ربما تكون زيارة وزير الخارجية إلى الشرق الأوسط أبلغ تجسيد لمعضلة إدارة جو بايدن في المنطقة، فهل ينجح بلينكن في تجميد الموقف المتفجر بين إسرائيل والفلسطينيين بوساطة مصرية؟
ويجتمع بلينكن في القاهرة بالسيسي ووزير الخارجية المصري سامح شكري، ومن المتوقع أن يبحث قضايا إقليمية، من بينها مساعي الانتقال السياسي في السودان، والجمود بين الفصائل المتنافسة في ليبيا.
وقال نيد برايس، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، إن الوزير بلينكن ناقش، خلال اجتماعه مع الرئيس السيسي، الجهود الجارية لخفض التوتر بين إسرائيل والفلسطينيين.
معضلة الإدارة الأمريكية
نشرت صحيفة The Washington Post الأمريكية تقريراً يرصد كيف أن زيارة بلينكن تسلط الضوء على محاولة الولايات المتحدة تحقيق التوازن بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
إذ كان بايدن، منذ توليه المسؤولية في البيت الأبيض قبل عامين، يتجاهل الشرق الأوسط بصورة شبه تامة، لكن حرب إسرائيل على غزة في مايو/أيار 2021 أجبرته وقتها على إعادة التفكير، فأجرى اتصالات مع زعماء المنطقة ثم أرسل بلينكن أيضاً، ومع التوصل لوقف إطلاق النار بوساطة مصرية، عادت المنطقة إلى ذيل ملفات السياسة الخارجية الأمريكية مرة أخرى.
ثم جاءت عودة نتنياهو إلى رئاسة الوزراء على رأس أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية لتهدد بانفجار الموقف مرة أخرى بين إسرائيل والفلسطينيين كتذكير لواشنطن بأن التحديات المزمنة التي وضعت الشرق الأوسط على رأس شواغل الولايات المتحدة الملحَّة من الصعب تجاهلها، إذا كان ذلك ممكناً من الأساس.
فعلى الرغم من أن جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض، كان قد سافر إلى إسرائيل والضفة الغربية المحتلة مؤخراً، وشارك في أرفع محادثات منذ تشكيل الحكومة الجديدة في إسرائيل، التي توصف بأنها "حكومة السوابق"، فإن العديد من خبراء السياسة الفلسطينيين لم يعولوا كثيراً على هذه الزيارة، قائلين إن إدارة بايدن ونهجها تجاه الفلسطينيين لم يؤدِّ إلا إلى زيادة تدهور الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
إذ قال طارق كيني الشوا، الباحث الأمريكي الفلسطيني لموقع Middle East Eye البريطاني، إن "زيارة جيك سوليفان لإسرائيل لا تهدف إلى تحسين حياة الفلسطينيين أو دعم عملية السلام بأي طريقة مجدية".
لكن مع تصاعد عنف جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين في القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلتين، ورد الفعل الذي تمثل في عمليتي القدس وسلوان، أصبح واضحاً أن الموقف المشتعل في طريقه للانفجار بصورة تخشى معها واشنطن من أن تتحول الأنظار والاهتمام العالمي عن ملفاتها الأكثر سخونة، وبخاصة الحرب في أوكرانيا.
وكان متحدث باسم البيت الأبيض قد قال إن سوليفان أكد مجدداً على "اهتمام الإدارة الأمريكية بتعزيز التواصل مع السلطة الفلسطينية، وتعميق العلاقات مع الشعب الفلسطيني"، والاستمرار في دعم حل الدولتين.
مجبر بايدن لا بطل
وبالتالي عندما يهبط وزير الخارجية أنتوني بلينكن في إسرائيل هذا الأسبوع، فسيخطو داخل بؤرة عنف وصراع سياسي، تهددان محاولات إدارة بايدن توجيه سياستها الخارجية لجبهات أخرى، في أوروبا وآسيا.
وتُمثل زيارة الوزير لإسرائيل والضفة الغربية المحتلة أرفع مشاركة أمريكية حتى الآن مع حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الجديدة، التي يقول منتقدوها إن تحالفها اليميني المتطرف يتبنى خطوات لإضعاف النظام الديمقراطي في إسرائيل وزيادة تأجيج الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
بريان كاتوليس، نائب رئيس السياسة في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، قال لصحيفة واشنطن بوست إن إدارة بايدن حاولت في البداية تجنّب الانخراط الزائد في جزء من العالم هيمن على السياسة الخارجية الأمريكية على مدار عقدين بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول وكانت تكلفته المادية والبشرية هائلة على الأمريكيين.
وأضاف: "لكنك إذا لم تحتك بالمنطقة، فستحتك هي بك، ولذلك هم يحاولون الآن إيجاد طريقة لتظل تحت السيطرة في الوقت الذي تُحجم فيه عن التدخل المباشر حين تفكر في تحديات مثل روسيا والصين".
وتتزامن زيارة بلينكن التي ستستمر يومين مع تصعيد كبير في العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين، في أعقاب مداهمة إسرائيلية أسفرت عن استشهاد 10 أشخاص في الضفة الغربية وعملية قَتل فيها فلسطيني سبعة أشخاص بالقرب من كُنيس يهودي بالقدس الشرقية المحتلة.
وهذه اللحظات التي يشوبها التوتر تسلط الضوء على الحبل الرفيع الذي يتعين على إدارة بايدن أن تسير عليه لتحافظ على حليفها الثمين في الشرق الأوسط (إسرائيل)، وفي الوقت نفسه لتضع حداً لخطوات إشكالية يتخذها شركاء نتنياهو السياسيون وتحاول إنقاذ قدر من الاستقرار مع الفلسطينيين.
وفي حين أن زيارة بلينكن إلى إسرائيل تأتي في أعقاب زيارتين من مدير وكالة المخابرات المركزية ويليام بيرنز ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، فمنصبه وزيراً للخارجية سيسمح له بنقل رسائل عامة تؤكد استمرار الدعم للجانبين في وقتٍ أثارت فيه حرب أوكرانيا وتركيز البيت الأبيض على التنافس مع الصين مخاوف من أن تتخلى واشنطن عن الشرق الأوسط بالكامل.
ويبدو في هذا السياق أن إدارة بايدن تعوِّل على الدور المصري في إعادة الكرة وممارسة دور الوسيط بين إسرائيل والفلسطينيين، كما فعلت خلال الاعتداء الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة عام 2021، لكن هذه المرة بهدف منع الموقف من الانفجار قبل فوات الأوان.
مهمة بلينكن المعقدة في إسرائيل
تأمل إدارة بايدن إذاً أن تتيح جولة بلينكن أيضاً فرصة للتأكيد على موقف بايدن من بعض القضايا الرئيسية: رغبته في حل الدولتين بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مهما بدا هذا الاحتمال بعيداً، ومعارضته لأي تغيير في الوضع الراهن في قضايا من بينها المسجد الأقصى، ودعوته إلى إدخال إصلاحات في السلطات الفلسطينية؛ إذ من المقرر أيضاً أن يلتقي بلينكن مع محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية في رام الله بالضفة الغربية.
ولتوضيح هذه المواقف، ستسلط إدارة بايدن الضوء على الجوانب التي تختلف فيها عن إدارة ترامب، التي كانت تتبنى موقفاً أقل انتقاداً لتعامل إسرائيل مع الفلسطينيين.
لكن المهمة الأصعب على الإطلاق تكمن في إسرائيل نفسها؛ إذ إنه ليس واضحاً كيف سيضغط بلينكن على نتنياهو في المواقف السياسية التي يتبناها بعض عناصر ائتلافه، الذين يعتنق بعضهم مواقف تدعم ضم الضفة الغربية المحتلة وإكمال تهويد القدس.
وأبرز هؤلاء إيتمار بن غفير، السياسي اليميني المتطرف الذي عيَّنه نتنياهو وزيراً للأمن القومي؛ إذ أثار بن غفير- الذي حظر أيضاً رفع العلم الفلسطيني في الأماكن العامة، واعتبر ذلك دعماً للإرهاب- انتقادات عالمية مطلع هذا الشهر بعد زيارة نادرة لموقع في القدس يقدسه المسلمون واليهود على السواء. وهذه الزيارة جاءت بعد تحذيرات من داخل حكومته واجتذبت توبيخاً أمريكياً.
وفي هذا السياق أيضاً، عاد الحي الفلسطيني "الخان الأحمر" إلى بؤرة الأحداث، مع سعي إيتمار بن غفير لهدمه وتهجير أهله لإكمال عملية تهويد القدس المحتلة؛ إذ كانت وسائل إعلام إسرائيلية قد قالت إن بن غفير طالب، أمام جلسة الحكومة الأسبوعية، الأحد 22 يناير/كانون الثاني، بإخلاء وهدم ما وصفها بالمباني غير المرخصة للفلسطينيين بالمناطق المصنفة "ج" في 5 مواقع، من بينها الخان الأحمر، وتهجير أهلها.
هذه التحركات تشير إلى أن الخان الأحمر، في القدس الشرقية المحتلة، أصبح بؤرة المواجهة الجديدة بالأراضي المحتلة، في ظل الحكومة الإسرائيلية التي تضم أبرز زعماء المستوطنين المتطرفين ومواقفهم المعلنة من السعي لهدم المسجد الأقصى وتهويد القدس وتهجير الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال.
كما تمثل زيارة بلينكن اختباراً آخر لوزير الخارجية الأمريكي في الطريقة التي سيتعامل بها مع التغييرات المقترحة في السلطة القضائية الإسرائيلية التي يقول منتقدون إنها ستقضي على ضوابط وتوازنات مهمة. وهذه التغييرات، التي ستقوض السلطة القضائية، تأتي في وقت يواجه فيه نتنياهو قضايا فساد متعددة وأسئلة عميقة عن سلامة النظام السياسي الإسرائيلي بعد سلسلة من الانتخابات أفضت في النهاية إلى عودة نتنياهو إلى السلطة للمرة الثالثة.
وقد رفضت باربرا ليف، مساعدة وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، في مكالمة مع الصحفيين يوم الخميس، توضيح إن كان بلينكن سيضغط على نتنياهو في هذه المقترحات القضائية.
وقال ديفيد ماكوفسكي، الباحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، إنه يتوقع من بلينكن ومستشاريه أن يُسرّوا بمخاوفهم إلى حكومة نتنياهو على انفراد.
وأضاف لـ"واشنطن بوست": "وهذا ما أدعوه "روح بايدن": حلها بهدوء؛ لا تعقد مؤتمراً صحفياً. لا تحدث ضجيجاً من منبر وزارة الخارجية". ربما يصرحون ببضع كلمات علناً، لكنني لا أظنهم يرغبون في الإتيان بأي تصرف قد يُفسَّر على أنه تدخل علني في قضية محلية".
ويرى البعض في واشنطن أن زيارة بلينكن قد تستدعي للذاكرة الخطاب غير الاعتيادي الذي ألقاه نتنياهو أمام مجلس النواب الأمريكي عام 2015 الذي شجب فيه الاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة أوباما مع إيران. وهذا الخطاب ألحق ضرراً مزمناً بعلاقة الزعيم الإسرائيلي بالعديد من الديمقراطيين.
وقال ماكوفسكي إن بعض الانتقادات العلنية من بلينكن ستلقى على الأرجح ترحيباً من نتنياهو، الذي قد يستغل المخاوف التي عبَّر عنها أهم حليف لإسرائيل لإقناع أعضاء ائتلافه صعب المراس. وقال ماكوفسكي عن تعاملات إدارة بايدن مع نتنياهو: "علينا ألا نستبعد استخدام القليل من تكتيك الصديق والعدو".