية في مناطق مثل شرق السودان، وجبال النوبة بجنوب البلاد لاستغلال انشغال الجيش والدعم السريع في حربهما، لاتخاذ منحى مماثل، وفرض واقع انفصالي في مناطقهما.
ومما يعزز هذه المخاوف أن الصراع بين المعسكرين أعمق من مجرد اختلاف على عملية دمج القوات، أو التحالفات السياسية، إذ ينقل تقرير موقع "الغد"، عما وصفه بـ"مصادر مقربة" من البرهان ودقلو، أنهما ما زالا على خلاف حول من سيتقلد منصب القائد العام للجيش خلال فترة الاندماج التي ستمتد عدة سنوات.
إلى أي مدى تتحمل القوى المدنية المسؤولية عما آلت إليه أحوال البلاد؟
وبينما يركز المحللون (وهم محقون) على لوم البشير والنظام السابق، والإسلاميين السودانيين، والعسكريين بمن فيهم البرهان وحميدتي في التسبب في وصول السودان لأزمته الحالية، فإنهم يتجاهلون مسؤولية ائتلاف قوى الحرية والتغيير عبر إصراره على إطالة المرحلة الانتقالية ورفضه لإجراء انتخابات وتمسكه بسيناريو اقتسام الحكم مع العسكريين عبر اتفاقات أحادية بين الائتلاف وبين العسكريين بما فيهم قوات الدعم لاقتسام السلطة بدون انتخابات.
فبدون انتخابات تحدد الوزن الديمقراطي لكل قوة سياسية، فإن التظاهر والعصيان المدني وغيرهما من أدوات الضغط بما فيها التلويح بالسلاح والاستقواء بالخارج، ستكون أداة أي قوة في طول البلاد وعرضها لنيل مكتسبات، خاصة أن المظالم كثيرة في السودان بالفعل، ويستحيل تلبيتها فجأة كلها.
وستتطور الأمور كما حدث الآن، إلى أن من يمتلك القوة العسكرية سوف يسعى لاستخدامها للسيطرة على السلطة أو نيل نصيب منها على الأقل، وقد يتطور الأمر لمحاولة الحركات المسلحة والمجموعات القبلية في الأقاليم النائية بدورها استخدام للقوة لوضع نفسها في قلب المعادلة بعد استبعاد خارطة الطريق لها.
وبينما تركز قوى ائتلاف الحرية والتغيير على إقصاء الإسلاميين، فإن الحرب الحالية قد تجعل الصوت الأعلى لمن يحمل السلاح وهو ليس بالتأكيد لا القوى المدنية ولا الإسلاميين بل الجيش والمجموعات القبلية في الأطراف والحركات المسلحة القائمة وتلك التي ستنشأ نتيجة الفوضى المحتملة.
وبعد أن كانت القوى المدنية السودانية ترفع شعار لا صوت يعلو على صوت الشارع، وترفض صوت صندوق الانتخابات، ستصبح المعادلة الجديدة "لا صوت يعلو فوق صوت البندقية".