كشفت حرب مناطيد التجسس الأخيرة بين أمريكا والصين عن تصعيد خطير في صراع القوى الكبرى بينهما، فهل أصبح العالم على شفا حرب كبرى جديدة ساحتها تايوان ومنطقة المحيط الهادئ؟
موقع Responsible Statecraft الأمريكي رصد أحدث تطورات المنافسة بين بكين وواشنطن وفي القلب منها قضية تايوان، حيث يبدو أن القوتين العظميين تستعدان لمواجهة باتت وشيكة.
فبينما كان العالم يتابع الخلاف الدبلوماسي حول رحلات المناطيد الصينية الأخيرة على ارتفاعات عالية عبر أمريكا الشمالية، ظهرت دلائل على أنَّ بكين وواشنطن تستعدان لشيء أخطر، وهو النزاع المسلح حول تايوان؛ إذ تثير مراجعة التطورات الأخيرة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ درساً تاريخياً مُجرباً وصحيحاً يستحق الترديد في هذه اللحظة الخطيرة من التاريخ: عندما تستعد الدول للحرب، فمن المرجح أنها ستخوض هذه الحرب.
كانت الصين وتايوان قد انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولة ذات سيادة وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين لا تزال تصر على أنه ستتم استعادة الجزيرة في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر.
ولا يعترف بتايوان، كدولة مستقلة، سوى عدد قليل من الدول؛ إذ تعترف معظم الدول بالحكومة الصينية في بكين بدلاً عن ذلك. ولا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، ولكن لدى واشنطن قانون يلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها.
تصريحات تصعيدية بشأن تايوان
فعلى قمة هرم السلطة، حدد القادة الوطنيون في بكين وواشنطن مواقف متناقضة تناقضاً صارخاً حول مستقبل تايوان. ومنذ ما يقرب من عام حتى الآن، يحاول الرئيس جو بايدن إزالة الغموض الكامن في سياسة الولايات المتحدة السابقة تجاه تلك الجزيرة من خلال التأكيد مراراً وتكراراً على أنه سيدافع عنها بالفعل ضد أي هجوم من البر الرئيسي الصيني.
ففي مايو/أيار 2022، رداً على سؤال أحد المراسلين حول غزو صيني محتمل لتايوان، أجاب الرئيس: "نعم"، ستتدخل الولايات المتحدة عسكرياً. ثم أضاف: "نحن نتفق مع سياسة الصين الواحدة. لقد وقّعنا عليها وجميع الاتفاقيات المصاحبة لها، لكن فكرة أنه يمكن أخذها بالقوة، فقط بالقوة، ليست مناسبة".
كما أقرّ الرئيس بايدن أنَّ واشنطن، من خلال توسيعها الاعتراف الدبلوماسي ببكين في عام 1979، قبلت بالفعل سيادة الصين المستقبلية على تايوان. وعلى مدى السنوات الأربعين التالية، أدلى الرؤساء من كلا الحزبين بتصريحات علنية تعارض استقلال تايوان. وفي الواقع، أقروا بأنَّ الجزيرة كانت مقاطعة صينية، وأنَّ مصيرها مسألة داخلية (حتى لو عارضوا اتخاذ جمهورية الصين الشعبية أية خطوة حيال ذلك في المستقبل القريب).
لكن بايدن يتمسك الآن بخطاب عدواني، فعلى سبيل المثال، صرّح لشبكة CBS News في سبتمبر/أيلول الماضي، بأنه سيرسل بالفعل قوات أمريكية للدفاع عن تايوان "إذا حدث، في الواقع، هجوم غير مسبوق". بعد ذلك، وفي خرق كبير لسياسة الولايات المتحدة طويلة الأمد، أضاف: "تايوان تصدر أحكامها الخاصة بشأن استقلالها … هذا قرارهم".
وفي غضون أسابيع من ذلك، رد الرئيس الصيني شي جين بينغ، خلال مؤتمر للحزب الشيوعي، بالتعهد بالتزام شخصي قوي بتوحيد تايوان -وبالقوة إذا لزم الأمر. وقال: "نحن نصر على السعي من أجل آفاق إعادة التوحيد السلمي، لكننا لن نتعهد قط بالتخلي عن استخدام القوة، ونحتفظ بخيار اتخاذ جميع الإجراءات الضرورية".
وكما قالت الفيلسوفة السياسية هانا أرندت ذات مرة، فإنَّ الشعور بالحتمية التاريخية هو محفز أيديولوجي خطير يمكن أن يُغرِّق دولاً استبدادية مثل الصين في حروب أو مذابح جماعية لا يمكن تصورها.
استعدادات الحرب تتحرك بأوامر من القيادة العليا
ليس من المستغرب أنَّ البيانات القوية للرئيسين بايدن وشي كانت تشق طريقها إلى أسفل سلسلة القيادة في كلا البلدين. ففي يناير/كانون الثاني الماضي، أرسل مايك مينيهان، وهو جنرال في القوات الجوية الأمريكية برتبة أربع نجوم، مذكرة رسمية إلى قيادة النقل الجوي الضخمة التي تضم 500 طائرة و50 ألف جندي، يأمرهم فيها بتكثيف تدريبهم للحرب مع الصين. واختتم حديثه قائلاً: "حدسي يخبرني، سنقاتل في عام 2025". وبدلاً من التنصل من بيان الجنرال، أضاف المتحدث باسم البنتاغون ببساطة: "توضح إستراتيجية الدفاع الوطني أنَّ الصين تمثل تحدياً سريعاً لوزارة الدفاع".
كما أنَّ الجنرال مينيهان ليس أول ضابط كبير يدلي بمثل هذه التصريحات المُنذِرَة بالسوء. في وقت مبكر من مارس/آذار 2021، حذّر قائد منطقة قيادة المحيطين الهندي والهادئ، الأدميرال فيليب ديفيدسون، الكونغرس من أنَّ الصين تخطط لغزو الجزيرة بحلول عام 2027: "من الواضح أنَّ تايوان أحد طموحاتهم… وأعتقد أنَّ التهديد سيتجلى خلال العقد الجاري، بل في الواقع، خلال السنوات الست المقبلة".
وعلى عكس نظرائهم الأمريكيين، التزم رؤساء أركان الحرب في الصين الصمت علناً بشأن هذا الموضوع، لكن طائراتهم كان صوتها واضحاً ولا يمكن إغفاله. بعدما وقّع الرئيس بايدن مشروع قانون مخصصات الدفاع في ديسمبر/كانون الأول الماضي الذي شمل مساعدات عسكرية بقيمة 10 مليارات دولار لتايوان، اجتاح أسطول غير مسبوق مكون من 71 طائرة صينية والعديد من الطائرات العسكرية بدون طيار الدفاعات الجوية للجزيرة في فترة 24 ساعة واحدة.
ونظراً لأنَّ هذا التصعيد المتبادل لا يتخذ سوى مسار صعودي، طابقت واشنطن عدوان الصين بمبادرات دبلوماسية وعسكرية كبرى. وأصدر مساعد وزير الدفاع لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، إيلي راتنر، تعهداً، يحمل ما يكفي من نذير سوء، بأنَّ "عام 2023 سيكون على الأرجح العام الأكثر تحولاً في وضع القوات الأمريكية في المنطقة خلال جيل".
تُموِل فاتورة "الدفاع" الأمريكية السنوية لعام 2023 بناء المنشآت العسكرية عبر المحيط الهادئ. وحتى في الوقت الذي تضاعف فيه اليابان ميزانيتها الدفاعية، جزئياً لحماية جزرها الجنوبية من الصين، تخطط مشاة البحرية الأمريكية في محافظة أوكيناوا اليابانية لاستبدال دباباتها ومدفعيتها الثقيلة بطائرات بدون طيار خفيفة وصواريخ محمولة على الكتف؛ لأنها تُشكِّل "أفواجاً ساحلية" قادرة على الانتشار السريع حتى أصغر جزر المنطقة.
التحضير للحرب من جانب الصين وأمريكا
مع تفكير كل من بكين وواشنطن في حرب محتملة في المستقبل لتحديد مصير تايوان النهائي، من المهم النظر في التكاليف المحتملة لمثل هذا الصراع -خاصةً في ضوء ما يحدث بحرب أوكرانيا حالياً. ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2021، جمعت وكالة Reuters سلسلة من السيناريوهات ذات المصداقية بشأن حرب بين الصين والولايات المتحدة على تايوان. وقالت Reuters إنه إذا قررت الولايات المتحدة القتال من أجل الجزيرة، "فليس هناك ما يضمن أنها ستهزم جيش التحرير الشعبي الصيني الذي يزداد قوة".
في السيناريو الأقل عنفاً، توقعت Reuters أن تستخدم بكين أسطولها البحري لفرض "حجر جمركي" حول تايوان، بينما تعلن عن منطقة تعريف دفاع جوي فوق الجزيرة وتحذر العالم من انتهاك سيادتها. بعد ذلك، لتشديد الخناق، يمكن أن تنتقل الصين إلى فرض حصار كامل، وتزرع الألغام في الموانئ الرئيسية وتقطع الكابلات تحت الماء.
وإذا قررت واشنطن التدخل، فإنَّ غواصاتها ستُغرِّق بلا شك العديد من السفن الحربية لجيش التحرير الشعبي، بينما يمكن لسفنها السطحية إطلاق طائرات وصواريخ أيضاً. لكن نظام الدفاع الجوي الصيني القوي سيطلق بلا شك الآلاف من صواريخه؛ مما سيُلحِق "خسائر فادحة" بالبحرية الأمريكية. بدلاً من محاولة شن غزو برمائي صعب، قد تكمل بكين هذا التصعيد التدريجي بهجمات صاروخية على مدن تايوان حتى يستسلم قادتها.
في سيناريو Reuters عن حرب شاملة، تتخذ بكين قراراً يشمل "تنفيذ أكبر محاولة إنزال برمائي محمول جواً وأكثرها تعقيداً على الإطلاق"؛ بهدف "إنهاك الجزيرة قبل أن تتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها من الرد". ولصد هجوم مضاد أمريكي، قد يطلق جيش التحرير الشعبي صواريخ على القواعد الأمريكية في اليابان وجزيرة غوام. وبينما تطلق تايوان طائرات وصواريخ لردع أسطول الغزو، تتجه مجموعات حاملات الطائرات الأمريكية نحو الجزيرة، "وفي غضون ساعات، تندلع حرب كبرى في شرق آسيا".
سيناريوهات الحرب المدمرة
وفي أغسطس/آب 2022، أصدرت مؤسسة بروكينغز تقديرات أدق عن الخسائر المحتملة من سيناريوهات مختلفة في مثل هذه الحرب. وعلى الرغم من أنَّ "التحديثات العسكرية الأخيرة والدرامية للصين قد قلّلت بحدة من قدرة أمريكا على الدفاع عن الجزيرة"، كما كتب محلل في مؤسسة بروكينغز، إلا أن تعقيدات مثل هذا الصدام تجعل "النتيجة… غير معروفة بطبيعتها". ومع ذلك، هناك شيء واحد فقط مؤكد؛ وهو أنَّ الخسائر التي ستطال كل جانب (بما في ذلك تايوان نفسها) ستكون مدمرة.
ففي السيناريو الأول لمعهد بروكينغز الذي يتضمن "معركة بحرية تركز على الغواصات"، ستفرض بكين حصاراً وسترد واشنطن بقوافل بحرية لدعم الجزيرة. إذا استهدفت الولايات المتحدة قطع اتصالات بكين، فستفقد البحرية الأمريكية 12 سفينة حربية فقط، بينما ستغرق جميع الغواصات الصينية الستين. وعلى النقيض من ذلك، إذا استطاعت الصين الحفاظ على خطوط اتصالاتها، فمن المحتمل أن تغرق 100 سفينة، معظمها سفن حربية أمريكية، بينما تفقد 29 غواصة فقط.
وفي السيناريو الثاني الذي وضعه معهد بروكينغز لـ"حرب شبه إقليمية أوسع"، سيستخدم كلا الجانبين الطائرات والصواريخ في صراع من شأنه اجتياح جنوب شرق الصين وتايوان والقواعد الأمريكية في اليابان وأوكيناوا وغوام. وإذا أثبتت هجمات الصين نجاحها، فقد تدمر ما بين 40 إلى 80 سفينة حربية أمريكية وتايوانية بتكلفة حوالي 400 طائرة صينية.
بينما إذا كانت للولايات المتحدة اليد العليا، فيمكنها تدمير "الكثير من قدرات جيش الصين في جنوب شرق الصين"، وإسقاط أكثر من 400 طائرة تابعة لجيش التحرير الشعبي، حتى في الوقت الذي تتكبد فيه واشنطن خسائر فادحة في أسطول طائراتها النفاثة.
ومن خلال التركيز إلى حد كبير على الخسائر العسكرية، وهي مخيفة بما يكفي، تقلل الدراستان إلى حد كبير من التكاليف الحقيقية والدمار المحتمل الذي سيلحق بتايوان ومعظم شرق آسيا. هناك توقعات بأنه إذا فرضت الصين حصاراً جمركياً على الجزيرة، ستتردد واشنطن كثيراً أمام فكرة فقدان مئات الطائرات وعشرات السفن الحربية، بما في ذلك حاملة طائرات أو اثنتان، والتراجع عن سياستها طويلة الأمد فيما يتعلق باعتبار تايوان جزءاً من أراضي الصين. لكن إذا تحدّت الولايات المتحدة منطقة الحظر الجمركي تلك، فسيتعين عليها مهاجمة الحصار الصيني وقد تصير، في نظر معظم العالم، المعتدي – وهو مثبط حقيقي من وجهة نظر واشنطن.
ومع ذلك، إذا شنت الصين غزواً شاملاً، فمن المحتمل أن تستسلم تايوان في غضون أيام قليلة بمجرد أن تجد قواتها الجوية، المكونة من 470 طائرة مقاتلة، نفسها مغمورة في مواجهة 2900 مقاتلة نفاثة تابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني، و2100 صاروخ أسرع من الصوت، وقوات بحرية ضخمة صارت الآن الأكبر في العالم.
وفي انعكاس للميزة الاستراتيجية الواضحة للصين المتمثلة في قربها البسيط من تايوان، قد يصير احتلال الجزيرة أمراً واقعاً حتى قبل وصول سفن البحرية الأمريكية من اليابان وهاواي بأعداد كافية لتحدي الأسطول الصيني الضخم.
ومع ذلك، إذا سمحت بكين وواشنطن بطريقة ما لقوة الدفع والجذب المرتبطة بالسياسات والتخطيط بجرهما إلى مثل هذه الحرب المستمرة في الاتساع، فإنَّ الضرر الناتج قد لا يُحصَى؛ ما بين مدن مُدمَرة وآلاف لا تُعَد من القتلى، وخراب الاقتصاد العالمي الذي يقع مركزه في آسيا.
وليس بوسع العالم الآن سوى الأمل في أن يكون قادة اليوم في كل من واشنطن وبكين أكثر انضباطاً من نظرائهم في برلين وباريس في أغسطس/آب 1914 عندما أشعلت خطط النصر فتيل الحرب العالمية الأولى التي خلّفت وراءها 20 مليون قتيل.