بعد أن فقدت الأمل في "احتواء" كوريا الشمالية وزعيمها كيم جونغ أون، هل تتخلى أمريكا عن موقفها من الانتشار النووي وتسمح لحليفتها كوريا الجنوبية بامتلاك أسلحة نووية لتحقيق التوازن في شبه الجزيرة؟
تحظى كوريا الجنوبية بالحماية الأمريكية من خلال معاهدة الدفاع الموقّعة بين سيول وواشنطن عام 1972، والتي بموجبها يوجد عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين في المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين، لكن تلك المعاهدة أيضاً حملت شرطاً يمنع سيول من استخدام الطاقة النووية لأغراض عسكرية.
لكن يبدو أن هذا الموقف الأمريكي الرافض قد بدأ يلين، بحسب تقرير لمجلة The Foreign Policy عنوانه: "واشنطن قد تسمح لكوريا الجنوبية بحيازة القنبلة النووية"، ألقى الضوء على المتغيرات التي شهدتها شبه الجزيرة الكورية مؤخراً.
هل وصلت أمريكا إلى طريق مسدود؟
نعم، انتهت واشنطن إلى طريق مسدود في محاولتها كبح مساعي كوريا الشمالية إلى حيازة الأسلحة النووية. فقد صارت الدولة الآسيوية نووية، وترسانتها من الأسلحة النووية تنمو يوماً بعد يوم في الحجم والإمكانات. وعلى الرغم من أن بيونغ يانغ لن تكون قادرة أبداً على توجيه ضربة استباقية إلى الولايات المتحدة، فإنها قد تتمكن قريباً من امتلاك قدرة الرد على واشنطن إذا دافعت عن كوريا الجنوبية.
وعلى الرغم من أنه لطالما أرادت كوريا الجنوبية أن يكون لديها أسطول من الغواصات النووية لمواجهة التهديد الدائم من كوريا الشمالية، لكن أمريكا وقفت حجر عثرة أمام حلم سيول لأكثر من نصف قرن. لكن مع تطوير كوريا الشمالية لبرنامج نووي عسكري، وامتلاكها ذلك النوع من الغواصات، ازدادت رغبة سيول في إعادة إحياء الحلم مرة أخرى.
فقد تغيَّر توازن القوى النووي في شبه الجزيرة الكورية بين شمال يملك السلاح النووي وجنوب يفتقر إليه، وقد استدعى ذلك نقاشات مهمة داخل الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية بشأن السياسة النووية. والسؤال الأول في هذا النقاش: هل من المنطقي الاستمرار في تجريد كوريا الجنوبية من السلاح النووي -بمعنى التجريد الشامل والمُثبت والمستدام- من السلاح النووي، في وقت صارت فيه كوريا الشمالية تحوز القنبلة النووية بالفعل؟
وعلى الرغم من أن بايدن، منذ توليه منصبه قبل عامين، قد أشعل الصراع الجيوسياسي مع الصين، مما أثار سباق تسلح شرساً في مناطق جنوب وشرق آسيا والمحيطين الهادئ والهندي، إلا أن واشنطن تريد أن يظل حلفاؤها في هناك معتمدين عليها بشكل كامل كمظلة أمنية.
ولم يعد هناك من يتصور إمكان الحديث إلى زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، أو إجباره على نزع السلاح النووي، إلا قلة من مفرطي التفاؤل. وعلى الرغم من أن السياسة الرسمية لواشنطن ترفض رفضاً باتاً القبول بكوريا الشمالية دولةً نووية، فإن الواقع قد يجبر الإدارة الأمريكية في النهاية على التراجع عن هذه السياسة.
وأهم من ذلك، أن مؤسسات الحكم في كوريا الجنوبية تريد أن تحوز أسلحة نووية أمريكية، أو تقترب من بعضها على الأقل. وقد اقترح رئيس كوريا الجنوبية، يون سوك يول، أن تبني سيول قنبلتها النووية بنفسها. ويرغب كثير من المسؤولين هناك في إنشاء "القدرات الاستراتيجية" اللازمة لبناء السلاح النووي وترسيخها في شبه الجزيرة، وتأسيس صيغة من "المشاركة النووية" مماثلة لتلك القائمة في أوروبا.
ما موقف كوريا الجنوبية من امتلاك سلاح نووي؟
وفي غضون ذلك، يشكك أصحاب النظرة المتشائمة (أو الواقعية) بكوريا الجنوبية في تمسك واشنطن بتعهداتها وفي صدق وعودها بحماية بلادهم مهما كان الثمن، ولذلك يريدون بناء قنبلتهم، ويبدو أن بعض صانعي السياسات في الولايات المتحدة مستعدون للمضي قدماً في هذا المسار.
يزعم خبراء أن زيادة الأسلحة النووية لدى كوريا الشمالية يهدد استقرار الوضع الأمني الراهن في شبه الجزيرة الكورية. فمنذ أن وقَّعت الولايات المتحدة اتفاقية الدفاع المشترك مع كوريا الجنوبية عام 1953، كان من السهل عليها الوفاء بمقتضيات الاتفاقية، لأن الاضطرابات والحروب كانت بعيدة كل البعد عن المساس بالأراضي الأمريكية، وبقيت كوريا الشمالية عاجزة، حتى وقت قريب، عن الوصول إلى الولايات المتحدة أو حتى قاذفاتها الاستراتيجية في شبه الجزيرة الكورية. لكن ذلك كله قد تغيَّر الآن.
على أثر ذلك، تزايد الشك لدى صانعي السياسات بكوريا الجنوبية في جدوى اتفاقيات الردع الموسع، سواء التقليدي أو النووي، مع الولايات المتحدة. واشتدت المخاوف بعد أن أجرت كوريا الشمالية خلال العام الماضي أكثر من 90 تجربة إطلاق لصواريخ باليستية، فضلاً عن أن بيونغ يانغ تسعى جاهدة إلى تضمين صواريخها الباليستية العابرة للقارات رؤوساً حربية نووية، وهو ما يعرِّض المدن الأمريكية نفسها للخطر. فهل تلتزم واشنطن بتعهدات حماية كوريا الجنوبية مع علمها بأن كيم يستطيع توجيه صواريخه النووية إلى قلب الأراضي الأمريكية؟
زادت الحرب في أوكرانيا من مخاوف كوريا الجنوبية، فعلى الرغم من أن أوكرانيا ليست حليفة للولايات المتحدة، فإن تهديد موسكو باستخدام الأسلحة النووية زاد الشك في موقف الولايات المتحدة من ردع كوريا الشمالية إذا حازت قدرات نووية شبيهة.
أوضح يون ذلك بالقول: "الولايات المتحدة كانت تخبرنا بألا نقلق استناداً إلى اتفاقات الردع الممتد والتعهدات بأنها ستحمينا من المخاطر، إلا أن شعبنا صار من الصعب عليه أن يقتنع بذلك". وأومأ يون إلى أن الولايات المتحدة ستمدُّ إليهم يد المساعدة في التدرب على استخدام الأسلحة النووية الأمريكية: "الأسلحة النووية ملك للولايات المتحدة، لكن التخطيط وتبادل المعلومات والمناورات والتدريبات يجب أن يجري بالاشتراك بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة".
ومع ذلك، تظل الضمانات عرضة للشك، فالأوكرانيون لا تغيب عن ذاكرتهم "مذكرة بودابست للضمانات الأمنية" التي وقعوها عام 1994، وتضمنت تجريد أوكرانيا من الأسلحة النووية السوفييتية مقابل الضمانات الأمنية الأمريكية والروسية بالحفاظ على استقلالها واحترام سيادتها على أراضيها، لكن الاتفاقية لم تنجح في تقديم علاج فعَّال للتوترات مع روسيا، وتعذَّر تنفيذها منذ البداية.
إلى أين تسير الأمور في شبه الجزيرة الكورية؟
لهذه الأسباب، يؤيد كثير من الكوريين الجنوبيين سعي بلادهم إلى بناء قدرات الردع المستقل، ويناصر بعض المسؤولين البارزين، مثل الجنرال المتقاعد ليم هو يونغ والسياسي تشو كيونغ تاي، هذه الفكرة حالياً. ويأتي ذلك على الرغم من أن سياسة سيول الرسمية ما زالت تميل عموماً إلى تقديم واشنطن الأسلحة إلى كوريا الجنوبية، حتى وإن كان الوضع في شبه الجزيرة (تجاور الكوريتين وقدرات كوريا الشمالية على استهداف الأراضي الأمريكية) ينتقص من استعداد أي إدارة أمريكية لاستخدامها.
تعارض الولايات المتحدة بإجماع شبه كامل حيازة كوريا الجنوبية للقنبلة النووية. وأحد الأسباب العلنية لذلك هو التعهدات الأمريكية بالحدِّ من انتشار الأسلحة النووية، إلا أن هناك سبباً آخر لا يُذكر في العادة، وهو رغبة الولايات المتحدة في الحفاظ على هيمنتها في آسيا باستمرار احتكارها للأسلحة النووية بين أصدقائها هناك.
مع ذلك، لفت خبراء إلى معضلة سياسية قد تُغير بعض الآراء الأمريكية الرافضة لتسليح كوريا الجنوبية نووياً. فقد أشار مايكل أوسلين، الخبير بمعهد هوفر، إلى أنه "بينما يظن بعض المراقبين أن كيم جونغ أون سيُبادر بشنِّ الضربة النووية دون أسباب، فإن معظم خبراء كوريا الجنوبية المخضرمين يجزمون بأنه لن يستخدم ترسانته النووية إلا إذا اتضح له أنه على وشك خسارة الحرب بعد اشتعالها. وفي ظل تفاقم هذا الخطر، فإن الولايات المتحدة سيصعب عليها ألا تراجع تعهدات تحالفها القائم منذ عقود مع كوريا الجنوبية. ما يعني أن واشنطن تلجأ إلى تضخيم الخطر المحدق بالمدنيين الأمريكيين، لأنها تريد الوفاء بوعود مساعدتها لكوريا الجنوبية".
من جهة أخرى، قدم ستيف شابوت، النائب بالكونغرس عن ولاية أوهايو، اقتراحاً جديراً بالنظر فيه، وهو أن "تبدأ واشنطن في محادثات مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية بشأن مساعدتهم في بناء برامج أسلحة نووية لأنفسهم"، وصرح بأنه يأمل ألا تضطر الولايات المتحدة إلى المضي قدماً في هذا الطريق، وإنما الغرض من وراء "التحدث مع [الكوريين الجنوبيين] هو جذب انتباه [الصين]، ودفعها إلى العمل لكبح جماح النشاط النووي لكوريا الشمالية".
على الرغم من وجاهة هذا الاقتراح في أول وهلة، فإن بعض الخبراء ينقضه بناء على أن بيونغ يانغ قد حازت ترسانة نووية كبيرة بالفعل، ولا شك في أن الوقت المناسب لمنع كوريا الشمالية عن حيازة الأسلحة النووية قد ولَّى.
علاوة على ذلك، فإن الصين أكثر اهتماماً الآن بتأمين الاستقرار على حدودها مما كانت عليه من قبل، وهي أبعد ما تكون عن الاستعداد لتقديم خدمات للولايات المتحدة، لا سيما أن واشنطن بدأت التحرك لاحتوائها اقتصادياً وعسكرياً.
إضافة إلى ذلك، سيدفع هذا الاقتراح إلى توجيه أسئلة مُلحَّة: هل تتسامح الولايات المتحدة مع حيازة حلفائها للأسلحة النووية؟ وإن لم تسمح، فماذا ستفعل إذا قررت كوريا الجنوبية المضي قدماً في الأمر دون موافقة واشنطن؟
ويستدعي بعضهم أن الولايات المتحدة لم تعاقب إسرائيل، وتخلت عن معاقبة الهند وباكستان، وفشلت في كبح كوريا الشمالية، فهل هي قادرة على إيقاف سيول، وربما طوكيو؟ وهل الولايات المتحدة مستعدة لدفع ثمن إنهاء تحالفاتها أو فرض عقوبات على أصدقائها في وقت تسعى فيه إلى احتواء الصين؟
الخلاصة هنا هي أن الولايات المتحدة تمسكت زمناً طويلاً بمنع حلفائها في آسيا من حيازة الأسلحة النووية، وفرضت ضغوطاً مكثفة على كوريا الجنوبية وتايوان لعدم الشروع في بناء برامجهم النووية، لكن الأمور من المرجح أن تتغير بعد أن أصبحت كوريا الشمالية قوة نووية كبيرة، وبعد أن تزايد الاحتمال بأن يدفع الشعب الأمريكي ثمن الردع الممتد في آسيا. ومن ثَم، فإن صناع السياسة الأمريكيين ربما يفكرون الآن فيما كان يتعذر عليهم تصوره من قبل: السماح بحيازة كوريا الجنوبية للقنبلة النووية.